قراءة في كتاب إشكاليات الفكر العربي المعاصر

“إشكاليات في الفكر العربي المعاصر” مؤلف للدكتور محمد عابد الجابري، جاء ضمن إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، وطبع الطبعة الأولى سنة 1989، والطبعة قيد القراءة هي السابعة كانت سنة 2016، وهو عبارة عن محاضرات ودراسات أنجزت في مناسبات مختلفة وعلى فترات متباعدة أراد منها صاحبها -وكما صرح في مقدمته- نقد الصورة الذهنية المشوشة: صورة الواقع العربي في الفكر العربي، ونزع طابعه الإشكالي ليصير مشاكل منتظمة غير مشوشة عبر التحليل العقلاني النقدي.

الأصالة والمعاصرة .. إشكالية ثقافية مفروضة 

رغم أنه يرى نظرية الصراع الطبقي كأحد أهم العوامل المحركة للتاريخ، حاول الجابري أن يبين أن إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر لا تعكس بالضرورة وضعًا طبقيًّا ولا تعبر بالضرورة عن مصالح طبقية، وكونها كذلك آت من تمتع الفكر باستقلال نسبي عن الواقع، وذلك من ناحيتين :

  • الفكر في الغالب لا يعكس الواقع كما هو ، لذلك يجب أن يكون الربط بينهما بعد تحليل للواقع وتحليل الوعي به في أذهان العامة لاستخلاص صورته العالمة أي المؤسسة للوعي الطبقي الصحيح.
  • الفكر مستويات تتفاوت في استقلالها النسبي عن الواقع؛ فإذا كان الفكر السياسي والاجتماعي أكثر الأنواع اتصالا، فالمذهب الفكري العقدي أو الاشكاليات النظرية هي الأكثر استقلالا، وإشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر من نوع الإشكالات النظرية التي لا تقبل الحل إلا بتجاوزها.

وتحريا للوضوح المنهجي في تبيان العلاقة فكر/ واقع يلزم الفصل بين ما هو سياسي وما هو إيديولوجي وما هو نظري في ساحة المواقف تجاه الزوج نموذج/ سلف؛ فثنائية أصالة /معاصرة هي اشكالية نظرية، وثنائية ليبرالية/ اشتراكية هي خيار إيديولوجي يعبر عن المصالح الاجتماعية الطبقية، والقطرية / القومية ضمن ميدان القرار السياسي حيث تطرح قضية الدولة في الوطن العربي.

والأصالة والمعاصرة -كإشكالية نظرية- تقع خارج الاختيار، خارج الإرادة الحرة، بعد أن فرض الغرب نفسه كنموذج عالمي منذ عهد التوسع الاستعماري وتعرض الدول المستعمرة إلى عملية تحديث جاهزة من الخارج غرست غرسا إن بالإغراء أو بالقوة، كما أن الإنسان لا يختار إرثه … غير أن الإشكال الذي نعانيه ليس الاختيار بين النموذجين وإنما مشكل ازدواجية مواقفنا تجاه الازدواجية التي تطبع حياتنا المادية والفكرية؛ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع ندعم القطاعين الحديث والتقليدي، وفيما هو فكري وروحي نرفض هذا الجمع وكل واحد يأخذ موقفا مغايرا…!

إن هذا يرتبط بشكل مباشر بالسؤال النهضوي: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ؟ وكيف السبيل للحاق؟ وهو سؤال إيديولوجي وليس علميا أتى بعد أن شق التغيير طريقه، فالوعي بالنهضة كان عقب انطلاقها لذلك فهذا السؤال شكل من أشكال التعبير عن الوعي. ويمكن القول أنه سؤال جواب.

