لقد بدأتُ بالعمل قبل أن تولد أنتَ بشهور. ولا أدري هل فكّرت واستمعتَ لي وقلت: “ما هذا الذي ينبض في صدري على الدوام دون أن يرتاح دقيقةً واحدة؟” إنني عضو في صدرك وأُعَد محرِّك جسدك وقد سمَّوني بـ”القلب”.
لقد أحسستُ الآن وأدركتُ بعد مضيِّ سنوات عديدة أنك لم تقم فيها بالاستماع إليّ، ولم تحمل فضولاً وشوقا لمعرفتي. لذا رأيتُ أن هناك حاجة لقيامي بنصيحتك.
بعد مضيّ 19 يوما فقط على كونك جنينا في رحم الأم بدأ خلقي من كومة خاصة من الخلايا. كنتُ في أوّل الأمر شبيها بأنبوبة، ثم بدأت ألتفّ شيئا فشيئا، وبدأت عملية خلق خلاياي والأوعية الدموية المجاورة لي. والحقيقة أننا خُلقنا مع سائر خلايا الجسم تدريجيا من خلية واحدة، ثم بدا ظهورُ الاختلافات بَين الخلايا والتخصّصات فيما بينها. وتغير أصدقائي من الخلايا الأخرى وهي ولا زالت بعمر بضعة أيام، لكي تقوم كلٌّ منها بوظائف مختلفة ولتتحول إلى جلود وغضاريف وعضلات… الخ. أما خلاياي فقد تمت بَرمَجتها بشكل خاص، وعندما بلغَتْ في اليوم الثاني والعشرين إلى عدد معين وصارَتْ كتلة معينة تلقينا أمرا بالبدء في عمل لا نعرف متى ينتهي. وأنتم تُطلقون اسم “النَّبض” أو “ضربات القلب” على الصوت الناتج من الحركة الجماعية لانْكماش خلاياي.
صحيح أن عبد الله لا يلتفت ولا ينتبه لنبضنا هذا. ولكنني أضطر إلى زيادة هذه النبضات أو الضربات عندما يركض عبد الله، لكي أوفّر لعضلات رجليه كمية أكبر من الدم. عند ذلك فقط ينتبه عبد الله إليّ، ولكنه لا يُعير أي اهتمام لهذه المسألة، ويَخال -لغفلته- أنني سأقوم بهذه الوظيفة إلى الأبد وكأنني لا أتعب. لِنقُلْ إن هذه غفلة بسيطة نتيجة حداثة سنه وشبابه، ولكن غفلته الكبرى هي أنه لا يفكر: كيف وجدني؟ ومن وهبني له؟ أي عدم تفكيره في الخالق تعالى الذي خلقني وأهداني إليه. وهذه هي الغفلة التي لا أستطيع قبولها، مع أنه يدرس الآن في المدرسة الثانوية ويتلقى هناك بعض المعلومات عني في درس علم الأحياء (البيولوجيا). والذي يغيظني أكثر أن هذه الدروس تصورني وكأنني مجرد مضخّة اعتيادية، علما بأنه لولا قيامي بضخ الدم إلى دماغه لَما استطاع أن يحرك إصبعا من أصابعه. ولكني سأقوم اليوم بدعوة عبد الله إلى التفكير وإعلامه بأنني لست مجرد قطعة لحم، وأدعوه للتعرف على خالقه وإلى الاهتمام بجانبَي المادية والمعنوية كذلك، وإلا فإن نهايته ستكون وخيمة؛ لأنني صديقه، وقد يكون كلام الصديق مؤلما في بعض الأحيان، ولأنني أريد أن يلم نفسه ويستجمعها وهو لا يزال في مقتبل العمر ونضارة الشباب.
