الانتصار الأخير

أقبل هذا المساء على المدينة المغمورة بالثلوج موحشا كئيبا.. وألقى عليها مع قساوة البرد وشاحا أسود حزيناً.. الغيوم السوداء تخنق الضوء والنور.. صمتٌ كالح.. هدوء مخيم على الشوارع.. وإذا بحافلة البلدية تقف بفرملة مزعجة تخدش الآذان.. نزل وهو شارد الذهن.. رفع رأسه ودار بنظراته الحزينة هنا وهناك.. وقف لحظات ثم أخذ يسير في طريقه رويداً رويداً..
الأمر هذه المرة جد مختلف.. شحب وجهه وتندت عيناه بالدموع.. تنهد ثم تمتم في أسى:
– إنا لله وإنا إليه راجعون!..
دَق الجرسَ.. فتحت زوجته الباب والقلق العميق بادٍ على وجهها.. ركزت نظراتها في وجهه الشاحب آملة أن يخبرها عما جرى معه اليوم.. نظر إليها وابتسم ابتسامة باهتة ودخل بهدوء.. توقعت أن الأمر ليس على ما يرام!.. وما إن رأى أطفاله حتى احتضنهم وضمهم إلى صدره بشوق وقبّلهم بحرارة وكأنه يودّع.. توجهت زوجته “وفاء” نحو المطبخ لتحضير العشاء وقد احتل الضيق صدرها.
وخلال تناولهم الطعام كان “صابر” معتصما بالصمت وغارقا في التفكير.. لم يمازح أولاده ويداعبهم، لم يسألهم عن يومهم في المدرسة هذه المرة.. وعندما كانت وفاء تجمع أطباق الطعام من فوق المائدة ملأ جميع أطراف الغرف صوت ندي.. أذان العشاء يُرفع.. نهض صابر من مكانه وتوجه إلى المغسلة ليتوضأ.. انزوى في غرفة كان قد جعلها مسجدا في بيته.. وبعد لحظات وقف وأهله إلى الصلاة في جماعة.. وقف باستسلام خاشعاً متضرعاً.. ارتجف صوته وتساقطت دموعه على خديه واحدة إثر الأخرى.. لم يعد يشعر بنفسه أو بما حوله.. كان يوقن أن الله معه وقريب منه جداً.. وبعد الأوراد والتسبيحات قام أولاده فقبّلوا يده ثم ذهبوا إلى غرفهم، عندها سددت وفاء نظراتها إليه وقالت بصوت خافت:
– ما الأمر يا عزيزي، لستَ طبيعيا اليوم؟!..
– اطمئني أنا بخير الحمد لله..
– هل ذهبت إلى المستشفى؟
– نعم ذهبت!..
– وماذا قال لك الدكتور؟!..
– لم يقل شيئاً مهماً.
اجتاحتها موجة من الضيق.. وحط على قلبها حزن عميق أسود.. دارت بنظراتها الحزينة في جنبات الغرفة وقد تشبعت عيناها بالدموع.. عرفت أن حالة زوجها ليست جيدة هذه المرة.. اقتربت منه ثم جلست إلى جواره بتأدب وأسندت رأسها على كتفه:
– أرجوك يا عزيزي لا تخف عني شيئاً..
كان لا يريد أن يحزنها أكثر، ولا يريد أن يبين عن همومه واضطرابه.. ولكن..
قال وعيناه على المكتبة:
– قال لي الدكتور بأن مرضي انتقل إلى الرئة.
– إلى الرئة!؟..
– نعم، ولكن لا تقلقي!.. لكل داء دواء.. والشافي هو الله!..
كان يدرك أن الأمر جد خطر، وأن ليس لهذا المرض دواء.. لقد نصحه الدكتور بأن يستريح جيداً ولا يتعب نفسه لمدة ثلاثة أشهر ثم يعود إليه.. آمن بأن المرض الذي انتابه هو تقدير إلهي، ولا اعتراض لحكم الله.. كان يعرف معنى التوكل معرفة حقيقية.. قام وخطا نحو المكتبة وتناول منها المصحف الشريف.. وراح يتلو سورة الكهف.. قالت وكلها آذان صاغية لما يتلو:
– ولـمَ سورة الكهف!.. ولـمَ لا نتابع تلاوتنا من المكان الذي وقفنا عنده؟!..
– قرأتُ في حديث شريف للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قرئت هذه السورة ليلة الجمعة كانت دواء لكل داء.. وإني أؤمن من صميم قلبي أنه الصادق المصدوق وأن أقواله دواء لكل مرض وشفاء لكل مريض بإذن الله تعالى..
صمت لحظات، ثم أخذ يحدثها عن اليقين العميق مستشهدا على ذلك بهذه القصة…
– لقد أصاب قحط قاتل قرية من القرى. فلم يبق عند أهلها قطرة ماء يشربونها أو يسقون بها دوابهم.. لم يجدوا سبيلا سوى الدعاء إلى المولى عز وجل.. احتشدوا رجالا ونساءً، صغاراً وكباراً، جمعوا دوابهم وخرجوا إلى البراري والقفار راجين من الله أن يغيثهم .. إمامُ القرية يدعو والأهالي يؤَمّنون، يستغفر فيستغفرون، يوحّد فيوحّدون.. وما هي إلا دقائق حتى تراكمت السحب وأمطرت عليهم السماء مدراراً.. فتبلل الجميع إلا فتاة صغيرة.. آمنت إيمانا يقينا بنزول المطر عند خروجها من القرية، فأخذت معها مظلة كي تحميها من البلل وقطرات المطر..
ثم قال:
– ونحن الآن يا عزيزتي في أمس الحاجة إلى الدعاء..
منذ ذلك اليوم راح صابر ووفاء يتلوان سورة الكهف كل ليلة جمعة.. ويناديان ربهما بقلب خاشع، وإيمان تام في غسق الليالي.. طرقا باب الشافي سبحانه بإلحاح وتضرعا إليه باستمرار..
وبعد ثلاثة أشهر وعندما ذهب ووفاء إلى الطبيب لآخر مرة، كان الحزن قد أرخى سدوله عليهما بأنواع الهموم والاضطرابات.. ألم يكن مرض بلا دواء؟! إذن لماذا الأمل والرجاء؟!.. قدمت الممرضة نتائج التحليل إلى الطبيب.. تناولها وراح يجول بنظراته فيها دون أمل.. صمت طويل ومثير.. وفجأة أشرقت أسارير الطبيب وحدق بعينين مذهولتين متعجبتين.. كانت النتائج كلها إيجابية.. وقد توقف المرض وتراجع.. قال وهو مبهور الأنفاس:
– يا إلهي!؟.. لا أصدق ما أراه!.. توقف المرض! كيف حصل ذلك؟..
كلمات بعثت البهجة والضياء في وجه صابر ووفاء، فتألّقت عيناهما بوميض مشرق. فتمتم صابر:
– الحمد لله.. هذا من فضل ربي العظيم..
__________________
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش