كأنني في حلم، لأن ما أراه أثناء تجوالي في مراكز الدعم المدرسي التي نفخ رجال “الخدمة” فيها الروح شيء يتجاوز معطيات الواقع. يخيل إليّ أن هؤلاء الناس لا يعيشون الواقع الذي نعيش فيه، أو ربما يعيشون في بعد آخر من الواقع يبدو لنا غير واقعي، لست أدري. معايير تقييم الأشياء والأحداث في هذا العالم تختلف تماما عن الواقع البراغماتي الذي نعيشه. الإنفاق على أبناء الآخرين بدون مقابل، المحبة، الرحمة، التكافل، التضحية… هذه معان غابت عن عالمنا منذ زمن بعيد، لكنها حاضرة بقوة في عالم هؤلاء. من منا يقف في الموقع الصحيح؟ نحن أم هم؟
ما أكثر الأفكار اليتيمة في عالمنا، لكن أين من يتبناها ويرعاها وينمّيها حتى تحقق دورها في الحياة؟
أفكار للتنفيذ
بينما كنت شاردا في هذه الأفكار وأنا أستمع إلى السيد كريم، ذلك التاجر السخي العظيم، انتبهت إلى صوت المدير الشاب يقول لنا: “ما رأيكم أن نأخذ جولة في مؤسستنا حتى تروا النشاط عن كثب”، فرحبنا بالاقتراح. أريد أن أعرف فكرة مراكز الدعم عن قرب، أريد أن أعرف الأفكار المولّدة لهذه المؤسسات والأفكار التي تحركها، ثم كيف تم تنزيل تلك الأفكار على أرض الواقع. فما أكثر الأفكار اليتيمة في عالمنا، لكن أين من يتبناها ويرعاها وينمّيها حتى تحقق دورها في الحياة؟
ما إن خرجنا من حجرة المدير واتجهنا ناحية اليسار حتى استقبلتنا حجرة واسعة بعض الشيء اصطفت عبر جدرانها الأربع مكتبة ممتلئة بألوان شتى من الكتب الأنيقة، وقد احتلت خمس طاولات جميلة مواقع مختلفة تحيط كلَّ واحدة منها أربعةُ كراسي، وفي الزاوية المقابلة ثلاث أرائك أخرى جميلة. هذه هي المكتبة، لمسة فنية في تصميم المكان واضحة، ترتيب الأشياء وتناغم الألوان لا يخفى على الناظر، مع بعض الصور المعلقة على الجدار والتي تحتوي على عبارات تشجع رواد المكتبة على القراءة. النور يملأ الغرفة، الهدوء والبساطة سمتان بارزتان هنا. قال المدير:
غذاء العقول
“تحتوي المكتبة على خمسة آلاف كتاب، نريد لرواد هذا المركز أن يقيموا صداقة بينهم وبين الكتاب”. بدأت أتصفح المكتبة فوجدت فيها روايات من الأدب التركي وروايات من الأدب الغربي ومؤلفات من الأدبيات الشرقية إلى جانب مراجع علمية أخرى يحتاجها التلاميذ في مذاكراتهم. وهناك جناح خاص بالكتب الإنكليزية كذلك. قال المدير: “نريد لأبنائنا أن يطوروا لغتهم الأجنبية، فالعالم أصبح قريبة صغيرة، ولا غنى من تعلم لغة ثانية لفهم العالم وإفهامه ما نريد”.
لفت نظري جناح خاص في المكتبة يحتوي على مجلات وكتب حول المقررات الدراسية. انتبه المدير الأريب إلى فضولي فأسرع يقول: İهذه مجلات تتضمن وحدات عن جميع المقررات التي يدرسها الأولاد في المدارس من رياضيات إلى علوم إلى أدب إلى سائر المقررات، كما تتضمن اختبارات تجريبية عن كل وحدة من هذه الوحدات. مجلة “ذروة” هي رقم واحد في هذا المجال بتركيا، توزع أكثر من مليون ونصف نسخة شهريا، وهي من إصدارات مراكز “الخدمة” المختصة في هذا المجال. أما هذه الكتب فهي بنوك للأسئلة في كل تخصص. بالمناسبة هذه الكتب هي أشهر الكتب في بابها، وهي من إصدارات مراكز “الخدمة” كذلك. نحن نريد لأبنائنا الذين يترددون إلى هذه المراكز ألا يحرموا من أي مصدر يسهّل عليهم النجاح في الاختبارات الوطنية التي تؤهلهم للالتحاق بالثانويات المرموقة في تركيا. مع هذه المراجع يتساوى هؤلاء الفقراء مع أبناء الأثرياء، فهم في السباق سواء، ونحن نوفر لهم كل الإمكانات اللازمة التي تجعلهم متكافئين معهم لا يشعرون بعقدة نقص أو تمييز أو كراهية إزاءهم”.
نوفر لأبناء الفقراء إمكانات تجعلهم متكافئين مع الأغنياء لا يشعرون بعقدة نقص أو تمييز أو كراهية إزاءهم.
