توضع النظريات الفيزيائية لتقديم نماذج تشرح بُنية الكون وكيفية عملها. وقد قام “نيوتن” والعلماء المعاصرون له بوضع أسس العلم الحديث، أو بالأصح بوضع أسس الفيزياء الكلاسيكية. وفي الكون -حسب هذه الفيزياء- نظام دقيق متداخل مع فوضى كبيرة. هذا النظام يعمل حسب آلية ميكانيكية دقيقة. كانت أجزاء الكون -حسب هذا الأنموذج- تتأثر وتؤثر بعضها في بعض بقوى مختلفة، وتتحرك هذه الأجزاء ضمن حركات معينة تحت تأثير هذه القوى وتحت تأثير وضعها في البداية. ونظرًا لقيام الفيزياء الكلاسيكية بحساب الحوادث الفيزيائية المختلفة -التي تبدو وكأنها لا رابط بينها- بدءًا من حركة كرة البيلاردو إلى حركة الأجسام الفضائية، ومن ظاهرة انتقال الحرارة إلى التموجات الصوتيه حسابًا صحيحًا بقوانين قليلة (القوانين الثلاثة لـ”نيوتن”). فقد أصبحت تلك الفيزياء حقيقة مسلّما بها، لا تحتمل أي نقاش أو شك فيها طوال عصور ثلاثة. وهذا النجاح الكبير بهر أعين المفكرين وأثّر على نظرتهم للعالم، بل دعاهم إلى محاولة وضع نظريات مشابهة في علوم الاجتماع.
نقد الفيزياء الكلاسيكية
ولكن النظرة إلى العالم التي شكّلتها الفيزياء الكلاسيكية تعرضت في بداية القرن العشرين إلى نقدين، جاء أحدهما من النظرية النسبية التي وضعها “أنشتاين” ونفى فيها وجود الزمان المطلق والمكان المطلق، ووضع بدلا منهما زمانا ومكانًا يختلفان حسب وضع الشخص المراقِب، وأنهما يتغيران حسب مقدار وكمية الكتلة الموجودة في جوار ومحيط الأشياء. أما النقد الثاني فجاء من “النظرية الكمية” (Quantum Theory) التي قامت بمعارضة أساس من أسس العلم وهو مبدأ “السبب-النتيجة”. وذكرت بأنه لا يمكن إجراء عملية قياس دقيقة في أي منظومة دون التأثير فيها وتغييرها.(1)
ويجب هنا ملاحظة أمر هام وهو أن ظهور بعض أخطاء الفيزياء الكلاسيكية لا يعني أنها باطلة تمامًا وخاطئة ولم تعد لها أي أهمية أو دور؛ لأن النظريات الفيزيائية هي نماذج في نهاية المطاف توضع لشرح الحقائق، كما تستطيع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرَ وحلَّ معظم المسائل اليومية التي نواجهها بدقة كبيرة. ولهذا السبب أظهرت التجارب والمشاهدات صحتها طوال عصور ثلاثة. كما نستطيع بها حساب أوقات كسوف الشمس وخسوف القمر ورحلة صاروخ في نظامنا الشمسي وغيرها من الأحداث الفيزيائية والمادية بدقّة كبيرة.
ذكرت النظرية النسبية أن نظرية نيوتن لا تكون صحيحة في السرعات الكبيرة التي تقترب من سرعة الضوء، وكذلك في الأجسام الفضائية الهائلة الكتلة كالثقوب السوداء والنجوم النيوترونية التي تملك قوى جذب كبيرة. وكما ذكرت النظرية الكمية فإن نظرية نيوتن لا تصح في تفسير الحوادث الجارية على المستوى الذرّي، أي إن النظرية النسبية والنظرية الكمية تصحّ في السرع الاعتيادية في حياتنا -حتى سرعة الصاروخ لا تبلغ جزءًا من ألف جزء من سرعة الضوء- وفي الأحجام التي تزيد على 5-10 سم وتكون نتائجها مساوية لنتائج الفيزياء الكلاسيكية.