ولأن الإجابة عن هذا السؤال تتعلق -كخطوة الأولى- بكيفية التعامل نهضويا مع التراث أثار هذه النقطة بضرب المثل بمعطيات النهضات المعروفة: “النهضة العربية الأولى، النهضة الأوربية “، فكلتاهما قد عبرتا إيديولوجيا عن بداية انطلاقهما بالدعوة إلى الانتظام في التراث، العودة إلى “الأصول” لا بوصفها كانت أساس نهضة يجب بعثه وإنما لأجل الارتكاز عليه في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب والقفز إلى المستقبل. وهذه بالنسبة له حقيقة تاريخية يكون فيها الحاضر مدانا أمام الماضي والمستقبل، يكون فيها بين قوتي دفع متعاكستين: قوة التجديد وقوة التقليد من أجل خلق الحاضر واستشراف المستقبل..، لكن بالنسبة للنهضة العربية الحديثة والمعاصرة لم تسر الأمور على هذا النحو: فلازالت القوى تتجاذب وتتنافر دونما  خلق أو تغيير إيجابي.

لماذا؟

الإجابة تتحدد عند المؤلف على صعيدين :

– على صعيد الإيديولوجي نجد عاملاً رئيسا: تحريك النهضة كان من خارج الذات، كان وليد صدمة خارجية، كان بفعل حضور “الآخر”، وحضوره في المواقف العربية كان ذا طبيعة مزدوجة : عدو/ نموذج، مما جعل موقف النهضة من الماضي والمستقبل مزدوجا أيضًا، فالتبس وتداخل فيها ميكانيزم النهضة الذي قوامه الرجوع إلى الأصول للانطلاق منها إلى المستقبل، مع ميكانيزم الدفاع الذي قوامه  الاحتماء بالماضي مما جعل قضية النهضة للفكر العربي تتخذ وضعا إشكاليا متوترا اعتدنا التعبير عنه بإشكالية “الأصالة والعاصرة”.

ــ على صعيد الواقع التاريخي السياسي نجد أن الركيزة لم تعد الأصول التراثية وحدها وإنما فرض الغرب نفسه كأصل من نوع جديد ينتمي إلى المستقبل وليس إلى الماضي، مما جعل القوى النهضوية منقسمة على نفسها بين من يجعل الغرب العدو الأول وبالتالي ضرورة تطوير الدولة العثمانية و تقوية الخلافة الإسلامية وبين من يرى العكس.

وهكذا وجد الصراع من أجل الخيارات على الصعيدين السياسي والأيديولوجي وتحالف القوى المتضادة إلى اليوم.

لكن ما العمل؟

هنا يقدم الدكتور محمد عابد الجابري مجموعة ملاحظات كلها تصب في ضرورة الاتفاف على الثقافة القومية وإذابة الخصوصيات المحلية في بوثقتها، على اعتبار أن هذه العملية قد تمت بالفعل في عصر التدوين الأول، ثم تدشين عصر تدوين جديد، وإعادة كتابة تاريخنا بمنهج النقد متجاوزين ما وسمه من تجزئة و اختلاف وفصل بين علومه وفنونه، والوعي بأن حضور الثقافة العربية في التاريخ الثقافي العالمي “الأوروبي” هو حضور المؤسس وليس مجرد حضور الوسيط المؤقت. والأخذ من ثقافة الآخر الغربي مبادئه وأسسه واستنباتها في التربة المحلية بعد إصلاحها.

الإبداع…تلك أزمة مزدوجة

ولارتباطها بالفكر ابتدأ بتحديد الطبيعة المزدوجة للفكر فهو كأداة بنية عقلية، وكمحتوى بنية أيديولوجية، وأزمة الإبداع ، أو الافتقاد “للجدة والأصالة”، أو الاكتشاف والقابلية للتحقق، يعاني منها الجانبان معا.

كيف؟

إن الذات العربية كفكر عربي ووعي يؤسس هذا الفكر تفتقر إلى الاستقلال التاريخي، وافتقار هذا الفكر إلى الاستقلال التاريخي معناه أنك لا تستطيع التفكير في موضوعه إلا من خلال ما ينقله عن “الآخر” الماضي أو “الآخر” الغرب، أما افتقار الوعي الذي يؤسسه إلى الاستقلال التاريخي فمعناه أنه وعي مستلب مزيف، لا يضع حلمه موضع القابل للتحقيق، ولا يشيده من خلال الشروط التي ترجح تحقيقه. وأول خطوة نحو الإبداع هي ضرورة تحقيق هذا الاستقلال للذات العربية بالتحرر من سلطة النموذج/ السلف وآليات التفكير التي يكرسها وتكرسه: أليات المقايسة… ونقد الفكر العربي كمحتوى وكأداة.

