حين استخلف الله سبحانه الإنسان في الأرض، وأوكل إليه عمارتها وإصلاحها، وحمَّله تبعة إقامة منهجه ورسالته، فإنه لم يتركه هائمًا على وجهه؛ يمشي من غير هدى، أو يضرب في الأرض بلا دليل؛ بل كان من رحمة الله تعالى بهذا الإنسان أن أرسل إليه رسله وأنبياءه بالكتب والبيِّنات، وأمده بهدايات السماء؛ إضافة لذلك فقد هيَّأه الله سبحانه بمجموعة من الصفات النفسية والإدراكية والعملية التي تُميِّزه عن سائر المخلوقات؛ حتى يستعين بها على أداء ما استُخلف من أجله، وعلى القيام بما حُمِّلَ من تبعات ناءت بالسموات والأرض والجبال، وأشفقن من حملها!
قدرات الكائنات الحية-سوى الإنسان- محدَّدةٌ سلفًا، معلومةٌ بالنظر إلى أي فرد من جنسها، لا تزيد ولا تنقص إلا بمقدار ما يحسن الإنسان تسخيرها والاستفادة منها.
ولا شك في أن “العقل” يأتي في مقدمة ما منحه الله تعالى للإنسان، فهذا العضو العجيب يُعَّد-بحقٍّ- تجليًّا من تجلياتِ طلاقة قدرة الله وإبداعه، وهو أعظم ما يتميز به الإنسان عن بقية الكائنات؛ التي جُبِلَتْ على طبائع وخصائص لا تستطيع أن تنفك عنها، أو تختار إزاءها، أو تُبدِّل فيها؛ كما لا يمكنها أن تَبني عليها وتُولِّد قدرات أخرى من خلال اكتشاف معادلات جديدة، وقوانين مخبَّأة في الكون الشاسع.
فقدرات الكائنات الحية-سوى الإنسان- محدَّدةٌ سلفًا، معلومةٌ بالنظر إلى أي فرد من جنسها، لا تزيد ولا تنقص إلا بمقدار ما يحسن الإنسان تسخيرها والاستفادة منها.
لكن في المقابل، فإن مواهب الإنسان وقدرته على العطاء والتجديد والابتكار والإبداع؛ تظلان بلا حدود، عَصِيَّتَيْن على الحصر والتقييد؛ لأن الله سبحانه قد منحه عقلاً يستطيع به اكتشاف السنن، وتسخير الحقائق، وتعظيم المعدلات، وسبر الأغوار، والغوص وراء الغايات، وإدراك الحكمة أينما وُجدت.
ومن هنا، استحق “العقل” أن يكون مناط التكليف ومن ثم التشريف، وأن يكون شرطًا من شروط الثواب والعقاب؛ كما استحق الإنسان به أن يكون الخليفة في الأرض، وحامل منهج الهداية، ومُبلِّغ رسالات الله، وبالتالي أن يكون عليه مدار صلاح الأرض فالإنسان كما قال الإمام محمد عبده: “عبد لله وحده، وسيِّد لكل شيء بعده.”
والعمليات العقلية المتنوعة-من الإدراك والتحليل والتركيب والاستنباط والتوليد بل والظن والتخمين- نستطيع أن نردَّها جميعًا إلى القدرة على “التأمل” وإطالة النظر فيما وراء الظواهر والحُجُب، ومدى إمكانية العقل أن تدهشه الأشياء، وأن تأخذ منه مساحة من التفكير والتدبر.
ولهذا رأى بعض العلماء أن الشك “التأمل” أول الفرائض؛ لأنه بداية الطريق إلى اليقين، فـ “التأمل” سابقٌ على النتائجِ، وطرقِ الوصولِ إليها؛ وهو حاكمٌ عليها أيضًا،وليس على الإنسان إنْ أراد معرفة الحقيقة وبلوغ اليقين؛ سوى أن يتيح لنفسه لحظات من التأمل، يطلق فيها العقلُ ومضاتِه وأشعتَه؛ فينفض الغبار، ويزيل العوائق، ويكشف الأسرار؛ لتبدو الحقائق أوضح من ضوء الشمس في رابعة النهار.
أما الذين يعكِّرون لحظات التأمل، ويشوِّشون عمل العقل بقيود من التقليد الأعمى، أو بالانطلاق من مواقف مشكوك في صحتها ولم تخضع للاختبار والمساءلة، فأنّى لهم أن يستبينوا وجه اليقين، وتنكشف لهم حقائق الحياة والأحياء!؟.