نقد “الحتمية” وظهور نظرية الفوضى
وفي ستينيات القرن الماضي تلقّت النظرية الحتمية نقدًا ثالثا من علم بدأ ينمو ويتطور. كان هذا العلم يبحث عن ظواهر “الفوضى” التي لاحظها العلماء في العديد من الحوادث بدءًا من ديناميكية السوائل إلى الظواهر الجوية إلى بيولوجيا السكان إلى النظم الاقتصادية. والسبب الذي أدّى إلى ظهور “الفوضى” كفرع من فروع العلم هو أن العلماء الذين كانوا يعملون في ساحات مختلفة لاحظوا عند بحثهم عن حلول للمشاكل التي تظهر أمامهم أنهم يرون حلولا في شكل نماذج تكون متشابهة؛ حتى إنهم توصلوا إلى حلول مشتركة تعود لمسائل مختلفة. ظهر هذا الأمر ليس في الساحات العلمية التي تتطلب اختصاصات معينة، بل في الساحات التي تتقاطع فيها ساحات بعض العلاقات العلمية. رأى العلماء هنا أن النماذج التي تشرح التصرفات التي تبديها المنظومات المعقدة نماذج متشابهة. والمنظومات المعقدة تتألف من أجزاء عديدة جدًّا، يؤثر كل جزء في الأجزاء الأخرى، ويتأثر هو أيضا بها، وهناك ساحات حرة عديدة فيها؛ أي إن هناك احتمالات لتصرفات عديدة لها، وهي عادةً منظوماتٌ مفتوحة(2) تدخل إليها المواد والطاقة وتخرج منها، أي ليست منظومات مغلقة. ومن أمثلة هذه المنظومة هي المنظومات البيئية التي تُشكِّلها بعض أنواع الأحياء في منطقة جغرافية معينة، والعناصر الجوّية المختلفة الموجودة معًا كالمقادير المختلفة من الضغط الجوّي والرياح والحرارة وأنواع النباتات التي تغطّي تلك المناطق، أو المنظومات المعقدة المتشكلة من مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية المتخصصة التي تعمل معًا في أدمغتنا بتلاؤم دقيق.
والعلماء يعملون حاليًّا على منظومات أقلّ تعقيدًا من المنظومات المذكورة أعلاه، مثل معدل التغير السنوي في عدد نوع معين من الأحياء في منطقة معينة، أو درجة انسيابيةِ سائلٍ يملك لزوجة معينة في أنبوب، أو التموجات الحاصلة في البورصة لسعر سلعة من السلع… هذه هي المسائل أو المشاكل التي يتناولها العلماء حاليًا كبداية لحل مشاكل ظواهر “الفوضى”.
ولكن العلم -لنأخذ الفيزياء مثلا- على الرغم من أنه قَطَع مسافة كبيرة في ساحات عديدة بدءًا من الأجزاء دون الذرية إلى المجرات الهائلة، إلا أنه لم يستطع وضع نظرية تشرح الحركات المعقّدة لسائل ذي لزوجة معينة يسيل في أنبوب، ولا حساب حركات الدوامة والاضطراب الذي يظهر فيها بعد سرعة معينة. وعلى الرغم من أننا نملك معلومات بدرجة ما حول كيفية عمل بعض الظواهر مثل كيفية تزايد أعداد الأحياء، أو كيفية التطور الاقتصادي، إلا أننا لا نستطيع حدسَ أو معرفةَ كيفيةِ تطور هذه الظواهر وكيفية تغيرها، وعلى أي أساس يحصل هذا التغير بشكل قاطع. ولذا فهناك علم ولد جديدا يحاول وضع أسس عالمية لمثل هذه المنظومات وخصائصها المشتركة ويهدم الجدران الاصطناعية بين العلوم. والسبب الكامن وراء عدم وضع تعريف عام يقبل به الجميع لهذا الفرع الجديد من العلم الذي ندعوه بـ”علم الفوضى”، هو أن إطاره واسع جدًّا وهو يشمل مواضيع عديدة جدًّا وحوادث ذات أبعاد مختلفة، لذا يجب تناولها بمفاهيم جديدة ومتطورة، لأن تاريخ هذا الفرع العلمي حديث لا يتجاوز 40-50 سنة.