نقده كأداة أي كعقل، والعقل كمكوِّن ومكوَّن، هنا انطلق من النظم المعرفية الثلاث في تاريخ الثقافة العربية: البياني والعرفاني والبرهاني، وهي نظم متمايزة ومتصادمة انتهى تصادمها بانتصار ما هو عرفاني على حساب هو بياني وبرهاني، لا كنظام معرفي مؤسس لإيديولوجيا سياسية أو دينية معينة، بل كبديل لكل نظام معرفي آخر ولكل ايديولوجيا تريد تبرير سياسة ما أو تكريسها. هذا الانتصار كان إعلانًا عن استقالة العقل العربي في عصر الانحطاط. ونقده كثقافة، تلك التي ارتبطت منذ بداية تشكلها بالسياسة، فكانت السياسة فيها هي المحرك لا العلم، مما جعلها تخضع باستمرار للتقلباتها.

التقدم تحقيقًا للوحدة.. والوحدة لأجل التقدم

التقدم رهين المستوى الفكري والتعليمي لأي أمة، وما لدينا حقيقة كمعطى في الساحة العربية هو نظام تعليمي يعمق الانفصام بين المجتمع والفكر بسبب ارتفاع نسبة الأمية، وازدواجية ثقافية وانفصاما في الشخصية الفكرية بسبب البرامج والمناهج المعتمدة،  إلى جانب تقلص تعليم اللغات الأجنبية المواكبة لتقدم العلم، وما يروج من بضاعة ثقافية تراثية أو غربية منقضية..، كل هذا لا يبشر بمشروع مستقبلي.

ومستقبل الفكر العربي لا يتحدد بهذا وحده وإنما يتحدد أيضا بظاهرة الغزو الثقافي الإعلامي العالمي الذي هو بعيد كل البعد عن التداخل العادي الذي يحدث بفعل الجوار والهجرة والحروب، بل هو غزو مقصود ممنهج  متعدد الأبعاد، مما يزيد معه تجذر الازدواجية في ثقافتنا وسلوكنا بشكل يهدد كياننا كأمة.

ولأن التقدم مشروط أيضا بالوحدة، وجب تحديد هذا المفهوم بوضعه في سياقه التاريخي؛ فقبل سقوط الدولة العثمانية كان “المشرق العربي”  و”المغرب العربي” يختلفان في تحديد “الآخر” الذي يتحدد به مفهوم “وحدة الأمة” هل الأتراك أم المستعمر؟ لكن بعد سقوطها كان هذا “الآخر” محددًا بالمستعمر، لكن وبسبب تعدد هذا الآخر صارت الوحدة شعارًا خادمًا للدولة القطرية وأصبحت كفكرة تعني أولا وقبل كل شيء وحدة النضال ضد الاستعمار والتفكير في الوحدة العربية مشروعًا مؤجلاً خاصة بعد انهيار الوحدة المصرية السورية في بداية الستينات، وهكذا صار “الآخر” الذي تتحدد به الوحدة هو الدولة القطرية العربية ، رغم أن الخطاب العربي لا يعترف بذلك مباشرة وأحل محل “الدولة القطرية” مفهوم ضبابي هو “التجزئة”.

والاشكال الذي يطرحه هذا المفهوم ؛”التجزئة”، هو كونه يحيل فقط على مظهر واحد؛ “الحدود”، في حين أن المسألة أعمق من ذلك؛ فما يشكل النفي الواقعي لـ”الوحدة العربية” هو “الدولة القطرية” لا بوصفها رقعة جغرافية ذات حدود بل بوصفها مؤسسة قانونية قائمة  على أساس “ما”، وكيانًا اقتصاديًّا وسياسيًّا تابعًا لأحد مراكز الهيمنة الأوروبية، وواقعًا اجتماعيًّا ذا خصائص مميزة..، لذا يجب تسمية الأمور بمسمياتها. وطرح قضية “الدولة” في الوطن العربي: كيف تشكلت؟ وكيف تعيد تشكيل نفسها؟ وما مقوماتها؟ وكيف تحافظ على وجودها؟ لأنه من دون نظرية في الدولة العربية الواقعية الفعلية، لا يمكن وضع نظرية علمية في الوحدة العربية.

