هذا السؤال أجاب عنه الصوفي الزاهد “بشر بن الحارث” المعروف بالحافي، والمتوفي سنة 227 هـ، أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري. والجواب هنا موجه لأغنياء المسلمين المدمنين على تكرار الحج والعمرة، غير مبالين بأولويات الإسلام” فقه الأولويات/ مراتب الأعمال” إما جهلاً، أو تجاهلاً.
فكما هو معلوم أن تكاليف الإسلام ليست على مستوى واحد، فالأعمال لها مراتب، وقد بين ذلك النبي عليه السلام في الحديث المتفق عليه: “الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”، ومن أقوال العلماء:” إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، ومن شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور”، فالمسلم الذي يكرر الحج بعد أداء الفريضة، ويشغله هذا النفل على أعمال أخرى فضلها أكبر ونفعها أعم فهو مغرور حسب وصف العلماء؛ فإطعام الجائع، ومداواة المريض، وإيواء المشرد، وكفالة اليتيم، وقضاء حوائج الأرامل، وبناء المدارس والمستشفيات والمساجد أفضل عند الله عز وجل وأنفع للأمة الإسلامية من تكرار الحج والعمرة مرات ومرات إذا كان القصد ابتغاء وجه الله تعالى حقا. وهذا ما أشار إليه بشر الحافي في كلامه الذي نقله الإمام الغزالي في الإحياء يقول:
“إن رجلاً جاء يودعه قائلاً: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم. قال بشر: فأي شئ تبتغي بحجك تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله. قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟ قال: نعم. قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدًا فافعل؛ فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام. قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي. فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين”. (إحياء علوم الدين للغزالي 3/409)