شرح مفهوم “الفوضى”
إن أردنا التعبير عن مفهوم “الفوضى”، قلنا: إنه يعني عدم النظام واختلاط الحابل بالنابل والانفلات. ولكن تم إغناء مفهوم هذا الفرع الجديد من العلم بإضافة معان هندسية وعلمية له، لذا فلا يمكن شرح مفهوم “الفوضى” بعدّة جمل. ولكن يمكن شرح كيفية ظهور “الفوضى” وفي أي الظروف تظهر وما النتائج التي تتولد عنها. عندما نقوم بهذا نحصل على فكرة وصورة لهذا المفهوم.
والذي أدّى إلى زيادة الاهتمام بمفهوم “الفوضى” وعده انقلابًا في العلم، هو أن نظامًا معيّنا يسير حسب قواعد معروفة ويتطور بشكل معلوم، فإذا به يتصرف فجأة بشكل فوضويّ. لنأخذ مثالا حول عدد نوع من أنواع الأحياء يعيش في جزيرة. هذا العدد مرتبط بعوامل عديدة؛ منها سرعة التوالد، ومقدار الأغذية الموجودة في الجزيرة، وعلاقةُ وتأثير الأحياء الأخرى الموجودة حواليه… إلخ. وكذلك مثال عدد السيّارات التي تَرِد إلى محطة بنـزين معيّنة، أو عدد المراجعين من المرضى لقسم الطوارئ في أحد المستشفيات وساعات هذه المراجعات. في هذه النماذج تعد العوامل المختلفة ثابتة ولا تتغير مع الزمن، وذلك من أجل سهولة الحساب. ومع هذا نرى نتائج غير متوقعة حتى في أبسط هذه النماذج، فمثلا إن كان معامل (Coefficient) التكاثر الذي يعبر عن نسبة التكاثر ونسبة الموت وضبط التوازن بين التكاثر والموت، أكبر من حد معين استحال حساب تغير أعداد ذلك الحي حسب السنوات بأي معادلة من المعادلات. لأن عدد النفوس في كل سنة سيأخذ مقدارًا متغيرًا، أي إن ظاهرة ما تتبع عادةً قوانينَ (السبب-النتيجة) أي “الحتمية”، يمكن أن تنقلب إلى ظاهرة غير منتظمة وغير متوازنة. وأمر آخر مشابه يظهر في حركة انسيابِ سائلٍ ذي لزوجة معينة (أي يولد انسيابه قوة احتكاك)، فالسوائل تتبع القوانين الديناميكية لنيوتن في حالة الانسياب الاعتيادي بشكل جميل، ولكن ما إن تزيد سرعة الانسياب عن حد معين حتى تتولد الدوامات وحركات مضطربة وفوضوية لا تتبع أي قانون.
ظهور الفوضى
يرتبط ظهور الفوضى في أي منظومة بحدود وقيم متغيراتها من جهة وبحالة بداية تلك المنظومة وتركيبها من جهة أخرى. وتظهر الفوضى عادة عندما تكون المنظومة غير مستقرة، (أي عندما لا تكون لديها قابلية إنتاج طاقة، وكذلك عندما تكون بعيدة عن الاستقرار الديناميكي الحراري). والأهم هنا عدم كون المنظومات خطية، لاحتمال ظهور الفوضى في منظومة غير خطية وإن كانت المنظومة بسيطة.(3) والمنظومات غير الخطية لها علاقة بمشتقة المعادلة الرياضية التي تشرح العلاقات فيها. لذا فإن حلها يكون أصعب من حل المعادلات الخطية، بل يستحيل أحيانًا هذا الحل؛ لأن العلاقات في المنظومات غير الخطية تتبدل في لحظة التغير. فالحالات التي يكون فيها الاحتكاك مرتبطاً بالسرعة أو عدد السكان في حالالت ديناميكية هي حالات تكون فيها المنظومة خطية. فإذا كان الاحتكاك مرتبطاً بالسرعة وتغير السرعة بالاحتكاك المؤثر على سرعة الجسم، فإن تغير السرعة مرتبط إذن بالسرعة نفسها. في مثل هذه الحالات وبخاصة عندما تكون المنظومة مفتوحة، تظهر تصرفات وتغيرات غير متوقعة. فمثلا تتغير مقاومة الهواء لحركة البندول بمكعب سرعة البندول، فإن تم تسليط قوة من الخارج إلى هذا البندول فإن هذه القوة -بعد حد معين من مقدارها- تؤدي إلى حركة فوضوية للبندول الذي يقوم بحركات غير متكررة بعدد لانهائي، ولا يمكن معرفة المدارات التي يرسمها هذا البندول ضمن مستوى معين ذي بُعدَيْن. لذا فإن من خصائص النظم الفوضوية أنها تقوم بتحقيق جميع البدائل المختلفة والممكنة عندما يكون هناك زمن كافٍ.
