في ختام ندوة “ونحن نبني حضارتنا” من الأنصاري إلى الأنصار

مَن قال إن ما يسِم الحياة من أحداث هو وليد صدفة؟! مَن قال إن ثمة فوضى تحكم نسق الحياة وتصبغ عالَم الشهادة؟!

مَن ذا الذي يصدِّق أن شيئًا ما -أيَّ شيء حتى وإن كان وقوعُ ذبابة على صحن أحد منَّا- هو مجرد حدث لا معنى له في منطق المعنى؟!

نعم، إن غلوَّ تصوراتنا وشطط أحكامنا -أحيانًا- لا تعني أن المدرَكات تابعة أو هي موشور لإدراكنا القاصِر. فشتان بين الشيء وظلِّ الشيء، وشتان بين الحقيقة وشبح الحقيقة.

فريد الأنصاري، شمس تسطع من المغرب

مِن هذا المقام السامق، الذي لا يجد للعبثية والفوضى مكانًا، أقرأ العلاقة بين المفكر العبقري “فريد الأنصاري” -رحمه الله- وميلادِ “جيل الأنصار” -حماهم الله- من رحم المغرب الحبيب.

“فالأنصاري” لم يمت ولم يغادر، إذ لا تزال أنفاسه الطاهرة تعبق في كل بقعة من بقاع الأرض الطيبة، ولا تزال كلماته الصادقة توقظ الضمائر مع كلِّ حنين وأنين وفي كل وقت وحين.

إن “الأنصاري” قد وهب الحياة لأهله وذويه، وفدى بنفسه لبلده وقومه؛ فكان -اليومَ- مغربُه مشرقًا، ولقد كان -قبل ذلك- مشرقُه مغربًا.

كيف ذلك؟

إنه -رحمه الله- يوم أشرق فجرُه الصادقُ على المغرب، اختفت الخفافيش، وكفَّت البوم عن زرع الشؤم، وارتفع الريح الصقيع -مِن تلكم الربوع- ومعه الشتاء الفظيع، فحلَّ محلَّهما النسيمُ العليل والربيع الجميل.

أشرق على الناس بقلبه المؤمن الموقِن وبعقله الذكي الأصمعي، فصدَق أن يقال فيه ما قاله الدكتور “عبَّادي” في وصفه: “إنه اكتشف عرف القرآن، فسما إلى مقام الملائكة وأهل الجنان”، ثم لقي القبول في السماء، ونزل غيثًا هامعًا على أهل الأرض، هدية ورحمة من رب الأرض والسماء.

ثم إن “الأنصاري” -رحمه الله- يوم فارق الحياة واستجاب لنداء الأزل وأفلَت شمس روحه الزكية… حينها، أشرق على المغرب يومٌ يذكِّرنا بيوم الفتح، أو إن شئت فقُل: هو أشبه ما يكون بيوم الحديبية؛ بدت فيه أمارات الخير، ولَمَّا تكتمل بعدُ تمثُّلاته، حاشا في أفئدة الملهَمين وعلى أرواح الواصِلين.

المهاجرون والأنصار

“الهجرة” حركة بعد سكون، وطاقة بعد كمون، ووعي بعد غفلة، وجهاد بعد غفوة… أما المهاجِرون فهم جميعُ من تَخذ الهجرة سبيلاً، فلم يبخل ولم يذلَّ ولم يتقاعس.

أما “النصرة” فأبرز أركانها القلبُ المحبُّ، والعقل النافذ، والساعد الكريم، والسيف الصقيل، والخلق المتين… وأما الإنصار فهم كلُّ من جعل تلكم الصفاتِ أرضه وسماءه، وصبغ بها ليله ونهاره، ولم يتردَّد طرفة عين ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر.

ومن ثم، كان لكل زمان مهاجروه وأنصاره، تمامًا كما أن لجميع الأحايين صحابته وأتباعه، ولذا وجب على كل مسلم أن يكون صحابيَّ وقته أو تابعيَّ زمانه، وأن لا يكون ثالثهما فيزيغ. يجب على كل مؤمن أن يجعل الهجرة والنصرة منتهى آماله ومطلق أحلامه.

واليوم، كانت الهجرة من سفوح الأناضول، وجاءت النصرة من شواطئ المغرب: في الدار البيضاء، والرباط، ووجدة، وفاس، ومكناس… وليست جميعُ الشطآن محاذية للبحار والمحيطات.

هنالك، في جامعة محمد الخامس، بالرباط، رباطِ الفتح، رأيتُ بأمِّ عيني “أنصارًا”: منهم رجال ومنهم نساء، منهم فقراء ومنهم أغنياء، منهم طلبة علم ومنهم علماء… جميعُهم جاء ليعبّر عن حبه وولائه، ويعلن عن وفائه وصفائه، ولقد سمعتُ صوتًا أجشَّ يقول: “إن أتاكم الناس بدلائهم أو حتى ببحارهم وأنهُرهم، فلستُ أملك سوى قِربة واحدة جفَّت منذ أمد، ولا أعرف هل ستحمل الماء أم أنها ستهريقه أرضًا… حسبي أني جئت بقربتي، وأنشدت مع الشاعر:

ذي قربتي يا أخي في الحبِّ أرسِلْها

إلى الحبيب، فهل يُرضيـه متَّسمـي؟

ثمَّ يمَّم بنا الوفدُ شطر وجْدَة، فاستقبلنا على مشارفها “رجال جبال”، من طينة المصطفى ومن روْح المجتبى، قاسمونا قلوبهم وعقولهم، فأطعموا وآووا، ونصروا وانتصروا… ولم تطُل الزيارة كثيرًا، لكأنها نسمة من ريح الجنَّة هبَّت، ثم انقطعت لتعود ولو بعد حين.

ومِن عادة الناس أن يلحِقوا ذكرَ فاسٍ بمكناس؛ ولكنَّا اليوم -لحاجة في النفس لا تباح- بدأنا بمكناس، ثم ولينا شطرَ فاس، وفي مقبرتها الهادئة تقطَّعت بنا الأنفاس، واختنقت، فكانت العينُ كاشفةً سرَّ الكوامن، ذلك أنَّا وقفنا على قبر “الأنصاريِّ” -رحمه الله- ونحن نعجب من شبر ترابٍ يأوي قلبًا وعقلاً ومعنى، في حينٍ يعجز الكون برمَّته عن حمله، ومما زاد الدمع سخونة والكبد تمزقًا، أنَّ قبر العالم الفذِّ غير مجصَّص ولا مبلَّط… وحسُن أن نقول: إن القبر عرف بالإنصاري، ولم يُعرف هو بالقبر، لكن الكثير من القبور في العالمين، لا يعرَف مَن ينزلها لولا أنَّ العلامات والكتابات، والجصِّ والرخام، تذكِّر بساكنيها.

رحمك الله يا أنصاري برحمته الواسعة، وأسكنك ربوع جنانه الفسيحة.

في فاسٍ ألفى فتحُ الله قلوب الناسِ منشرحة، والعقول منهم مفتَّقة، والأيدي مبسوطة، وهي تقول بملء فيها: “ها نحن نستقبلكم، ونقاسمكم كلَّ ما نملك من معنًى ومبنًى، فلا تحرمونا عِطر “الأنصار” ولا تفوِّتوا علينا فرصة “الانتصار”“.

ولقد كان للوفد لقاء حميميٌّ علميٌّ في جامعتها، فلم تتَّسع المقاعدُ للحاضرين وذلك ليلاً بعد العشاء، وليس من العادة أن يؤمَّ الناس حرَم الجامعة حين الظُّلمة إلاَّ أن يتيقَّنوا أنَّ ثمة نورًا حقيقًا، وفكرًا دقيقًا، وقلبًا رقيقًا.

ولقد كانت “الدار البيضاء” محطَّ الرحال، وعنوان الجمال والجلال، منها البداية وفيها النهاية، فما شبعت العينُ، وما ارتوى القلبُ، ولا رضي العقل… ذلك أنَّ لها أسرارًا لم تفصح عنها بعدُ، وأنَّ في كنفها جواهر أجَّلت بيانَ رونقها إلى أمد… كأنها تغازلنا بوجوب العودة، بل لكأنها تتمنَّع، والتمنع في الحبِّ أقسى أنواع الحبِّ… لو يتذوَّق المتذوِّقون.

أنا لا أبغي تخصيص اسم من الأسماء، فهم مئاتٌ وهم ألوفٌ، ممن حضَّر وحاضر، وممن آوى ونصر، وممن بكى وأبكى، وممن دعا وألح في الدعا… والوسم قد يُخفي المحاسن، وقد يبعِّد القريب، ويقلِّل من شأن ذي الشأن… فقصاراي أن أقول، وجميعُ هؤلاء الأنصار في قلب القلب… حسبي أن أقول: “إنَّ المغرب اليوم قِبلة، وعلى جبينه الأغرِّ نلقي قُبلة”، ثم نردف ونقول:

“مهلاً أخيَّ، أصِخ أذنك، وألقِ السمع، فها عقبةُ، وابن سعدٍ، وطارقٌ… يحيُّون الفاتح، والرومي، والنورسي… أما اليوم فقد انبرت المغرب على بكرة أبيها لتحيي فتح الله، وها قد جاءت من كل حدب وصوب لإعلان البيعة، بيعةِ النصرة والانتصار… ولقد كان الأنصاري أمير هذا الركب، فها قد رحل وترك أهله على المحجَّة، أوفياء بررة، ما بدَّلوا وما غيروا… لكنهم آووا ونصروا.

سأل السائل وهو يحترق شوقًا في لحظات الوداع الزكي: هذا دور الأنصار قد تمَّ، فما هو دور المهاجرين يا ترى؟!

مقتبسات من الندوة

د. وائل بن جالون (رئيس جامعة محمد الخامس)

تصبُّ حوارات هذه الندوة في دعم العلاقات المغربية التركية، وتصبُّ في توسيع معرفة الأدباء والمفكرين بعضهم ببعض، وتصبُّ في فكر الأستاذ الكبير فتح الله كولن، المربِّي الفاضل، والناشِط في مجال التربية بالخصوص. وإنَّ التربية هي رهان المستقبل، ولا تنميةَ بدون تربية وتعليم، وهذه هي المعضلة الأساسية بالنسبة لنمو بلادنا.
د. عبد الرحيم بنحادة (عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط)

عندما يتأمَّل المرء في الخطوات الأولى لحياة الأستاذ فتح الله كولن، يقف عند مسألة التعدُّد اللغويِّ لديه؛ فإلى جانب اللغة التركية، حرص على تعلُّم اللغتين العربية والفارسية. وبذلك تمكَّن من الإمساك بالمداخل الأساسية لدراسة الحضارة الإسلامية، من جميع جوانبها.

د. العربي بوسلهام (المسؤول عن مسلك الماستر “خصائص خطاب الشرعي وأهمية في الحوار”)

أفكار الأستاذ فتح الله كولن في كتابه “ونحن نبني حضارتنا”، ترتكز على أبعاد تثبِّت الهوية، وتنفتح على الذات وعلى الآخر كذلك، وتستنفِر قدرات الإنسان نحو العطاء والبناء. وقد نظِّمت هذه الندوة بالتعاون مع مجلة “حراء”. ونحن فخورون بهذه الشراكة التي نعقدها باسم مسلك الماستر في الدراسات الإسلامية العليا، بعنوان “خصائص الخطاب الشرعي وأهميته في الحوار”.

مصطفى أوزجان (مستشار مجلة حراء)

الأستاذ فتح الله كولن إذا قرأناه سنجد أنه لا يبني أفكاره على ردودِ أفعالٍ، إنما يطرح مشروعا حضاريا ينبثق من جذورنا الروحية. إنَّ الثروة الحقيقية، ليست أن تمتلك التكنولوجيا أو أن تحقِّق التقدم الاقتصادي؛ إنَّ أكبر قيمة هي قيمة الإنسان: الإنسانُ الكفء الذي يستطيع أن يفعِّل موارده العقلية مع موارده القلبية، وأن يزاوج بين العلوم الدقيقة الدنيوية، والعلوم الدينية القلبية.

د. بشرى البداوي (جامعة محمد الخامس)

إنَّ الأستاذ فتح الله كولن ليس مجرَّد مفكِّر له دراسات وأبحاث وكتب ومؤلفات؛ الأستاذ صاحبُ مشروعٍ وبرنامج من أجل بناء الشخصية المسلمة، على أسسٍ جديدة، ووفق رؤية ومنظومة فكرية وحركية متكاملةٍ، قوامها الانطلاق من الذات، والانفتاح على الآخر؛ دون مركَّبات نقص ودون إسقاطات.

د. مريم آيت أحمد (جامعة ابن طفيل)

عندما تقرأ للأستاذ كولن في الفلسفة تراه فيلسوفًا، وعندما تقرأ له في الشعر تراه شاعرًا، وعندما تقرأ له في الجانب الروحاني العرفاني تراه عرفانيًّا، وعندما تقرأ له في الحقل المعرفي العلمي الإبستمولوجي تراه عالمًا، وعندما تقرأ له في المجال السياسيِّ تراه خبيرًا استراتيجيًّا سياسيًّا. هذا هو الرجل الموسوعة، هذا هو مجدد القرن الواحد والعشرين. فتح الله كولن قدّم لنا أنموذجًا عمليًّا وأجاب على سؤال “كيف نقدِّم رسالة إنسانية هادئة، تصل إلى القلوب، وتغيِّر الأعماق، قبل أن تغير المظاهر والشكليات؟”.

د. عبد الحميد مدكور (جامعة القاهرة)

الذي حدث مع الأستاذ فتح الله كولن، ومع هذه النقلة الحركية، هو الانتقال من مضغ الفكر واجتراره، إلى عملٍ تتحوَّل به المجتمعات من طريق إلى طريق، ومن مستوى إلى مستوى، ومن مرحلة تاريخية – ينبغي أن تنتهي بكلِّ آثارها – إلى مرحلة أخرى جديدة.