متى أتوقف
إن جميع الخلايا (وهى تبلغ 100 تريليون خلية تقريبا) يجب أن تقوم بعمليات التغذية والتنفّس والهضم وبطرح الفضلات والقيام بوظائف خاصة. كل هذه الخلايا في حاجة إليَّ، تُرى لماذا؟ لأن كل هذه الحاجات تُلبَّى بفضل عملي الدائب. لذا أقوم بالعمل قبل جميع الأجهزة والأنظمة الأخرى الموجودة في الجسم منذ المرحلة الجنينية؛ أي منذ كون الإنسان جنينا في بطن أمه. ولا أدري مقدار المدة التي سأعمل فيها؛ لأنني -وإن كنت في صحة وعافية- فإن المَلَكَ الذي يأتي بالأمر من ربّه إن قال لي: “قف!” اضطررت إلى الوقوف والتخلي عن القيام بوظيفتي. ولكن ملك الموت لا يوقفني عن العمل في العادة دون سبب، فلا بد من وجود سبب.
وهناك أسباب عديدة جدا لتوقفي، ولاسيما في هذا العصر. والحقيقة أنني أيضا مذهول من كيفية عملي. وهناك بعض التدابير التي أدخلت في البرنامج الذي تم وضعه في داخلي ضد فقد الدم في حوادث المرور أو عند حصول الجروح أو عند انقطاع بعض الشرايين. ولكن إن لم يتم تعويض الدم المفقود بعد مدة من حصول الجرح ولم يتم سد هذه الجروح فإنني قد أتعب وأتخلى عن القيام ببعض وظائفي.
انتبه يا عبد الله! أقول لك مرة أخرى، إن أكبر إساءة إليّ تصدر منك. وعندما أتعب في يوم من الأيام وأتوقف عن أداء عملي فلا يحق لك أن تشتكي مني أو تعاتبني. أنت مشغول على الدوام بأكل الأغذية الدهنية، لذا فإن جارتي المعدة تشكو منك على الدوام، لأنك تملؤها كثيراً. وعندما تنتفخ المعدة تتقدم بطلب المساعدة مني وهذا يُتعبني. ولا أدري ألم تسمع الحديث النبوي «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسه» (رواه الترمذي). أنا لا أعترض على تناولك الخضراوات. ولكن ما هذا النهم للمعجنات، وللحلويات الدَّسِمة، وللمقليات ولأنواع الكباب؟! انتبه وكن حذرا! وإلا فإنني سأضع قائمة طويلة من نقاط المحاسبة أمامك. ولكن قد يكون الآوان قد فات آنذاك. أجل! إنني أتفهم أن تأخذ نصيبك من متع الدنيا، ولكن لكل شيء حدود وضوابط. ولو واصلت على هذا المنوال لصعب على صماماتي القيام بالحركة نتيجة تراكم الدهون عليها، ولانسدّت أوعية الدم الرئيسية عندي. ونظرا لأن الشريان التاجيّ عندي رقيق فهو معرَّض للانسداد في مدة قصيرة، وهذا سيؤدي إلى أنني سأواجه أزمة نتيجة عدم -أو قلة- وصول الأغذية إليّ. وهذا تنبيه هام لك.
تنبيهات هامة
أنت تجلس يا عبد الله أمام التلفزيون من الصباح إلى المساء، أي إن حركاتك قليلة ومحدودة، ولولا خجلك ممن حواليك لذهبت إلى البقال بالسيارة. وأنا أنصحك أن تقوم كل يوم وفي ساعات محددة ببعض التمارين الرياضية. وهناك بعضٌ من أصدقائك عندما يقومون بعبادة خالقهم يقومون بحركات تحفظ صحتي وعافتي، وإن كانت في حدها الأدنى. أي إنهم يؤدّون وظيفة العبودية لخالقهم بروح مطمئنة من جهة، ومن جهة أخرى يجعلونني في وضع أفضل. ونظرا لقيامهم فى شهر معين من شهور السنة بالامتناع عن الطعام والشراب في ساعات معينة من اليوم، فإنني أجد فرصة للراحة، حيث يتيسر آنذاك حرق بعض الدهون كذلك.