قانون الأنتروبيا
تناولت الفيزياء الكلاسيكية -في أغلب الأحوال- النظمَ المتوازنة، وَوَضعت قوانينَ الديناميكية الحرارية حسب هذه النظم. أحد هذه القوانين -وربما أهمها- هو قانون “الأنتروبيا”.والأنتروبيا يعد مقياسًا للفوضى، وهو يزداد على الدوام في النظم المغلقة. فإن طبّقنا هذا القانون على الكون ككل نقول: إن الكون كان في بدايته منظمًا بدرجة كبيرة، ثم بدأت الفوضى بالزيادة فيه، وفي النهاية عندما تتساوى الحرارة بين كل أجزائه(4) تتوقف جميع الفعاليات والتفاعلات. أما النظم المفتوحة، أي النظم التي تأتي إليها الطاقة والمادة من الخارج، فهي نظم غير مستقرة في الأغلب، وهي -حسب الديناميكية الحرارية- نظم أهمل تدقيقها، كما أن تدقيقها صعب بدرجة كبيرة. وقد اهتم العالم “بريغوغين” وأصدقاؤه بهذه النظم وتوصلوا إلى نتائج تسترعي الانتباه.
فالدوامات التي تحصل في نهر سريع الجريان، والدوامات الهوائية، والأعاصير التي تحصل في الطبقات الجوية، والأشكال المعقدة التي يشكلها بندول متحرك، والأشكال الزخرفية المعقدة التي تتشكل بعد بعض التفاعلات الكيميائية، أمثلة على البنى المعقدة التي تُشكِّلها المنظومات غير المستقرة نتيجة قوى خارجية تؤثر فيها. ولكن يجب معرفة التعاريف العلمية والتكنيكية للمصطلحات الواردة هنا من أمثال “المنظومة” و”المعقد” و”النظم المستقرة وغير المستقرة” وملاحظة معاني هذه المصطلحات والتعاريف. فمثلا يعرض لنا نهر يسيل ببطء سيَلانًا هادئًا ومستقرًّا، ولكن ما إن تزيد سرعة التدفق عن حد معين حتى تتشكل الدوامات فيه، أي تظهر هنا بُنى جديدة وهي بنى الدوامات. ولما كانت هذه البنى الجديدة معقدة التركيب وأكثر ديناميكية، لذا يقال: إن النهر أصبح أكثر نظامًا من حاله الأول القريب من الركود، أي إن درجة النظام في أي منظومة تقاس بمقدار تعقدها وليس ببساطتها. ولا يعني التعقيد هنا، الفوضى وعدم النظام، بل هو مصطلح يعبر عن ارتباط أجزاء عديدة ارتباطًا بنيويًّا ضمن علاقات خاصة لتحقيق مهمات معينة. ولا شك أن هذه المصطلحات لا تزال مبهمة من الناحية العلمية، ولم يتم التوصل حولها إلى إجماع في القبول. ولكن هناك مساعٍ عديدة تبذل حاليًّا حولها، وهي محل اهتمام خاص.
