الفرح، عنوان السعادة الباطنية

كل فرد، كل أمة، كل كائن، لا يقدر على اجتياز مسافة نفسه، يتخطى حواجزها المانعة، يجتازها في طرفة عين بطولية، فهو أعجز ولا شك عن اجتياز ما خرج عن ذاته من مسافات وعبور غاباتها المظلمة وجبالها الشاهقة.

إن الأمر يغدو بهذا الشكل الهندسي، صارما في تكوّنه وتحققه، قاطعاً كالسكين في نفاذه، لأنه يدخل ذلك في إطار السنن القهرية الغلابة.

أنت -كلك- تنبع من قلبك، من أرضية نفسك، أي إن داخلك يتحكم في خارجك، خارجك ليس إلا نباتاً ينمو ويكبر من أرضية نفسك، فإما ورداً وياسميناً وإما شوكاً وزقوماً. لذا فالفسحة الشعورية والباحة النفسية، والمساحات الهائلة التي تؤسس مملكة نفسك، بحاجة إلى مزيد من “المراقبة” و”العناية” و”الاستصلاح”، كي تسلم من شر الطفليات المتسللة عبر السياج، ومن شر كل أذى يتلصص من النوافذ المشرعة، ويتنكر في شعاعة نور أو هبة هواء. ولن يتم هذا الاستصلاح الداخلي إلا بضبط شبكة المفاهيم الحياتية التي تؤطر حركية الإنسان في هذا الوجود، ومن أخطرها مفهوم “الفرح” والذي تضع له الآية الكريمة محددات ضابطة، يقول تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(يونس:58).

فالمفهوم الحقيقي للفرح في ضوء هذه الآية، هو الفرح الحياتي الكياني، ليس الفرح المؤقت في عمر الإنسان، والذي يدوم لحظة أو يوماً أو شهراً أو سنة، بل هو الفرح الدائم المستمر الصادر عن كيان الإنسان كله، النابع من روحه السماوية ومن إيمانه الكوني. فهو ليس بالفرح الدنيوي الذي يحصر الإنسان في ذاته الضيقة، ويتركه أسير حياته الدنيوية القفصية، فلا يتطلع إلى أفق ولا يبصر ما خلفه؛ بل هو الفرح الأخروي الذي يرفع الرأس عالياً -فيبصر مَدَّ البصر ويسمع مَدَّ السمع- ويرى ويعرف ويؤمن فيلتزم ليسعد. الفرح هو السعادة الباطنية التي لا ترتبط ولا تستند على “الأحياء” و”الأشياء”، بل تنبع كالجدول الرقراق من “عل”، وتحفر مجراها في روح الإنسان لا في بدنه وشهواته، وتصب وراء سدود الدنيا.

من بداهات السنة القهرية الغلابة، أن كل حضارة في منحناها المنحدر، تعج بمفاهيم مغلوطة تحسبها صوابية قويمة، ولا تراها كما يراها التاريخ الفاحص الخبير بتوراً مرضية تُقرح الجسم، وتتلف فيه الحياة النابضة.

ذلك هو الفرح الذي هو السعادة؛ نبعها من عل (بالدين)، ومجراها روح الإنسان (باطنه)، ومصبها وراء الكواليس والحواجز الدنيئة (بالأشواق الروحية)، وآثارها: الخضرة الممرعة والنماء والغنى (الطمأنينة والاستقامة).

وتكشف الآية عن أعماق الإنسان -كل إنسان- في الأرض أية أرض، حينما تربط فرحه المؤقت المحدود بمتاع الدنيا أو بعنصر “الجمع”، فمن طبيعته “الجمع” و”التكاثر” في الأموال والأولاد والنساء…

وهي مقتنيات ومعطيات “الدنيا”، والإنسان الذي يربط حياته بها في سعادتها وشقائها، يكون قد عرض نفسه للأرجحة والاهتزاز والتمزق، بين الحزن مرة والقلق مرة والفرح العابر مرة أخرى، ويظل عرضة للهز والجذب، فلا حياته إلى قرار ولا هي في استقرار. ويمارس مع ذاته لعبة “عصب العيون” أمداً طويلاً إلى أن تتحول اللعبة الخطيرة عادة مستحكمة لا يجد منها فكاكاً.

والآية تحذر من خطر هذه اللعبة التي يمارسها الأشقياء من البشر، فيربطون أخطر مكوّن نفسي وهو “الفرح” في مفهومه القرآني، بأخطر فتنة مزلقة وهي مقتنيات الحياة، ويغفلون -كما شاءت لهم اللعبة الطفولية– عن اليد الساهرة الكالئة المنعمة، فهي سذاجة وهي عناية تبعدهم عن مصدر العطاء والرزق والمقتنيات.

وهكذا فالآية تحدد السند الحقيقي للفرح البشري في الدنيا، إنه “الفضل” و”الرحمة”، وبهما يحيا الإنسان “سعادة الفرح” و”فرح السعادة”، ليس بالضحك فقط، لأنه في معظم الحالات قتل للروح، وخنق للتطلعات، وتعبير عن الخواء والسأم، خصوصاً وقد وضعه الإطار الحضاري المعاصر في صيغ فنية حداثية جذابة، فزُخْرِف بتحاسين المدنية وتقنياتها الفنية، وجُعِلَ وقد أخذ شكله السرطاني المتورم “بوابة” الفرح، ومنفذ السرور، وعنوان السعادة الباطنية.

وهي جريمة تزوير في حق هذا المفهوم الخطير (الفرح)، تمارس ضد سعادة الإنسان. جاء الإسلام لكي يحد من شرها، ويبين للبصائر حقيقتها، بعد أن يقلع عنها العصاب اللعين الذي رضيت بداءة وضعه للعب، ثم استحكم فصار عادة وألفة آسرة، والشياطين الجدد وراء المغفلين يهرجون ويضحكون، ويضعون عصاباً جديداً لكل مغفل جديد.

ومن بداهات السنة القهرية الغلابة، أن كل حضارة في منحناها المنحدر، تعج بمفاهيم مغلوطة تحسبها صوابية قويمة، ولا تراها كما يراها التاريخ الفاحص الخبير بتوراً مرضية تُقرح الجسم، وتتلف فيه الحياة النابضة.

إنها ليست في الواقع إلا صخوراً تثقل عربة الحضارة المنحدرة، لكنها حضارة بعجلة واحدة، وهي “المادية المبهظة”، أما العجلة الثانية فتعاني من الهزال والضعف ما تعاني، فتنحدر بعجلة واحدة، وهي مثقلة بمفاهيم خاطئة كالصخور الثقال… أفجع بها.