ولذا، لم تكن مهمة الرسل والأنبياء-في أصلها- إلا دعوة للـتأمل والتفكير، واختبار ما قد يظنه الناس-لطول الألفة به- حقائق ثابتة لا تقبل الاختلاف أو حتى مجرد النقاش!، فجاء الأنبياء ليزيحوا هذا الركام الذي طَبَقَ على العقول، وحجب عنها ضياء الحقيقة الساطع، ولم يطلبوا منهم- على طريقة التدرج في الإقناع- إلا شيئًا واحدًا، أن يفكروا فيما يعتقدون ويعبدون: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سبأ:46).
إن أصحاب النار حين يستقرّ بهم المقام الأبدي في الآخرة، يتحسرون ويندمون؛ لأنهم لم يتركوا لعقولهم فرصة للتجاوب مع ما يُطرح عليهم من عقائد وأفكار، ولم يحاولوا أن يسمعوا-أو يستمعوا- لنداء أنبيائهم ورسلهم: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(الملك:10).
فالسماع والتعقل-اللذان يندمان على فواتهما-إما على وجه الحقيقة؛ فهم لم يحاولوا أن يسمعوا- ولو مجرد السماع- لصوت السماء، ونداء الحكمة؛ لأنهم تواصوا فيما بينهم قائلين: (لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(فصلت:26).
ولا شك في أن “العقل” يأتي في مقدمة ما منحه الله تعالى للإنسان، فهذا العضو العجيب يُعَّد-بحقٍّ- تجليًّا من تجلياتِ طلاقة قدرة الله وإبداعه.
وإما على وجه المجاز؛ كناية عن إغفالهم منطق العقل، الذي يقضي-على أقل تقدير- بمحاولة التأكد من صحة ما يُدْعَون إليه، وإخضاع دعوى الرسل-في البداية- للمسلَّمات المنطقية، ومقررات الفطرة السليمة على النحو الذي جاء في القرآن الكريم وهو يدعو المخالفين إلى إعمال العقل، باستنطاق شواهد الكون، والانخلاع عن قيود الموروث، والتحرر من العصبية المكبِّلة، حتى يمكنهم إدراك الحق المجرَّد من كل شائبة، ورؤية آياته البيِّنات الواضحات فقد خاطبهم القرآن الكريم متلطفًا بقوله: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)(يونس:31).
إن الإنسان محتاج دائمًا إلى لحظات من التأمل والصفاء يُطْلِق فيها العنانَ لصوت الفطرة، ويلمح بها حقائق الوجود، ويستكشف من خلالها الغاياتِ الكبرى، وأسرارَ الحياة.
حتى إذا ما استبان له وجه الحقيقية، وسطع عليه نورها ألزم نفسه بها، وضحَّى في سبيلها، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات وآلام وحسبه، أنه إلى الحقِ يسير، والكمالَ ينشد، والخيرَ يبتغي وهل أسمى من ذلك غاية!؟.
إننا-دون مبالغة أو تجاوز- نستطيع أن نقول: “إن التأمل عبادة الإنسانية!”، فالمفكرون والفلاسفة والمصلحون، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأجناسهم- بل حتى الأنبياء!- لا ينفكُّون محتاجين إلى مثل هذه اللحظات.
لقد ظلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منذ تفتح وعيه على صفحات الكون وعلى أسرار الحياة، ليس له إلا عبادة التأمل تطمئن نفسه، وتهدئ روعه، وتؤكد له أن لهذا الكون الفسيح خالقًا ومدبرًا وحكيمًا، وأن الناس لم يُخلقوا عبثًا، ولن يُتركوا سدى.
ولم يزل صلى الله عليه وسلم على حالته هذه، حتى وافاه الوحي عند سنِّ الأربعين؛ فزاده إيمانًا على إيمانه، وأمدَّه بأدلة من القرآن مضافة إلى شواهد الكون، وجعل من تأمُّله عملاً موصولاً لا ينقطع، وأمْرًا يتعبَّد به إلى خالقه، ويتلمَّس به آثار لطفه ورحمته، وعظيم حكمته وقدرته.
وحين نزلت الآيات تستحث المؤمنين على إطالة النظر في جنبات الكون الفسيح بقولها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة:164)؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ويل لمن قرأها ولم يتفكَّرْ فيها”.(أخرجه ابن حبان).
فيا أيها الذين شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وصُدَّتْ قلوبهم عن ذكر الله، وحجبتهم ضوضاءُ الحياة عن إدراك سرِّ الوجود، واستغرقهم الحاضرُ اللاهثُ عن التزوّدِ ليوم الميعادهلمُّوا إلى عبادة لا شوكة فيها ولا نَصَب،هلمُّوا إلى ساعة من التأمل وإلى لحظات من اليقين.
لِيكنْ للتأمل في حياتكم وِرْدٌ إلى جانب وِرْدِ الاستغفار والأذكار في الثلث الأخير من الليل وعند طلوع الشمس وغروبها.