فإن أردنا التلخيص نقول بأن الاحتكاك الذي يعد في نظر فيزياء نيوتن (أي الفيزياء الكلاسيكية) عنصرًا ضارًّا يعوق الحركة والطاقة ويعمل ضدهما.. هذا الاحتكاك يؤدي إلى تشكيل منظومات جديدة وبنى معقدة في بعض المنظومات المفتوحة وغير المستقرة. ثم إن الاحتكاك والمقاومة وغيرها من القوى غير المرغوب فيها عادة قد تلعب دورًا في توليد النظام، وهذا يشير إلى وجود الجمال والفائدة في كل شيء بالمعنى المطلق.
خواص النظام الفوضوي وتجربة لورنز
أهم خاصية من خواص النظام الفوضوي كونه مرتبطًا بظروف بدايته بشكل حساس، وأفضل مثال على هذا ما نراه في التقلبات الجوية. ففي الستينيات عندما بدأ استعمال العقول الألكترونية (الكومبيوتر) لأول مرة حاولوا الوصول إلى تخمين التقلبات الجوية بوضع الظروف الجوية المختلفة في أنموذج ووضع برنامج لحل هذا الأنموذج. قام أحد أخصائيي الأنواء الجوية واسمه “أدوارد لورنز” بوضع برنامج بسيط أراد من ورائه الوصول إلى تخمين التقلبات الجوية. وما حدث له كان إشارة إلى ولادة علم جديد.
كان “لورنز” يعلم أن التقلبات الجوية تجري حسب قوانين معينة. لذا وضع في جهازه للعقل الألكتروني أنموذجًا للتقلبات الجوية، ووضع 12 معادلة مرتبطة بتقلبات الحرارة والضغط وسرعة الريح… إلخ. كان يأمل منها حل العلاقات الموجودة بين هذه العوامل المتغيرة والمؤثرة في التقلبات الجوية والتوصل إلى تنبّؤ صحيح للأحوال الجوية. فقد تم التوصل مثلا إلى تواريخ ظهور مذنب “هالّي” وموقعه بالنسبة للدنيا في كل مرة بشكل مسبق، وذلك باستعمال قوانين نيوتن بعد حساب كتلة الشمس وكتل كواكب المجموعة الشمسية ومواقعها وسرعاتها… إلخ، لذا خطر بالبال بأننا إن قمنا بمعرفة الشروط المختلفة للأنواء الجوية -التي تشكل منظومة أعقد من مثال مذنّب “هالي”- من خلال تثبيت الآلاف من أجهزة قياس الحرارة والضغط وغيرهما من العوامل المؤثرة في الأنواء الجوية في مختلف الأماكن، ومعرفة هذه الظروف والشروط في فترة زمنية محددة، وأدرجنا هذه المعلومات في العقل الألكتروني، استطعنا التنبؤ مسبقًا بالأحوال الجوية المتوقعة بعد فترة أو بعد زمن محدد. والعنصر الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى مشكلة هو مدى صحة المعلومات والقياسات التي نحصل عليها في البداية، والبعد قدر الإمكان عن أخطاء القياسات الأولية. ولكن كان من أهم فروض العلم الكلاسيكي ما يأتي:
“إن كنا نعلم الوضع الأولي لمنظومة ما بشكل تقريبـي، وكنا نعرف أيضًا القوانين السارية فيها، استطعنا معرفة التصرف التالي للمنظومة بشكل تقريبـي”. يقول أحد علماء الفيزياء النظرية: “من أهم أسس التفكير العلمي الغربي هو أننا عندما ندقق حركة كرة بيلياردو فوق منضدة، نستطيع أن نهمل حركة سقوط ورقة في كوكب في مجرة أخرى، لأنه يمكن إهمال التأثيرات الصغيرة جدًّا.”
واستنادًا إلى هذا الأساس قال علماء الأنواء الجوية بأن المعلومات التقريبية ستعطي لنا معلومات تقريبية أو نتائج تقريبية عند حساب التوقعات الجوية.
