إنَّ الجانب السطحي من الزمن هو جزءه الميت الخالي من أية فاعلية إنسانية خلاَّقة، في حين أنَّ جُزءَهُ الثاني الأكثر عمقاً هو المعنيُّ باهتمامات المسلم الجادّ الذي يؤرقه أنْ تمضي لحظات الزمن من دون أنْ يُودِعَهَا شيئاً من آثارهِ التَّعَبُّديةِ الخَلاّقة.
ومن هنا جاء هذا الارتباط الخفي المتين بين الزمن والعبادات التي يقدمها المسلم بين يدي الله تعالى. فالصلوات الخمس، صلوات مرتبطة بخمسة مفاصل زمانية في اليوم والليلة، وكذلك الزكاة يرتبط فعلها التعبُّدي بالحَوْلِ الذي يحول على المال الذي يُرادُ تزكيته، أَمّا الحجُّ فهو شعيرة تعبدية زمانية ومكانية في الوقت نفسه، وأما الصيام فزمانه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن.
رمضان هو العمق الزماني الذي تشتَدُّ فيه القوى الحيّة في نفس الإنسان المسلم. ولا طريق إلى نفسه أقصر من رمضان لكي يشتَدَّ غَوْصُه في خوالجها الدفينة، والتعرُّف على منابع القوة والضعف فيها.
فرمضان هو العمق الزماني الذي تشتَدُّ فيه القوى الحيّة في نفس الإنسان المسلم. ولا طريق إلى نفسه أقصر من رمضان لكي يشتَدَّ غَوْصُه في خوالجها الدفينة، والتعرُّف على منابع القوة والضعف فيها. إنَّه يزيدنا استنارةً وفهماً وإدراكاً؛ ولم يودع رَبُّ العالمين من أسراره المكنونة في العبادات ما أودعه منها في الصيام. وقد أشار تعالى إلى ذلك في الحديث القدسي: “الصوم لي وأنا أَجزي به.”
ولئن كان لكل شيء روح يرتعش بالحياة مهما كان خفياً وصامتاً ﴿وإنْ مِنْ شَئٍ إِلاَّ يُسَبِحُ بِحَمْدِهِ﴾(الإسراء: 44) فَإِنَّ للزمن كذلك روحه، وروح الزمن هو “شهر رمضان”. ولأنه روح الزمن فقد اختاره الله تعالى زماناً لنزول القرآن فيه، هذا القرآن الذي هو روح الوجود، فالقرآن رُوحٌ من رَوْحِ الله، نزل به الروح الأمين، على روح هو أنزه الأرواح وأشرفها هو روح محمد صلى الله عليه وسلم، -أو إنْ شئتَ قلتَ “قلبه”- في شهر هو روح الأزمنة والشهور. فهو -أي القرآن- نور من نور، نزل به النور، على قلب هو نور، في شهر النور.
ومن حق هذا الشهر النوراني أن يحفز المسلم لكي يستبق نفسه روحياً، وأنْ يَمُدَّ يده للقوى الإيمانية الموجودة في أعماقه ليساعدها على النهوض به، وأنْ يكون يقظاً للقوة الدافعة فيه من أجل أن يلحق بها ويلازمها في رؤاها وتدافعها نحو الأعلى والأنزه من الحياة، والأذكى من العقل، والأعمق من التَّعَبُّدِ، ليصبح الاستثناء في هذا العالم المائج بالغفلة عن الله الذي يزداد تدحرجه من قمة إنسانيته نحو قاع من حيوانية الشهوات، ومن ضلالات القلب والوجدان، ومن عدميات الشرور والآثام.
وبديهي أن صوم رمضان هو عمل تعبُّدِيٌّ يبتغي المسلم من ورائه تزكية نفسه ورضى رَبِهِ، غير أنه يمكن أن يكون بمثابة صيحة احتجاج صامت يطلقها المسلم في وجه فساد العالم وضلاله، وجبروته وقهره، وانحرافه عن جادَّة الحق والحقيقة، وصرخة تنبيه لتلك الأرواح الضالّة والجافَّة التي يمكن أَنْ تشتعل كالهشيم عند أقلِ شرارة.
إن رمضان وحده هو القادر على أَنْ يبدد جَهَامَة الزمن المتراخي الكسول، ويغير الأزمان والفصول، فتغدو كُلُّهَا ربيعاً إلهيّاً عطراً يفوح منه رَوْحُ الله وريحان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فرمضان كَوْنٌ نورانيٌ يدور في سماء الصائم مُولّداً فيه أضْوَأَ الخواطر، وأَنْزَهَ الأفكار. أما ذلك الشيء الدموي الذي يبدو ملازماً لبعض العقول فسرعان ما تغسله التَّقوى، وتمحوه التَّوْبَةُ.
وكما أن الكون يرفض الفراغ في أجزائه ومفاصله، فهو يرفض كذلك الفراغ في روح الإنسان، لكونه جزءً لا يتجزأ من الكون.
فما لم تمتلئ النفس بتاريخ عظيم من صور كفاحها الارتقائي في سلالم المعرفة الإلهية، فإنَّ تاريخ هذه النفس سيكون مفجعاً ومأساوياً، وربما ظلَّت تعاني من المرض والوهَن حتى تموت في قَفْرٍ بوار من الفراغ.
