ينطلق الدكتور والفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري في مقاربته وتفاعله مع ما تنتجه مختلف التجارب الحضارية الإنسانية، من أن لكل تجربة اصطلاحاتها، والاصطلاح في العلم أو التجربة -بالنسبة له- هو اتفاق جماعة من المتخصصين في مجال واحد على مدلول الكلمة أو الرقم أو المفهوم، وذلك يتم عادة نتيجة تراكم معرفي وحضاري وممارسات فكرية، تتم في إطار معين لمدة من الزمن ثم يتم بعد ذلك محاولة تقنين هذه المعرفة.
ومن هذا المنطلق، يرفض المسيري مجموعة من المصطلحات الغربية التي يتم نقلها عن الغرب دون مجهود فكري أو اجتهاد، لأنه يعتبرها مصطلحات نتجت عن تجربة حضارية خاصة بسياق خاص، ودعا -بدلاً من ذلك- للنظر إلى أي ظاهرة في سياقها من أجل توليد المصطلح الخاص بها من داخل معجم التجربة الحضارية الغربية، وبالتالي تكون التسمية، من وجهة نظرنا الخصوصية لا عن طريق استيرادها بدعوى العمومية.
من هذا الباب أسس المسيري لمجال تداولي جديد يعنى بدراسة الظواهر الإنسانية أسماه “التحيز”، وعمل على بلورته باعتباره رؤية اجتهادية لمحاولة سبر أغوار الخصوصية والكونية في عصر العولمة الذي نعيشه. وقد اختار المسيري مصطلح “التحيز”، ليطلقه على مجال جديد لدراسة الظاهرة الإنسانية من صميم المعطى الإنساني المرتبط بإنسانية الإنسان، باعتباره كائنًا متحيزًا بطبعه.
إن بعض المنتجات الحضارية -التي قد تبدو بريئة تمامًا ومجرد تسلية مؤقتة- تؤثر في وجداننا وتُعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم
أطلق المسيري على هذا التخصص الجديد، الذي يركز على دراسة وتحليل عناصر التحيز في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكشْف وخصوصيات التحيزات الحضارية الكامنة في مناهجها المستخدمة في العلوم الغربية، اسم “فقه التحيز”. وقد اعترف منذ البداية في تقديمه للموسوعة البحثية التي أشرف عليها في إطار أعمال المعهد العالمي للفكر الإسلامي -المسماة إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد- بأنه متحيز منذ البداية إلى رصيده الثقافي العربي وما يكمن فيه من معارف ومناهج.
يقول: “..تساءلت لماذا لا نضع أسس علم جديد له آلياته ومناهجه ومرجعيته، يتعامل مع قضية التحيز هذه ويفتح باب الاجتهاد في خصوصيتها؟ فالجميع له نفس الإحساس بأن هوية الأمة -سواء كانت قومية أو دينية- مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الآخر دون إدراك عميق -أحيانًا- للتضمينات المعرفية لهذه المناهج”.
ويضيف المسيري: “لقد استخدمنا كلمة “فقه” بدلاً من علم؛ لأن الكلمة الأولى تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، على عكس كلمة علم التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية”، وهذا عين ما يميز المعارف الغربية بالنسبة له.
إشكالية التحيز عند المسيري
لقد أراد المسيري أن يكون فقه التحيز، أداة لتحديد التحيزات الكامنة في المناهج والأدوات، التي يستوردها الباحثون العرب بكل أمانة من المجال التداولي الغربي، ذلك أنها -برأيه- أكثر التحيزات شيوعًا وخطورة؛ فالكثيرون يرون القيم الغربية على أنها قيم عالمية ويتبنونها دون إدراك لخصوصيتها الغربية، سواء كان استيرادهم وتبنيهم عن وعي أو عن غير وعي، ما يجعل الباحث يرتبط ارتباطًا جدليًّا بمجموعة من الأفكار، فيجد نفسه متحيزًا لبعض الظواهر والأفكار ويهمل أو يستبعد أخرى، مما يقع خارج نطاق الاستعارات والنماذج الكامنة.