كان “لورنز” يفكر هكذا أيضًا، لذا سجل المعلومات الأولية في جهازه مراقِباً ما ستكون عليه الأحوال الجوية. وفي أحد الأيام أوقف حساباته لأنه كان يريد فحص بعض أجزاء نواحي تطورِ وتغير الأنواء الجوية. ثم عاد إلى جهازه وأدخل فيه النتائج التي توصل إليها حتى تلك اللحظة. شغّل جهازه ثم خرج للترويح عن نفسه وشرب القهوة. وعندما رجع بعد ساعة رأى شيئًا لم يكن يتوقعه، فالخطوط البيانية التي كانت تشرح وتشير إلى حالة الأنواء الجوية منذ قيامه بوضع حساباته، كانت تختلف عن الخطوط البيانية الجديدة، أي إنها اختلفت بعد مرور فترة زمنية عليها، وكان هذا يؤدي إلى اختلاف كامل في التوقعات بعد عدة أشهر. فكّر في الوهلة الأولى أن هناك عطلاً ما في جهازه، ولكنه فهم ما حدث بعد حين. تذكر أنه عندما ألقم جهازه بالمعلومات استعمل معلومات تقريبية؛ فمثلا بدلاً من أن يلقم جهازه بعدد (0,506127)، ألقمه بعدد تقريبـي له هو (0,506). وهذا التقريب الذي يبلغ أقل من جزء من ألف جزء تقريب مقبول في الأقمار الصناعية المخصصة للأنواء الجوية. وقيام هذه الأقمار بتسجيل الحرارة بكفاءة جزء من ألف جزء من درجة الحرارة يعد نجاحًا كبيرًا. غير أن خطأً في الأرقام وفي المعلومات يبلغ جزءًا من ألف جزء يكبُر بمضيّ الوقت حتى يبلغ هذا الخطأُ مائة بالمائة، أي إن جميع المعلومات الأولية المسجلة تصبح دون أي فائدة جراء هذا الخطأ الصغير أو هذا التقريب.
لذا فلكي نحسب تقلبات الجو المستقبلية بدقة، علينا أن نعرف القيم الأولية بدقة كبيرة. وهذا ينطبق على أي منظومة ديناميكية أخرى، غير أنه بينما يكبر الخطأ بمرور الزمن في النظم الخطية بشكل خطي، يكبر الخطأ في النظم غير الخطية بشكل يتعلق بمعادلة المنظومة، أي إن زيادة الخطأ في النظم غير الخطية تكون بشكل متسارع جداً بحيث يستحيل تخمين التقلبات الجوية لزمن طويل؛ لأن الخطأ يكبر هكذا في منظومة من الدرجة الثانية (10، 100، 1000،… إلخ).
فكّر بعض الباحثين بأننا إن استخدمنا نماذج متقدمة للأنواء الجوية وأجهزة كومبيوتر متقدمة جدًّا سنحصل على تخمينات أفضل ولمدة أطول. لذا استخدموا في الولايات المتحدة الأمريكية كومبيوتراً متقدماً جدًّا اسمه (Control Data Cyber 205) حيث يستطيع إجراء ملايين العمليات في الثانية الواحدة، بينما كان الكومبيوتر البدائي الذي استخدمه “لورنز” يستطيع إجراء 60 عملية فقط في الثانية. وبينما اكتفى “لورنز” باستعمال 12 معادلة، فقد حُمّل الكومبيوتر العملاق (500,000) معادلة. وتناولت هذه المعادلات حساب كل المتغيرات المتعلقة بالجو بدءًا من تغير الحرارة نتيجة تكاثف الرطوبة، إلى تأثير الجبال على هبوب الرياح… إلخ. وانهالت المعلومات وقياسات المتغيرات الجوية (حرارة، ضغط، ريح… إلخ.) من جميع الولايات الأمريكية ومن الطائرات في الجو ومن الأقمار الصناعية ومن السفن إلى هذا الكومبيوتر العملاق. ومع كل هذه المحاولات والجهود فلم ينجح تخمين التقلبات الجوية إلا لمدة يومين أو ثلاثة أيام فقط. ثم ابتعدت هذه التخمينات بعد هذه المدة عن الواقع. أما بعد أسبوع فلم تعد للتخمينات أي قيمة.