ونظراً لأن الألياف العضلية التي تشكّل معظم جسدي موجودة في كل اتجاه بشكل كرة من نسيج معقَّد، فإنني أقوم بحركات الانكماش والانتفاخ بسهولة ودون أن يتغير شكلي بصورة كبيرة. وهكذا أستطيع العمل في مكاني الموجود في التجويف الصدري براحة ويسر. ولكي تتم الحيلولة دون تهرُّؤ وتآكل سطح جدراني -في أثناء حركاتي- بسبب احتكاكها بالقسم الداخلي من القفص الصدري الذي يقوم بحمايتي وينحني عليّ مثل سقف حافظ، فقد تم تغليف هذه الجدران بنسيج ذي طبقتين، ووضع سائل بين هاتين الطبقتين. وهكذا يقل تأثير الاحتكاك إلى الحد
الأدنى، وتتم الحيلولة دون تآكل هذه الجدران. وأنشدك الله يا عبد الله! فكِّر قليلاً وقل لي: من يستطيع أخذ كل هذه التدابير؟
كيف أعمل
وعلى غرار السيارة التي تعمل بمحركات أربع فإنني أعمل كمضخّة فيها أربع غرف، ويطلق اسم “الأذَين” على الغرفتين العلويتين. ويدخل إلى الغرفة اليمنى منهما الدم الفاسد الآتي من الجسم، بينما يدخل إلى اليسرى الدم النظيف الآتي من الرئة. وقابلية الضخ لعضلات هاتين الغرفتين ضعيفة ولا تكفي إلا لدفع الدم إلى الغرفتين السفليتين. أما عضلات جدران الغرفتين في الأسفل (ويطلق عليهما البطَين) فهي قوية وسميكة، وتستطيع التقلص بقوة كبيرة وتوليدَ ضغط كبير، علماً بأن قوة تقلص الغرفة الموجودة على اليسار أكبر وجدرانها أسمك. وعندما تتقلص هذه الغرفة تَدفع كل الدم الموجود فيها بقوة كبيرة وتُرسله إلى جميع أنحاء الجسم. وأنا أرسل الدم بواسطة الشريان الرئيسي الكبير ذي الجدران السميكة (ويدعى الشريان الأبهر) إلى جميع أعضاء الجسم بالكمية وبالسرعة اللازمتين. ومن المهم جدّاً تقلص هذه الغرف الأربع الواحدة منها تلو الأخرى في وتيرة زمنية ملائمة، وانتفاخُ الصمامات الموجودة بينهما في هذه الأثناء بالضبط واندفاع الدم بين هذه الغرف، أو اندفاعها إلى الشريانين الرئيسيين في الوقت المناسب تماما، كما أنه يجب انغلاق الصمامات في الوقت الملائم تماما كي لا يعود الدم من الأماكن التي أرسل إليها. ويتم تنظيم هذه التوقيتات بواسطة عقدة عصبية تعمل بشكل آليّ وهي موجودة على سطحي، وتعمل هذه العقدة على إنتاج تيار كهربائي منظم. ولو حدث أي خطأ في توقيت فَتْح وغَلْق هذه الصمامات، أوْ إذا لمْ تفتح أوْ تنغلق هذه الصمامات بشكل جيد نتيجة تراكم وزيادة الكلس أو الدهون وتم تهريب بعض الدم. فهذا يعد أحد أمراض القلب، أي أحد أمراضي.
ولمنع تراجع الصمامات الموجودة بين الأذَين والبطين إلى الخلف نتيجة الضغط المسلَّط عليهما رُبطت هذه الصمامات بحبال ملصقة بأسفلها بالقسم أو الوجه الداخلي لجدران البطين بشكل قوي ومتين. وطبعاً أنت لا تدري شيئاً عن هذا. وأنا أستمر في العمل حتى في أوقات نومك. ومن الطبيعي أنني أغيّر من حين لآخر سرعة عملي (أي سرعة نبضي) حسب العمل الذي تقوم به. فعندما تكون نائماً تكون هذه السرعة منخفضة، وعندما تستيقظ أو تتناول الطعام تزداد هذه السرعة. أمّا إن عَدَوْتَ أو مارست رياضة عنيفة فالسرعة تزداد أكثر فأكثر لكي أرسل الدم إلى كل أعضائك.
وقد تسأل عن الوَقود الذي أحرقه في عملي فأقول بأنني أستعمل في غالب الأحوال بعض الأحماض الدهنية مثل حامض اللاكتيك والسكريات. وبفضل عمليات الأيض الخاصة بي فإنني لا أشعر بالتعب.
