تعاني كثير من منابر الثقافة وساحات الحوار أزمة فكرية تعوق التواصل وتعمق الفجوات، ولعل الوقوف على أوجه هذه الأزمة وتشخيصها، يسهم إلى حد كبير في علاجها وتلافي مسبباتها ليحلّ التفاهم محلّ التدابر، ويحكَّم العقل والمنطق لا العصبية والانفعال، ولكي تسود مشاعر الود بدلاً عن التنابز والتنافر. ومن أبرز أوجه هذه الأزمة:
أولاً: غياب بعض أبعاد القضية مدار البحث والحوار حين النقاش والتحاور، والتركيز على قضايا أخرى عادةً ما تخرج بالحوار عن مساره الموضوعي، أو هي خارج إطار الموضوع أساسًا، بينما الأبعاد الغائبة أو المغيبة هي الألصق بالقضية المطروحة ولها الأولوية، وهي لب الموضوع وجوهر القضية، فيدور الحديث بطريقة تتسم بالتسطيح والاستهلاك، مما يثير التساؤل عن الأهداف غير المعلنة لذلك الحوار وتلك المناقشات، والأسوأ من ذلك سطوة الذرائعية من أحد طرفي الحوار أو من كليهما. إدارة الحوار والنقاش حول قضايا افتراضية ومستقبلية بطريقة سلبية، تُشغل عن الحاضر وأزماته ومشكلاته الحقيقية بالتنازع والخلاف على تأويل الموروث.
ثانيًا: الخلل في المنهجية من حيث طريقة التناول، كأن يقاس أنموذج بأنموذج آخر، أو واقع بواقع آخر دون الأخذ بعين الاعتبار الآتي:
• الموازنة بين المتشابهات، فلا يقاس أحسن ما في طرف بما هو الأسوأ في الطرف الآخر، بل يقاس ما في كل طرف بما يقابله في الطرف الآخر. وفي هذا الخصوص نبّه بعض العلماء المسلمين منذ زمن مبكر على منهجية المقارنات والمقايسات، ومتى تكون صوابًا ومتى تكون خطأ، كقول أبي الحسن العامري في كتابه القيم “الإعلام في مناقب الإسلام”: “إن تبيان فضيلة الشيء على الشيء بحسب المقابلات بينهما قد تكون صوابًا وقد تكون خطأ، وصورة الصواب معلقة بشيئين أحدهما ألا يوقع المقايسة إلا بين الأشكال المتجانسة، أعني ألا يعمد إلى أشرف ما في هذا فيقيسه بأرذل ما في صاحبه، ولا يعمد إلى أصل من أصول هذا فيقابله بفرع من فروع ذاك. والآخر ألا يعمد إلى خلَّة موصوفة في فرقة من الفرق غير مستفيضة في كافتها، فينسبها إلى جملة طبقاتها”.. ثم يعقب على ذلك بقوله: “ومتى حافظ العقل في المقابلة بين الأشياء على هذين المعنيين، فقد سهل عليه المأخذ في توفية حظوظ المتقابلات، وكان ملازمًا للصواب في أمره”؛ كثيرًا ما يقع الخطأ بسبب الافتئات على هذه المنهجية، فمثلاً حينما تقارن صورة مجتمع من الناحية الواقعية بمجتمع آخر في صورته المثالية -كمقارنة مبادئ الديمقراطية في الغرب ببعض الحقب التاريخية وتطبيقاتها المشوهة- نظر بعض أطراف الحوار للقضية من ناحية المبادئ والقيم، ونظر الطرف الآخر لها من حيث الواقع؛ مما يسبب الخلط في التصورات، وبالتالي يحدث الخلاف بينهما في الأحكام والمواقف فيحتدم الخلاف، وتحدث المغالطات ويتعصب كل طرف لرأيه وموقفه، في حين تقتضي المنهجية فكّ اللبس بين التاريخي الواقعي والمعياري المثالي، لئلا يصبح الحوار خلافًا مفرِّقًا، والمناقشة مناسبة للمدابرة.
• عَقْد مقارنات أو محاورات بين أطراف غير متكافئة، سواء من حيث اختلاف التخصصات وصلتها بطبيعة المناقشة، أو من حيث المهارة والقدرة على الحوار، فيظهر طرف بالقوة والبيان، ويظهر الطرف الآخر بالضعف والانهزام خلافًا لحقيقة الأمر.
• عدم رعاية الخصوصيات الذاتية والتاريخية -سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات- من حيث العقائد والعادات والتقاليد والأعراف التي يفترض النظر لها بإيجابية واحترام، والنظر إليها بمنظور الإثراء والتعددية والتنوع.
ثالثًا: الضعف في أخلاقيات الحوار، ومما يلحظه المتابع للزخم الإعلامي الحديث، الضعف المتزايد في أخلاقيات الحوار، ومن مظاهر ذلك:
أ- عدم إتاحة الفرصة الكافية لتوضيح فكرة المتحدث وشرحها بما يكفي، لفهمها كما يقصد.
بـ- إلزام المتحدث بمفهوم السامع لقوله دون تحري المطابقة بين قوله وفهم السامع أو أخذ موافقته على هذه المطابقة.
جـ- تحميل القول أو توجيهه لوجهة قد لا تكون المقصودة.
د- إعمال المعنى المرجوح على المعنى الراجح، بل الفهم المرجوح على الفهم الراجح في بعض الأحيان.
هـ- إساءة الظن والحكم على النوايا بما لا يتفق والأخلاقيات المعتبرة.
رابعًا: المواجهات المفتعلة ذات الطابع الذي يتسم بالآتي:
1- إدارة الحوار والنقاش في قضايا تاريخية طواها الزمن، ولا جدوى من بحثها وإظهارها إلا في المجالات المتخصصة، وفي سياقات أخرى بعيدة عن قضايا الحوار الحيوي المأمول.
2- إدارة الحوار والنقاش حول قضايا افتراضية ومستقبلية بطريقة سلبية تُشغل عن الحاضر وأزماته ومشكلاته الحقيقية، بالتنازع والخلاف على تأويل الموروث.
3- المواجهة بين جهلين، أعني جهل طرف بما يعرفه الطرف الآخر، كأن يجري الحوار حول قضية تقوم على ناحية تأصيلية وأخرى نقدية، فأحد المتحاورين ضليع في التأصيل، والآخر ضليع في النقد، لكنهما حين الحوار أهمل كل واحد منهما الجانب الآخر؛ لذلك احتدم النزاع وتمت المواجهة بين جهلين.. ولو أفاد كل طرف من علم الآخر وخبرته لتكامل النظر للقضية، وساد الود والاحترام بينهما.
أما المعالجات فيمكن أن تتم من خلال تقييم هذه الأوجه وتقويمها ووضعها في إطارها الصحيح، وإقامتها على الوجه اللائق بالحوار وأصوله وأخلاقياته، كذلك استحضار جميع الأبعاد في بحث أي قضية أو معالجة أي إشكالية، أو التخطيط للمستقبل بحيث تتحقق الموازنة والتكامل والعمق، وينتفي الاجتزاء والاختزال والسطحية، وأن يتم التخلص من الذرائعية مع العناية بالمنهجية المعتبرة وتحكيمها.
(*) كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية.