لقد خُلق الجلد بصورة ملائمة لكي يستجيب لجميع المنبهات الآتية إليه من الداخل ومن الخارج، وهو من أكثر الأعضاء احتواءً للخلايا. والعرق سائل بلا لون وبلا رائحة يتم إفرازه عن طريق الغدد العرَقية البالغ عددها مليونين ونصف مليون غدة، وتنتشر في الجسم بنسبة مئة غدة في كل سنتمتر مربع. وتتوزع هذه الغدد على الجسم بشكل متوازن، ولكنها لا توجد في حلمة الصدر، ولا في الأجفان، ولا الشفاه، وكذا لا توجد في الأعضاء التناسلية. وهناك حِكم في عدم وجودها في هذه المناطق من الجسم؛ فمثلاً، عندما يرضع الطفل من ثدي أمه، لا يضطر إلى مص الجلد الذي اختلط فيه الملح الآتي من العرق، أي لا يمص الملحَ مع الحليب. ولو كانت الغدد العرقية موجودة على الشفاه، لاضطر الإنسان إلى لعق شفتيه المتعرقتين على الدوام.

بنية الغدد العرقية

تتكون غدة العرق ذات الشكل الأسطواني (أي الأنبوبي) من قسمين: القسم الملتوي تحت الجلد الذي يفرز العرق، والقسم الأنبوبي الذي يمتد في القسم الخارجي من الجلد، أي في “البشرة” (Epidermis)، وفي القسم الداخلي، أي في “الأدمة” (Dermis).

وكما في غدد أخرى، تقوم الغدة العرقية بإفراز سائل أولي، ويقوم هذا السائل عند مروره بالقسم الأنبوبي بتغيير كثافة المواد الموجودة هناك.

أنواع الغدد العرقية

يوجد نوعان من الغدد العرقية في أجسادنا، نوع “أكرين” ونوع “أبوكرين”؛ يوجد النوع الأول في جميع مناطق الجسم ولا سيما في باطن الكف وفي أخمص القدمين، ويفرز مادة “ماروكرين” مع قليل من السايتوبلازم، ويبلغ عددها أكثر من مليونين. تبدأ هذه الغدد بالتكون ثم بالتكامل في منطقة بشرة الجلد بدءًا من الشهر الثالث من عمر الجنين، وتبدأ عملها بعد الولادة بعدة أسابيع، حيث توجد في إفرازات هذه الغدة الماء والصوديوم والبوتاسيوم والكلور والبيكربونات والإدرار وحوامض أمينية.

يتطور النوع الثاني من الغدة العرقية -التي تفرز إفرازاتها إلى الخارج مع كمية من السايتوبلازم- في الشهرين الرابع والخامس من الحمل. وتوجد هذه الغدة في الإبط وبجوار الحلمة والفم، وتفرغ إفرازها عادة في بصلة الشعر، ويحتوي إفرازها الشفاف -الذي يستمد رائحته من فعاليات البكتريات- على البروتينات والكربوهيدرات والأمونيا والحديد.

تنتج الرائحة المميزة لكل إنسان بواسطة هذه المواد، وتتعرف الكلاب وبعض الحيوانات الأخرى على أصحابها بفضل هذه الرائحة… ونظرًا لأن هذا الإفراز مرتبط بالمنبهات الهرمونية والعاطفية، وتعمل بالارتباط مع الهرمون الذكري، فهو يبدأ بعد سن البلوغ.

لماذا نعرق؟

عملية التعرق عملية توازنية وُضعت في الجسم لتحقيق بقاء حرارة الجسم ضمن الحرارة المطلوبة للجسم، أي لتأمين راحة الجسم، وهي تعمل ضمن آليات عديدة لتأمين هذا الأمر. إن عملية التعرق عملية تبريد للجسم، فعند الدخول إلى وسط حار تبدأ بعض نُظم الجسم بالعمل مثل “الترموستات”، وتنظّم وتوازن حرارة الجسم.

درجة حرارة جسم أي إنسان يتمتع بالصحة، تكون مستقرة، ونادرًا ما يتجاوز الاختلاف الحراري نصف درجة مئوية؛ إذ يجب المحافظة على حرارة الجسم مهما كان الوسط حارًّا ضمن حدود ضيقة ومعلومة.

وتبلغ درجة الحرارة في داخل جسم الإنسان البالغ عند سكونه وعدم حركته؛ (37) درجة مئوية، بينما تتغير حرارة جلد الإنسان ضمن حدود (25-31) درجة مئوية. ويعود فضل اتزان هذه الحرارة إلى غدة “هايبوتلاموس” (Hypothalamus) (أي إلى غدة ما تحت السرير البصري). وهذه الغدة جزء من القسم الوسطي للدماغ، وتزن (4) جم تقريبًا، وقد وُضع فيها مركزان، المركز الأول في القسم الأمامي منها ووظيفته صيانة الجسم من ازدياد الحرارة، والمركز الثاني في مؤخرتها ووظيفته صيانة الجسم من انخفاض الحرارة.