نظرية تأثير الفراشة
وهناك مصطلح “تأثير الفراشة” وضع بشكل نصف جدي ونصف هزلي، وهو يقول بأن فراشة عندما تهز جناحيها في “طوكيو” فليس بمستبعد أن تُحدث هذه الهزّة عاصفةً في “نيويورك” بعد شهر. وذلك لبيان كيف أن الأنواء الجوية نظام فوضوي ومعقد وتؤثر فيه عوامل عديدة جدًّا، وكيف ولماذا يستحيل تخمين التقلبات الجوية بعد فترة معيّنة بسبب تضاعف التأثيرات والمتغيرات والأخطاء الدقيقة والصغيرة جدًّا، وتضخمها بسرعة كبيرة. والأمر الذي نريد التنبيه إليه هو أن العواصف لا تتشكل بتأثر التيار الهوائي التي تحدثها الفراشة، لأن الطاقة موجودة في الجو، ولكن المهم توجيه هذه الطاقة. أي إن حدوث تغيرات عديدة في الجو مرتبطة بالظروف والشروط الموجودة في بداية النظام بشكل حساس جدًّا. وهناك عملية حسابية أخرى تذكر أن غياب تأثير قوة جاذبية ألكترون واحد في مجرة أخرى في الطرف الآخر من الكون، قد يُحدث بعد ثلاثة أو أربعة أشهر عواصف في كوكبنا.
وكما ظهر آنفًا، فقد تبين خطأ المقولة العلمية الكلاسيكية الغربية: “إن علمنا القوانين الأساسية المؤثرة في منظومة، وكنا نعلم الظروف الأولية لها بشكل تقريبـي نستطع حساب التطورات المتوقعة لها بشكل تقريبـي حسب الفترات الزمنية القادمة”. لأن بعض المنظومات مرتبطة بشروطها وظروفها الأولية ارتباطًا وثيقًا وحساسًا جدًّا. لذا فأنت لكي تعرف ما ستؤول إليه هذه المنظومة فيما بعد، يجب أن تعرف ظروفها الأولية والشروط المحيطة بها معرفة خالية من أي خطأ وبشكل مفصل تمامًا. وبما أن الأنواء الجوية منظومة من هذه المنظومات، فإننا مهما حاولنا جمع المعلومات الحساسة والدقيقة حولها، فهناك مقدار زمني إن مرّ عليها فلا تكون لهذه المعلومات أي قيمة. ومن المستحيل أن يزيد هذا المقدار الزمني على بضعة أسابيع في أي حال من الأحوال. لذا فإننا نعلم الآن لماذا كان هطول الغيث -وهو جزء من الأنواء الجوية- في القرآن الكريم يعد من “المغيبات الخمس”. من ثم فإننا نقول بأن الحقائق القرآنية لا تشيخ ولا تبلى بمرور الزمن، بل تتوضح أكثر، وإن تقدُّم العلم في المستقبل سيقدم لنا فهمًا أعمق لما جاء في القرآن الكريم.
ـــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.
الهوامش
(1) فمثلا عندما تريد مراقبة حركة ألكترون فإنك لن تشاهد الألكترون إلا إذا أرسلت لها فوتوناً ضوئية، ولكن هذا الفوتون عندما يصطدم بالألكترون يغير من مكان وموضع الألكترون، فلا يمكن معرفة موضع الأكترون وعزمه الحركي معاً. (المترجم)
(2) مثلا يعد الكون نظاماً مغلقاً لأنه لا تأتيه طاقة من خارجه، أما الأرض فتعد نظاماً مفتوحاً لوصول طاقة الشمس إليها من الخارج. (المترجم)
(3) المنظومة الخطية: هي المنظومة التي يكون فيها المجهول من الدرجة الأولى، مثال؛ x=y+5، والمنظومة خير الخطية: هي المنظومة التي يكون فيها المجهول من الدرجة الثانية أو أكثر، مثال؛ y=x2+x+20 أو y3+x2=x+5
(4) لأن هناك انتقال مستمر للحرارة في الكون من الأجسام الساخنة -كالشموس- إلى أجزاء أبرد منها. ويستمر هذا الانتقال حتى تتساوى درجة الحرارة في جميع أرجاء الكون، وهذا يعني موت الكون. (المترجم)