فرمضان بحد ذاته – زماناً وتاريخاً – هو عالَم مفعم بأعظم صور التجارب الكفاحية الارتقائية لمعرفة الله وتوحيده وعبادته. وأكاد أجزم أنَّ ما من نصر عرفه المسلمون على مدى تاريخهم الطويل إلاَّ وهو صنيع رمضاني، حيث يحفل بصور رائعة من بطولات المسلمين الأوائل منذ “بدر” إلى “فتح مكة” إلى آخر الانتصارات الأخرى.
فرمضان زمن البطولات الإيمانية أينما كان موضع هذه البطولات سواء في النفس أو خارج النفس، فهو -رمضان- سلسلة مترابطة من هذه اللحظات الكفاحية التي تكاد تكون “لازمانية” لأنها فوق كل منطق زماني أو مكاني.
وتظلُّ روح الصائم مترعة بأخيلة “العالم الآخر”، حتى لكأنها بغيوبها أقرب إليه من الدنيا بشهودها.
فدقَّات دقائق العمر في رمضان ليست كدقَّاتها في غير رمضان، فالصائم يتلقى مع هذه الدقات؛ دقة من بعد دقَّة، دَفعةَ نورٍ من بعد دفعة، من قنوات غيبية “ماورائية”، تفرغ تيارها فيه فتزيده شفافية وتبصرة وتقرباً من مولاه. فيا لمعين رمضان، كم من قلبٍ مظلم اغتسل به فعاد نقياً كالثلج، وكم من ضمير موقور بكل بوائق الدنيا انغمس فيه فعاد طاهراً خالصاً كيوم ولدته أُمُّهُ.
فالمسلم الذي لا يخرج من رمضان بِزَخَّارٍ من المدارك الروحية الجديدة عليه أَنْ يعلن -خجلاً- عن إفلاسه الروحي، وينكفئ على نفسه يبكيها دماً، وينوح عليها نواح الثكلى، لأنه الوتر النشاز الأكثر قبحاً ونشوزاً في موسيقية رمضان الصافية الجمال، والمناكفُ الأشدُّ عناداً للمشيئة الكونية الانسجامية التوافقية بين جزئيات الأشياء وكلياتها. فما من أحد سوى رمضان كان قادراً على أنْ يَحِدَّ بصيرته ليرى أعمق وأشمل وأبعد.
إنَّ إنساناً يستعصي على رمضان فلا يتأثر به هو إنسان صعب وصلد مثيرٌ للإشفاق، سُرعان ما يسقط بين شدقي الدنيا التي تلتهم كُلَّ يوم كتلاً جديدة من البشر.
وعجباً لإنسان لا يثير رمضان فضوله الفكري، وعجباً لإنسان لا يقوى رمضان أنْ يقدح شرارة في وعيه الباطني، وعجباً لإنسان لا يستفز رمضان عقله وحِسَّه وشعوره!…
يا عشاق الليل… يا واجدون… يا مشتاقون…
يا متفردون… يا متوحدون… يا شعراء…
يا نُسَّاك… يا زهاد… يا عُبَّاد…
هيَّا… تَعَالَوا… أَقْبِلوا…
هذه ليالي رمضان البهية..
تَعَالَوا املأوا كؤوسكم من أنوارها…
ترشفوا رحيق الوصال…
وَبلُّوا حُرْقة الفؤاد…
وَاسْقُوا ظَمَأَ الروح!…
يا ليالي رمضان… يا دُرَّة الليالي…
يا لَأْلاءةً يا وَضَّاءَةً… يا ضحيانة…
يا شلاَّل نور… يا سَنى القلب…
يا نَدى الفؤاد… يا ينبوع إيمان…
ودفْق رحمة وحنان…
ما نام عنكِ إلاَّ ميت…
وما سَهَى عنكِ إلاَّ محروم…
وما عَافَ شرابَكِ إلاَّ مجنون…
يا ليلة القدر… يا خيراً من ألف شهر…
حنانيك يا ليلة القدر…
ضُمينَا إليك… عانقينا بقوة…
خذينا من أنفسنا إلى نفسكِ…
اكنفينا بكَنَفَكِ… واسدلي أستار سرادقك علينا…
امسحي الجراح عن أرواحنا… وآسي آلام قلوبنا…
وافتحي لنا طاقة الدعاء في السماء ليمُرّ منها دُعَاؤنا…
ويمضي من خلالها تضرُّعُنَا!..
أنتِ – يا ليلة القدر – والقرآن قرينان…
ما ذكرناكِ إلاَّ ذكرنا القرآن…
وما تلونا القرآن إلاَّ ذكرناك…
شَرُفْتِ بالقرآن… وعَلاَ قَدْرُكَ بنزوله فيكِ…
وإننا لنطمع أن نكون عتقاء ليلتك هذه من النار.
فأول رمضان رحمة… وأوسطه مغفرة… وآخره عِتْقٌ من النار، كما جاء في الحديث الشريف.
اللّهم -يا حبيب التوابين- اعتقنا من النار، ويا مجير الخائفين باعِدْ بيننا وبين النار كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، يا ربُّ يا الله.
بيننا وبين النار كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، يا ربُّ يا الله.