أما عن قواعد فقه التحيز، فيذكر المسيري أن أولى قواعده أنه حتمي، ذلك أنه مرتبط ببنية العقل الإنساني ذاته، الذي لا يسجل تفاصيل الواقع كآلة صماء دون اختبار أو إبداع، فهو فعال يدرك الواقع من خلال نموذج فيستبعد بعض التفاصيل، ويبقي بعضها الآخر، ويضخم بعض ما تبقى ويمنحه مركزية ويهمش الباقي. ثم أيضًا لكونه لصيقًا باللغة الإنسانية نفسها، فلا توجد لغة واحدة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، مما يعني أن اللغة الإنسانية ليست محايدة، مثل لغة الجبر والهندسة التي تصلح للتعبير عن عالم الأشياء المحايد، ولكنها تخفق تمامًا في الإفصاح عن أبسط العمليات الإنسانية. فاللغة الإنسانية أداة ثرية مرئية تحوي داخلها كثيرًا من الأسرار، وكل هذا يعني أن التحيز من صميم المعطى الإنساني، ومرتبط بإنسانية الإنسان، أي بوجود الإنسان ككائن غير طبيعي لا يرد إلى قوانين الطبيعة العامة.
أما ثاني قواعد فقه التحيز عند المسيري، فهي كونه حتميًّا وليس نهائيًّا، ذلك أن حتمية التحيز وارتباطه بالإنساني والثقافي، لا يؤدي بالضرورة إلى الاكتئاب والحزن، فهو ليس نقيصة أو عيبًا.. فيصبح من ذلك أن التحيز هو حتمية التفرد والاختيار الإنساني.. وهذه المفارقة -حسب المسيري- هي ما يمكن أن تشكل إطارًا لإنسانيتنا المشتركة المتنوعة والموجودة بقوة الفطرة، ولا يعني بالضرورة التناحر ونفي الآخر، ذلك أن إمكانية التواصل والتعارف متاحة دائمًا.
نقد الحداثة الغربية عند المسيري
ينطلق المسيري من الاعتقاد بأن العالم (إنسانًا وطبيعة) -بالنسبة له- يتسم بما يسميه “الثنائية الفضفاضة”، التي هي في الواقع تعبّر عن تحيزه الكامن المنطلق من كون الإنسان كائنًا مفارقًا للطبيعة، عكس ما تنطلق منه النماذج المعرفية الغربية؛ ذلك أنها تنطلق من كون الإنسان كائنًا طبيعيًّا. وهذه الثنائية الفضفاضة -بتعبير المسيري- تقابل مبدأ الواحدية (المبدأ الأساس في الفلسفة الغربية)؛ فالثنائية هي الإيمان بوجود أكثر من جوهر في هذا العالم، وهي أساسية في النظم التوحيدية، وهي قائمة على ثنائية الخالق “المنزه عن الإنسان والطبيعة والتاريخ”، والمخلوق. وهي فضفاضة تكاملية، حيث إن الله تعالى مفارق للعالم، إلا أنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه. وينتج عن ذلك ثنائيات تكاملية عدة من أهمها ثنائية الإنسان والطبيعة، التي تفرض انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته عليها واستحالة رده إليها وتفسيره في إطارها.. ذلك أن الإله خلق الإنسان وكرمه واستخلفه في الأرض.
وبالتالي يصبح وجود الله من وجود الإنسان، إذ الله تعالى هو الضامن الوحيد لوجود الإنسان بجزئيه الطبيعي وغير الطبيعي، فالله هو التركيب اللانهائي المفارق لحدود المعطى النهائي، وهو نقطة يتطلع إليها الإنسان ويحقق التجاوز من خلالها، ومن ثم بغيابه يتحول العالم إلى مادة طبيعية صمّاء، خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم فيها.
وانطلاقًا من هذا الموقف الثقافي المتحيز -ابتداء وانتهاء- ينطلق المسيري في نقده للحداثة الغربية، باعتبارها تنطلق من نموذج معرفي كامن يؤمن بالواحدية بدل الثنائية، التي تبني موقفها الوجودي من اعتبار الإنسان كائنًا طبيعيًّا (ماديًّا) يمكن تفسيره ماديًّا من خلال قوانين الطبيعة.