وبين كل عملية تقلص وانبساط أرتاح لمدة عُشْر الثانية. وهي مدة قصيرة جداً كما ترى. ولكي أستطيع القيام بتوليد ضغط فعّال يجب تقلص ألياف العضلات جميعها في وقت واحد ثم انبساطها كذلك، وهذا يستدعي ورود أوامر التقلص والانبساط في دورات زمنية محسوبة بدقّة شديدة. والحقيقة أنني أيضاً لا أعرف بالضبط كيفية إنجاز هذه العملية الدقيقة. فلكي تقوم الخلايا الموجودة في المركز الصغير المودَع فيَّ بإنتاج الإشارات الكهربائية، يجب وجود فرق في توازن الأيونات بين خارج وداخل خلاياي، ثم إعادة تشكيل هذا التوازن مرة أخرى. وتتم هذه الأنشطة والتفاعلات في زمن قصير جداً يبلغ واحدا من ألف من الثانية. ومع أن هذه الخلايا تقوم بإنتاج الكهرباء وبتشغيلي فإنني لا أُعدّ حراً تماماً، لأن من العوامل المهمة التي تؤثر على عملي وجودَ بعض الأعصاب المرتبطة بالدماغ. لذا فعندما تخاف أو تغضب أو تحزن يصاب نظام عملي بالخلل. ورغم أن الحزن والغضب يحصلان في الدماغ إلا أن تأثيرهما يظهران عندي وهذا هو -في الغالب- السبب وراء ظن الناس السابقين بأن مراكز العديد من الأحاسيس موجودة في القلب.
مسك الختام
سأسألك يا عبد الله سؤالاً بسيطاً: “أهناك مهندس قام بصنع التلفزيون الذي تجلس أمامه؟ وهل هناك أناس كتبوا المقالات في المجلة التي تمسكها بيدك ونضّدوا كتابتها ورسموا رسومها ووضعوا كلا في مكانها الصحيح؟ هم موجودون أليس كذلك؟ إذن ألا يستدعي هذا وجود من خلقني وخلق الشرايين والأوردة المتصلة بي بصورة تلبي جميع حاجاتك وهو أمر أكثر تعقيداً وكمالاً بآلاف المرّات من التلفزيون؟”
مَرْحَى لك يا عبد الله! فكما أقوم أنا بإيفاء وظيفتي دون خلَل لكي تستمر في الحياة، قم أنت الآن بإغلاق هذا التلفزيون وخصّص عشر دقائق لِخالقك الذي خلقك في أكمل صورة. وهكذا أستطيع أن أبدّد عني بعض الضيق الذي أصبتُ به من جراء توترك النفسي، وأرتاح قليلاً.
لم أستطع يا عبد الله في هذه الصفحات القليلة إلا شرح واحد بالألف من دقّة خلقي ومن النظام الدقيق لبنيتي، ومن خطورة المهمة التي أقوم بأدائها. أما الشرح الكامل والمفصل فلا أستطيعه ولا يكفي لذلك علم الأطباء والحكماء. ولكن جزاهم الله خيرا فهم يحاولون شرح الأسرار الموجودة عندي.
والآن هيا يا عبد الله وقُم بمطالعة دروسك وكن في المستقبل عالماً مرموقاً، وحاول اكتشاف بعض أسراري المجهولة، وقم بنصح الناس حول أفضل الطرق للتعامل معي واستعمالي. ولكن قبل هذا، عليك أن تملك فضولاً وفكراً ورغبة في معرفة الحقائق، ثم التفكير الصحيح، وأن تتعلم النية الصحيحة والنظر الصحيح. أي عندما تقوم بتدقيقي، عليك أن تتعود قول: “ما أجمل خلقه!!” بدلاً من: “كم هو جميل”. وبدلاً من التوقف عند ملاحظة النقوش والفنون الجميلة الموجودة فيّ، عليك أن تصل إلى أفق التفكير في سؤال: “من الذي صنع كل هذه النقوش؟”. فعند ذلك سيَتيسّر كل شيء، وسيكون لكل شيء في الحياة معنى خاصّ، وستتذوَّق حلاوة هذا الأمر وتصل إلى الطمأنينة وتكتسب قوة وقدرة تستطيع بها تحدي الكون كله.
_________________
الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.