وتحقق هذه الوحدة يجب أن يتم على مستويين: وحدة على صعيد البنى المادية موازاة مع وحدة على صعيد البنى الفكرية والنفسية والوجدانية. وإن كانت أوروبا المعاصرة توازنها مشروط بعمليتين مختلفتي الاتجاه : الوحدة على الصعيد الاقتصادي والاختلاف على الصعيد الثقافي ، فهذا لا ينطبق على الوحدة العربية لأن ما يوحد بين دولها هو ما هو ثقافي لا المصلحة الاقتصادية. وما هو ثقافي يحتضن ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو اجتماعي. لكن في طريق إعادة النظر في مضمون هذين الهدفين وترتيب العلاقة بينهما  يجب الأخذ بعين الاعتبار ثلاث حقائق تفرض نفسها :

  • أن القطرية أمر واقع .
  •  الدول القطرية العربية عبء على نفسها .
  •  ثقافة الدول القطرية العربية هي ثقافة لا قطرية أساسا.

وعليه يمكن تجاوز هذا التعارض بتغليب مطلب الوحدة “الممكنة” بحكم الوظيفة التاريخية للثقافة العربية.

النهضة أسباب الفشل.. ورؤية في الأفق 

تبدأ  أي نهضة  أولا بتحديد الإجابة عن سؤال الهوية: من نكون ؟ وماذا نريد أن نكون؟ لكن المفارقة أن الإجابات التي قدمت في الساحة العربية لم تسمح بالمضي إلى الخطوات التالية نظرا للتعقيد الذي اتسمت به بعد بروزها كثنائيات معبرة عن إيديولوجيات مطلقة كابتة لمعطيات اجتماعية وفكرية خاصة مع غياب الترتيب في العلاقة بين طرفي كل زوج، ونذكر منها : العروبة / الإسلام، الدين/ الدولة، الأصالة / المعاصرة، الوحدة / التجزئة.

والدكتور الجابري من موقعه كمغاربي عربي وجد أن أغلب هذه الثنائيات هي مشاكل محلية تهم قطر من أقطار العالم العربي ومدفوعة على نحو من طرف الجهات المستعمرة، تم تعميمها، لذلك عمد إلى النظر في بعضها وتحديد ظهورها زمانا ومكانا وبشكل واقعي،  محاولا ما أمكن إزالة طابع التعميم عن بعضها والاختزال عن البعض الآخر، على أساس أن النقد العقلاني العلمي للمفاهيم النهضوية خطوة أساسية نحو تحقيق مشروع تاريخي جديد.

إن تلك الثنائيات كانت أيضا إجابات عن السؤالين المقلقين: سؤال الوعي بتفوق “الآخر ” الذي طرح في القرن التاسع عشر: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وسؤال الوعي بفشل “الأنا” في اللحاق ب”الآخر” الذي طرح في أوائل سبعينيات القرن العشرين : لماذا فشلت النهضة،  وكيف السبيل للحاق بالغرب؟

هذا السؤال الأخير، وجد الجابري أن الفشل العسكري الذي منيت به الدول العربية عام 67 كافية للإجابة عن شقه الأول، بينما شقه الثاني أفرز نزعتين مختلفتين:

  • نزعة تحاكم مسار النهضة وتجاربها الفاشلة.
  • نزعة مشغولة بالهوة التقانية الفاصلة بين العرب والغرب والتفكير فيما من شأنه أن يخرج التنمية التقانية من “عنق الزجاجة” على حد تعبير المؤلف.

إن هذا الخروج يلزمه أمران: قيام وحدة عربية حقيقية، وقيام ثورة ثقافية تمحى بها الأمية ويفشى بها العلم ويخرج بها من طور الزراعة والاستهلاك الصناعي الذي طال المكوث فيه، وذلك حتى يتم التهيؤ لمشروع حضاري حقيقي، هذا يذكر بتلك الأهداف الرئيسة التي كانت محركا في التجربة التاريخية العربية الإسلامية : الوحدة، والتمدن، والعقلنة، والتي هي ذات الأهداف المحققة لمستقبل الحاضر ودونها يكون العرب خارج التاريخ ملتحقين بالـ”لا تاريخ”.