حلول ناجعة
فكرة رائعة للقضاء على الطبقية المجتمعية ولتقليص الهوة بين أصحاب الإمكان والمحرومين من الإمكان. سألت المدير: “ما عدد هذا النوع من المراكز في حي مالتبه؟” فقال: “خمسة عشر”. “وفي إسطنبول؟” “شخصيا لست متأكدا، لكن أعلم أنها موجودة في كل حي من أحياء إسطنبول؟ هي بالمئات على ما أعتقد”. فسألته: “وفي تركيا؟” قال: “من يدري؟ ليس عندي إحصاء دقيق. أنا أعرف عدد المراكز التابعة لجمعيتنا فقط، لكن سمعت في إحدى زيارات إلى جنوبي شرقي تركيا أن عدد هذه المراكز هناك قرابة ٥٠٠ مركز”. “وما عدد التلاميذ المستفيدين من هذه المراكز؟” “هذا يحتاج إلى إحصاء دقيق، لكن في الغالب العدد المتوسط في كل مركز ٣٠٠ تلميذ”.
عدد هائل. أن تصل إلى عشرات الآلاف من التلاميذ يعني أنك وصلت إلى عشرات الآلاف من الأسر الفقيرة، وهذا يعني أنك تمكنت من معالجة بعض العقد النفسية التي ستسبب كوارث اجتماعية فيما بعد، أي أنك تصديت للمشكلات قبل أن تبدأ، وحوّلتها إلى اتجاه إيجابي. وأعتقد أنه هذه هي الثورة الحقيقية، تحويل السلبي في الإنسان والمجتمع إلى إيجابي.
دودة كتب
لمحت دراجة جميلة في إحدى زوايا المكتبة وقد كتب عليها “الجائزة الكبرى”. ما هذه؟ قال المدير: “هذه جائزة الأكثر قراءة من التلاميذ خلال العام الدراسي، المكافأة محفزة، ثم انظروا إلى هذه القوائم”، أشار المدير إلى لائحة علق عليها قوائم مستطيلة تحتوي على صور بعض التلاميذ وأسمائهم وقد كتب على اللائحة “دودة كتب”. دودة كتب! ما معنى هذا؟
قال المدير مبتسما: “هي كناية عن كثرة القراءة، دودة الكتاب هي تلك الحشرة التي تتسلل إلى الكتب القديمة في المكتبات القديمة وتعمل فيها أسنانها وتأكلها، وقد استخدمت في الأدبيات العثمانية كناية عمن يلتهمون الكتب قراءة، ونحن استعرنا هذه العبارة”.
أخذ المدير يشرح لنا القوائم: “عندنا فائزون على رأس كل أسبوع، وعندنا فائزون على مدار الشهر، وعندنا فائزون على مدار نصف العام الدراسي، ونخصص لجميع هؤلاء جوائز مناسبة مثل لابتوب، أي باد، ساعة، كتابا أو شيئا آخر محفزا، أما الدراجة فهي جائزة العام، وهناك سباق محموم للفوز بالجوائز. عندنا من الأولاد من يقرأ قرابة ٣٠٠٠ آلاف صفحة في الشهر الواحد”.
مذهل حقا، هؤلاء يلتهمون الكتب التهاما بالفعل. ما أكثر المكتبات في مدارسنا! لكن أين من يهتم بها ويهتم بأبنائنا؟ أين من يتابعهم؟ أين من يضع لهم أهدافا؟ أين من يكافئهم ويدفعهم إلى الأمام؟ لمست “إرادة الفعل” في مدارس الخدمة ومناشطها.
الأمهات والآباء
آمنت بأن الأحلام يمكن أن تكون حقيقة إذا وجدت رجالا آمنوا بها وعزموا على تحقيقها.
بهرني المدير بعبارته الأخيرة: “هل تعجبون إذا قلت لكم بأننا عممنا برنامج القراءة هذا إلى أولياء الأمور كذلك؟” سأله صديقي: كيف؟ قال: “أعلنا عن مسابقة في قراءة السيرة النبوية على مستوى الحي وأولياء الأمور نساء ورجالا، شارك فيها حوالي ١٠٠٠ فرد، وكانت المكافآت مغرية. المكافأة الثالثة كانت روبوت نظافة عالي الجودة، والمكافأة الثانية غسالة ملابس، والمكافأة الثالثة كانت ثلاجة”.
فقلت لهم: “نعم الرأي، وكيف كانت النتيجة؟” قال مبتسما: “فاز السيدات بالتأكيد، قرأن بنهم، ودخلن المسابقة بأعداد كبيرة، وتفوقن على الرجال وحصلن على الجوائز سعيدات مسرورات يطلبن تكرار هذه المسابقات للفائدتين العظيمتين”.
لله درك يا “خدمة”!.. هكذا تغرس القيم الجميلة في قلوب الناس وعقولها دون أي تكلف، هكذا ترتقي العقول بسلاسة، هكذا يتحرر الناس من سجن الجهل، هكذا ينجو الناس من فيروسات الفقر.
مراكز الدعم المدرسي ثقافة، وسوف أواصل الكتابة عنها بالتفصيل، لأنها تجربة فريدة من نوعها، بدت لي كالحلم عندما سمعت عنها، لكنني رأيتها حقيقة، وآمنت بأن الأحلام يمكن أن تكون حقيقة إذا وجدت رجالا آمنوا بها وعزموا على تحقيقها…
لم تخل مدينة من مدن تركيا من هذه المراكز، كانت بالآلاف، وخاطبت مئات الآلاف من التلاميذ، ووصلت إلى مئات الآلاف من الأسر، فكانت بلسما لهم. لكن القيادة الراهنة أغلقتها بقرار تعسفي دون أي يكون لها أي سند قانوني أو أخلاقي أو إنساني. اعتبرتها خلايا للإرهاب مع أنها بلسم للإرهاب. جريمتها أنها استلهام من أفكار الأستاذ فتح الله كولن، ذلك العالم المفكر المظلوم، لكن الزمان كفيل بأن ينصفه، وللحديث بقية.