مأزق المادية وتحيزاته الثقافية في الحداثة الغربية
يتحدث المسيري في الفصل الرابع من كتابه “رحلتِي الفكرية”، عن اكتشافه أو تحوله من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان، فينطلق من فكرة تآكل النموذج المادي في وعيه، وينطلق من تحيزات الأخير المعرفية والثقافية. ثم ينطلق بعدها من فكرة الثنائية بدل أطروحة الواحدية المعتمدة في الفلسفة المادية، ذلك أنه خلال الأخيرة، ظهر تناقضه بين النموذج المادي المهيمن عليه ظاهريًّا من جهة وسلوكه الحر، وما يلاحظه في الواقع من جهة ثانية.
ويتحدث المسيري على أن ما ساعده على ترسيخ النموذج المركب في وعيه الباطن وفي وجدانه، هو الدراسة الأدبية، فيقول: “الأدب يكاد يكون التخصص الوحيد الذي لا يزال يتعامل مع الإنسان بوصفه إنسانًا، أي إنه مركب لا يمكن رده إلى عنصر أو عنصرين في الواقع، ولا يمكن تفسيره في ضوئهما”. ثم يسترسل في السياق نفسه وهو يتحدث عن تجربته المادية فيقول إن “هذا العالم يتناقض بين نموذج ظاهر مادي، ونموذج كامن يصل إلى الجوهر الإنساني المفارق لصيرورة المادة، وقصة أي تحول، ما هي إلا صراع خفي بين النموذجين”.
بتفصيل أكبر، يتحدث المسيري في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” بشكل أكثر دقة عن أصل الإشكالية، فيقول إن أصل النقاش يستبطن العودة إلى محاولة الإجابة عن جدلية الإنسان والطبيعة، أي محاولة الإجابة عن سؤال الوجود، حيث تعددت الإجابات إلى إجابتين تشكل كل واحدة منها مدرسة قائمة الذات. المدرسة الأولى هي مدرسة الحلولية، والمدرسة الثانية هي مدرسة التوحيد بتعبير علي عزت بيغوفيتش.
تنطلق المدرسة الأولى من فرضية أن الإجابة عن سؤال الوجود كامن في الطبيعة وحالٌّ فيها، أي إن الله تعالى حلّ في الطبيعة فصار كل ما فيها يمثل سر الوجود بأكمله أي يمثل الله سبحانه وتعالى، وبالتالي أصبحت الطبيعة غاية في حد ذاتها، بحيث إنه لا وجود لإله بلا طبيعة ولا وجود للطبيعة بلا إله (بالنسبة لمدرسة الحلول الكموني الروحي).
أما المدرسة الثانية (مدرسة التوحيد) فتنطلق من الاعتقاد بأن السر الإلهي غير متماهٍ مع الطبيعة، فالله سابق على وجود الطبيعة، وهو لم يحلّ في عالم الشهادة بل بقي متواريًا في الغيب، ومنه تصبح الطبيعة أحوج إلى الله ولكن الله ليس في حاجة إليها؛ إذ إن سره قائم في ذاته الغيبية لا بما أوجد في عالم الشهادة. ومن هنا كانت إضافة هذه المدرسة في جدلية الطبيعة والإنسان، هو البعد الغيبي، حيث صارت الجدلية جدلية غيب وإنسان وطبيعة، بدل جدلية طبيعة وإنسان. فلا سبيل لمعرفة السر والإجابة عن سؤال الوجود، إلا من خلال الاعتماد على مكوِّن الغيب، فصار وجود هذا المكوِّن أو غيابه في حياة الإنسان، ذا أثر مصيري محيط بكل عالم الأخير. فمثلاً، حينما نتحدث عن الأعياد عند المدرسة الأخيرة، نجدها مرتبطة بغاية متجاوزة لعالم الشهادة ومرتبطة بعالم الغيب، ومن هنا نجد مركزية الغائية عند المدرسة التوحيدية. وهذا عكس ما نجده في المدرسة الحلولية.