عندما لا تكون هناك حرارة كافية حول الجسم، تبدأ آلية التعرق بالعمل فتتوسع شرايين الدم، ويزداد انسياب الدم في العروق بنسبة ضعفين أو ثلاثة أضعاف، وهكذا يتم نقل الحرارة من الأقسام الداخلية للجسم إلى الأغشية الخارجية له.

ويوجد في جلد الشخص البالغ عندما يكون في حالة راحة وفي ظروف طبيعية، ما يقارب (5-10%) من الدم المار من القلب في الثانية الواحدة. وعندما تزداد الحرارة زيادة كبيرة، يرسل القلب (50-60%) ما يأتيه من الدم إلى الجلد، فإن استمرت درجة الحرارة في الارتفاع داخل الجسم على الرغم من هذا، يبدأ الجسم بإفراز العرق.

ولكن هناك عوامل تؤثر على عملية التعرق التي تعد وسيلة مهمة للتبريد، منها الملابس التي تعرقل وتقلل عملية تبخر الماء، وكذلك نسبة الرطوبة في الجو. إن ارتفاع حرارة الجسم درجة واحدة، يؤدي إلى زيادة نبض القلب (18) نبضة في الدقيقة تقريبًا.

ولكي تتم صيانة حرارة الجسم في حدود معينة وباستمرار، فقد وضع الخالق عز وجل منظومات عديدة في الجسم تعمل بشكل مشترك لتحقيق هذا الأمر. فمثلاً، يقوم الإنسان الذي يشعر بالحرارة، بلبس الملابس وبتقليل حركته، وبالبحث عن مكان بارد.

يؤدي كل جرام من الماء المتبخر، إلى فقدان الجسم (580) سعرًا حراريًّا. وحتى إن لم يشعر الإنسان بأنه يعرق، فهو يعرق في الحقيقة؛ حيث يتبخر من الرئة كل يوم من (450-600) ملجم من الماء.

عندما تكون حرارة الجلد أكثر من حرارة الجو المحيط به، فهو يفقد الحرارة إما بواسطة طريقة الإشعاع أو بواسطة “التوصيل الحراري”. أما إن كانت حرارة الجو أكثر من حرارة الجلد، فلا يمكن فقد حرارة الجلد عن طريق الإشعاع أو التوصيل الحراري، على العكس، يكون الميل إلى اكتساب مزيد من الحرارة. في هذه الحالة تكون الطريقة الوحيدة أمام الجلد للتخلص من الحرارة، هي التعرق وعملية تبخير العرق… وهكذا تصل حرارة أجسادنا إلى المستوى الاعتيادي للحرارة.

تأثير الملابس على حرارة الجسم

تقوم طيات الملابس بالاحتفاظ بجزيئات الهواء فيها، وهذا يؤدي إلى زيادة سمك طبقة الهواء حول الجلد، ويؤدي بالتالي إلى تقليل سرعة فَقْد حرارة الجسم عن طريق التوصيل الحراري. تقوم الملابس بتقليل فَقْد حرارة الجسم إلى النصف، أما الملابس التي تُلبس في المناطق القطبية فتقلل فَقْد الحرارة إلى السُدس.

وقد نجح الإنسان بواسطة مخترعات عديدة، في تخطي مشاكل الحرارة السائدة في مختلف المناطق الجغرافية. أما الحيوانات التي تعيش في المناطق القطبية؛ مثل الدب القطبي وطائر البطريق والفقمة… فقد وهبها الخالق جلدًا ملائمًا لتلك البيئة الباردة، وريشًا عازلاً للحرارة، وطبقة دهنية سميكة تحت الجلد.

تنتقل نصف الحرارة تقريبًا من الجلد إلى الملابس، عبر المسافة الصغيرة بينهما عن طريق الإشعاع وليس عن طريق التوصيل الحراري. لذا فإن غلّفنا الملابس بطبقة رقيقة من الذهب، زاد العزل الحراري للملابس بشكل كبير. وبهذه الطريقة يمكن تقليل وزن الملابس المستعملة في المناطق القطبية إلى النصف.

كما أن الملابس الفضفاضة تزيد من العزل الحراري؛ لأنها تزيد من سمك الطبقة الهوائية الموجودة بين الجسم والملابس… فإن كانت الملابس ضيقة يَحدث العكس، أي يزيد فَقْد الحرارة ويصعب المحافظة على حرارة الجسم؛ حيث يبدأ الجسم بالشعور بالبرد. والشيء نفسه يرد عندما يحاول سكان الصحراء، المحافظة على أنفسهم من الحرارة الزائدة، لذا يلبسون ملابس فضفاضة تغطي الجسم كله.