فلا يجب التفكير في الحاضر بمعزل عن الماضي بما أنهما مرتبطان في الوعي العربي والواقع، حاضران معًا في تفكيرنا، والنقد يلزم أو يتوجه إليهما معا للخروج من محددات العقل السياسي القائم على: القبيلة، الغنيمة، “العقيدة” كإيديولوجيا. فتتحول القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي حديث، والغنيمة إلى ضريبة، والاقتصاد الاستهلاكي إلى إنتاجي، وتحويل العقيدة إلى رأي في اتجاه التحرر من عقل الطائفة.

وأما النظرة للغرب -الذي هو فارض نفسه بلا شك- فليس  بالضرورة كأصل نقيس به حاضرنا ومستقبلنا وإنما اعتباره وسيلة لاكتشاف الذات، وهذا الاكتشاف يتم بالوعي بهذا “الآخر”، بخطابه، بما يحاول الترويج له، الوعي بغزوه الأيديولوجي وتقانته وسعيه لتنميط الأذواق وتكييف القيم.

وجهة نظر

يدخل الكتاب ضمن المشروع القومي النقدي للذات العربية يروم من خلاله المفكر مساءلة الحاضر بمفاهيمه، بالماضي وأحداثه ليس لاستدعائه وإنما لجعله معاصرًا لنفسه والخروج من نطاقه عبر القفز على منطقه في عملية تجاوز تكتسب حيويتها من آليات العصر الحديثة، معالجًا تلك المسائل في إطارها العربي العام لا خوضها ضمن تجربة القطرية. والعصر الحديث لا يعني بالنسبة له استحضار ذات “الآخر” الغربي للتلبس بها، لا، وإنما التخلص من الثنائية نموذج / سلف لبناء واقع عربي عصري “أصيل” في ثقافته وأيديولوجيته وتصوراته ونظرياته، من خلال النظر إلى الماضي / التراث “كآخر” يوازي “الآخر” الغربي.

ولا شك هنا أن الكاتب يحاول أن يكون عقلانيا لا عاطفيا حالما، ونوع العقلانية التي طبعت نمط تفكيره ــ وتصوره للإشكاليات التي تعتور العقل العربي بنية وتكوينا، جعلت منهجه في نقد التراث يقوم على أسس خارجية لا داخلية، مما جر عليه انتقادات كثيرة . وفي الحقيقة إن رؤيته للتراث يلفها الغموض نوعا ما لا من ناحية التعريف ولا من ناحية علاقة هذا التراث بالحاضر: هل هي علاقة موصولة أو مقطوعة؟ وربما سبب الالتباس الذي قد يقع فيه القارئ مرده إلى معالجة الجابري للتراث من منظورين مختلفين، ثم عدم تحديده لطبيعة الأصول التي يجب الانطلاق منها من أجل التجاوز،  ويتضح ذلك من خلال تمثيله للنهضة الناجحة بمثالين متناقضين تماما لا من حيث الأسس ولا من حيث الغاية ولا من حيث الوسائل لا زمانا ولا مكانا، وهما النموذج العربي الإسلامي في نهضته الأولى، والنموذج الغربي الأوروبي.

لكن على أي، هو في هذه المحاضرات يركز على مسألة غياب النقد الذاتي، نقد العقلية العربية، بشكل علمي والارتماء في أحضان الإيديولوجيات المطلقة أو النسبية منذ بدايات ما يسمى ب”النهضة” إلى اليوم، ويعكس هذا نوعية الخطاب الذي ساد ويسود، وحالة الضعف المادي ، والتبعية للآخر. لقد استطاع الجابري ـ رحمه الله ـ  أن يحلل الفكر العربي من حيث آلياته العقلية ومن حيث محتواه ومضمونه، ويطرح تساؤلات قوية تمس مباشرة الواقع العربي إيديولوجيا ونظريا وسياسيا ، لكن دون أن يقدم إجابات عميقة بدرجة عمق تلك التساؤلات، ليظل بذلك رجل التساؤلات والنقد …رجل الفلسفة.