د. يوسف الكتاني (جامعة القرويين)

اسمحوا لي أن أقول بأنني أرّختُ للصحوة الإسلامية منذ أكثر من أربعين سنة، ولكني لم أعثر على داعية يشبه الأستاذ فتح الله كولن. لمَّا أتى فتح الله كولن أتى بمنهج جديد، وأسلوب جديد، وأسس جديدة، ارتبطت رأسًا بما سماه “عصر السعادة”، وهو عصر النبوة. من هنا كان منطلق فتح الله كولن، الذي كان مسكونا بالقرآن الكريم إلى حدِّ أنه يبشر بأنَّ العصر الآتي، وأنَّ عصر النهضة، وعصر التحول إلى الإسلام، هو عصر القرآن، باعتباره آخر رسالة إلهية إلى البشر جميعًا.

د. محمد أمين السماعيلي (جامعة محمد الخامس)

فتح الله كولن قال بلسان حاله: أنا أريد أن أكون خادمًا لمحمد صلى الله عليه وسلم. إنما أريد أن ينتصر القرآن ليس بالسيف، ولكن كما انتصر على يد محمد صلى الله عليه وسلم بالأسوةِ الحسنة وبالتي هي أحسن.

د. عز الدين توفيق (جامعة الحسن الثاني)
إن الأمر الذي لا تخطئه العين لمن يقرأ مؤلفات الأستاذ فتح الله كولن، هو أنه يختار مفرداته بعناية، بخاصَّة تلك التي يؤسِّس عليها مفهومَه للنهضة. فهو يعلم أنَّ المفردات أدواتٌ للتواصل بينه وبين القرَّاء، وهذا الانتقاء يُجريه داخل القاموس الإسلامي. فهو يفضِّل المصطلحات الأصيلة على المستورَدة، ويؤكِّد قدرته هذه الأصيلة على الوفاء بالمقصود. فهو يفضِّل مثلا مفردات: الإصلاح، والتغيير، والبعث، والإحياء، والتجديد، والبناء… على مصطلحات مثل: التقدُّم، والحداثة، والتغريب… وبما أنه يستعمل في الغالب مفردات أصيلة، فهو يلتقي مع كثيرٍ من المفكِّرين المسلمين، في لغة تعين القارئ على فهم مقصوده.

د. محمد باباعمي (مدير معهد المناهج بالجزائر)

قلتُ في نفسي: نحن نعلم أنَّ العرب قد اكتشفوا الصفر، وهذه مبرَّة في تراثهم الحضاريِّ… واليوم، أعتقد أنَّ الأستاذ فتح الله كولن قد اكتشف “الواحد”… فله مقولة عميقة جدًّا، يقول فيها: “كن صفرًا في حظوظ نفسك.. كن صفرًا في طلبك للأجر.. كن صفرًا في لهثك وراء الشهرة.. فعندما تكثر الأصفار، ابحث عن “الواحد الأحد”، الذي تضعه أمام أصفارك، فتكون به لا بغيره، معه لا مع غيره، إلى جواره لا إلى جوار غيره… تكون رقمًا كبيرًا لامتناهيًا: تكون كلَّ شيء. مِن هنا ننطلق فنقول: إنَّ الأستاذ فتح الله كولن كان يبحث عن نظرية كلِّ شيء.

جمال تُرك (مدير مركز الدراسات الأكاديمية بإسطنبول)

إن مصطلح “تأشيرة الوجدان” مهمٌ جدًّا عند الأستاذ فتح الله كولن. كان يقول: “يا أخي، إذا أردت أن تقول شيئًا، فلابد أن يكون على كل كلمة “تأشيرة الوجدان”. قال مرَّة: “إذا أردت أن تقول: سبحان الله فقلتَ “سُبْـ” ثم نظرت إلى داخلك، فوجدتها لا تنبثق من القلب، فاسكت يا أخي وإلا فأنت تكذب”.

د. سليمان الدقور (الجامعة الأردنية)

ما دمنا نتكلَّم عن المشروع الحضاريِّ الذي يقدِّمه الأستاذ فتح الله كولن، فلابد من أن نقدِّم هذا الفكر على أنه مشروعٌ، له رسالته، وله أهدافه، وله آياته، وله مجالاته، وله وسائله، وله أساليبه وطرقه. حديثنا عن الأستاذ نفسِه هو حديث عجيب… عجيبٌ، لكونك ترى أمامك رجلاً عُجن بقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾، وبقوله سبحانه: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾، فكان شعاره: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.