وهذه الأخيرة فيها اتجاهان كما يعبر عن ذلك المسيري، اتجاه الحلولية الكمونية الروحية واتجاه الحلولية الكمونية المادية؛ في الأول يسمى المبدأ الواحد فيها بـ”الإله” ولكنه يحل في مخلوقاته ويمتزج، ثم يتوحد معها ويذوب فيها تمامًا، بحيث لا يصير له وجود دونها ولا يصير لها وجود دونه، أي إنه لا يبقى من الإله سوى الاسم والصفة، فهو متحد تمامًا بالطبيعة المادية. لكل هذا، يمكن الحديث بلغة روحية عن عالم المادة، ولغة مادية عن عالم الروح، فهذا عالم ذو بعد واحد لا يتسم بأي ثنائية كما يقول “سبينوزا” ومن بعده “هيجل”. ويصبح في هذه الحالة بإمكان الإنسان -إذا مارس تجربة جسدية ممتعة- بأن يصفها بأنها تجربة روحية. أما الحلولية الكمونية المادية (وحدة الوجود المادية) فيعبر عنها المسيري بأنه لا يتم الاستغناء فيها تمامًا عن اسم “الله” وعن أي لغة روحية أو مثالية، ويسمى المبدأ الواحد فيها بقوانين الطبيعة أو القوانين العلمية أو قانون حركة التاريخ أو الحتمية التاريخية.. وتصفى الثنائية في هذه الحالة وتسود الواحدية المادية، فكل الأشياء مادية وبالتالي متساوية.
الإمبريالية النفسية في الحداثة الغربية
“كانت إحدى الصور النمطية الشائعة في عقولنا والنموذج التفسيري الكامن فيه، أن الجنس طاقة مادية، إنْ فرغت بطريقة عادية طبيعية سوية؛ فإن الفرد يصبح عاديًّا طبيعيًّا وسويًّا، أما إن كبتت فإنها تصبح قوة مدمِّرة. وهي معادلة بسيطة ومعقولة لأول وهلة على الأقل، ولذا كان من المفهوم أنْ ينشغل الشرقيون بالجنس، فهم مكبوتون وهو ما أدى إلى تشوههم النفسي الكامل، وهذا عكس الغرب تمامًا، لأنهم يتصرفون بشكل طبيعي، ذلك أنهم يسربون الطاقة الجنسية بطريقة عقلانية بلا قمع ولا كبت”.
ثم يتساءل عن كيف يمكن أن ننظر إلى هذا الهوس الجنسي بحسبانه تعبيرًا طبيعيًّا عن رغبة جنسية طبيعية؟ فيقول مجيبًا عن هذا التساؤل، بأن عدم اكتراث الغربيين بمسألة الجنس وتعبيراتها بشكل فاضح، كان نتيجته اختزال الإنسان وداوفعه، ولهذا لم يدرك كثير منهم أن الجنس مسألة إنسانية مركبة خاصة وفردية، وأنها مرتبطة برؤية الإنسان للكون وهويته الفردية.
الأدب يكاد يكون التخصص الوحيد الذي لا يزال يتعامل مع الإنسان بوصفه إنسانًا، أي إنه مركب لا يمكن رده إلى عنصر أو عنصرين في الواقع، ولا يمكن تفسيره في ضوئهما.
وبالتالي تظهر لنا علاقة بين بحث الإنسان عن المطلق ورغبته في التجاوز والنزعة الطوبوية من جهة، وتصاعد رغبته الجنسية من جهة ثانية، فكلما ضمرت النزعة الطوبوية وتوارت المقدرة على التجاوز، زاد السعار الجنسي كمحاولة لتعويض الإنسان عن اختفاء عالم الأحلام، بحسبان أن عالم الجنس هو البديل المادي والمباشر عن المدينة الفاضلة. ولعل هذا البحث عن اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية، هو الذي يفسر لنا انتشار الشذوذ الجنسي، وهو النتيجة المنطقية والترجمة الوحيدة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي.
وعندما يتحدث عبد الوهاب المسيري عن المنتج الحضاري ومدى تأثيره على النفس والوجدان يقول: “إن بعض المنتجات الحضارية -التي قد تبدو بريئة تمامًا ومجرد تسلية مؤقتة- تؤثر في وجداننا وتُعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ إن أولئك الذين يرتدون التِّيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكية، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كمًّا هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة.. يجدون أنفسهم يسلكون سلوكًا ذا توجُّه علماني شامل، ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة، دون أية دعاية صريحة أو واضحة.
ونظرًا لعدم إدراك البعض لأشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها، ولذا، يُخفق هذا البعض في تحديد مسـتويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يُصنَّف بلد باعتباره إسلاميًّا -مثلاً- لأن دستور هذا البلد هو الشريعة الإسلامية، مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلاميًّا، ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة”.
(*) كاتب وباحث مغربي.