إن تبللت الملابس فقدت كل قابليتها تقريبًا على الاحتفاظ بالحرارة؛ لأن الماء يقوم بزيادة فَقْد الحرارة إلى أكثر من عشرين ضعفًا. لذا ففي المناطق الباردة يتم الاهتمام والعناية بحفظ الملابس من البلل من أجل صيانة الجسم من البرد. ويتم الأخذ بنظر الاعتبار عدم التعرض إلى الريح عندما تكون ملابس الإنسان الداخلية مبتلة بالعرق؛ لأن هذا البلل يخفض من قابلية العزل الحراري كما قلنا.

ومن جانب آخر تقوم الملابس الصوفية بامتصاص العرق وبتسهيل عملية التبخر، بينما تمتاز الملابس القطنية بأن لها قابلية أكبر من الملابس الصوفية في الاحتفاظ بالعرق.

رئات صغيرة للجسم

يقوم الجسم عن طريق العرق بطرد العديد من المواد الضارة -مثل المادة البولية “يوريا” وحامض اليوريا والملح- التي تتكون داخل الجسم نتيجة العمليات الحيوية التي تجري فيها. لذا يمكن القول بأن الغدد العرقية قد أُنيطت بها وظيفة تنقية الدم مثل الكلية.

وما إن تثار هذه الغدد العرقية إثارة خفيفة، حتى ينساب سائل العرق من القناة ببطء، ويتم امتصاص جزء من الصوديوم وأيونات الكلور الموجودة في هذا السائل من قبل الجسم. وهذا في صالح الجسم، لأن هذه المواد ضرورية له، وإلا اختل التوازن الكهربائي للجسم وظهرت مشاكل عضلية وعصبية فيه، وتتولد الحاجة في الجسم إلى مزيد من الأملاح.

نحن نعرق كثيرًا إن كان الجو حارًّا أو إن قمنا بحركات وبنشاط جسدي كبير، لذا فلا يجد الجسم متسعًا من الوقت لتلافي النقص الحاصل آنذاك في أيونات الصوديوم والبوتاسيوم والكلور. فإن لم يتم التعويض في مثل هذه الحالات من التعرق الزائد عن السائل المفقود، ظهرت مشاكل في انتظام الدورة الدموية في الجسم. لذا يجب المحافظة على الشيوخ وعلى الأطفال في الأيام الحارة من التعرض للشمس، وإعطاؤهم السوائل بكميات كبيرة.

لماذا نعرق عندما نتأثر أو نُثَار؟

عندما نتعرض لأمر مثير أو مهيّج، تنشط منظومة العصب السمبثاوي، ويتم إفراز مادة الأدرينالين من الغدد الموجودة فوق الكلية. وهذه المادة تؤثر بشكل خاص على زيادة إفراز الغدد العرقية الموجودة في الإبط وفي راحة اليد.

وبنشاط المنظومة السمبتاوية هذه، يتغير العزل الكهربائي الموجود في الجلد، ويعتمد جهاز الكشف عن الكذب على وجود هذه الظاهرة. كما أن فقدان التوازن الهرموني في الجسم وإرهاق الغدة الدرقية، وتناول الكحول، وأخذ مقادير كبيرة من مادة “الكافائين”، وإدامة تهييج منظومة العصب السمبثاوي، يؤدي إلى زيادة التعرق.

وعدا هذا، فهناك حالات أخرى يزداد فيها التعرق، مثلما نرى ذلك في بعض أنواع مرض السرطان، وعند حدوث أزمة قلبية، وفي مرض الشلل الرعاش، وفي مرض الإفراط في إفراز الغدة الدرقية… يكون التعرق في هذه الحالات، إشارة إلى هذه الأمراض أو نتيجة لها. لذا فقبل البدء بعلاج ظاهرة التعرق المفرط، يجب معرفة السبب. وأحيانًا يكون التعرق نتيجة بعض العوامل الجينية غير المعروفة حاليًّا.

ماذا يحدث لو لم نتعرق؟

يطلق علم الطب على فقدان الجسم كله أو بعضه لقابلية التعرق اسم “Anhydrous”، ومن أسبابه؛ الإصابة بسرطان الجلد، وضعف الغدة الدرقية، ومرض البواسير والجذام، ومرض “الصدّاف” (Psoriasis)، وكذلك نتيجة استعمال بعض الأدوية، وكما تظهر عوارض في أي محرك ترتفع فيه درجة الحرارة، كذلك فمن يُولد وهو لا يملك في جسده غددًا عرقية، لا يستطيع جسمه القيام بعملية تبريد، لذا قد يموت من ضربة الشمس أو من ارتفاع الحرارة.

التعرق عملية تكييف للظروف الجوية

عندما يذهب شخص يتمتع بالصحة ويعيش في ظروف مناخية اعتيادية إلى بلد آخر ويتعرض هناك إلى حرارة الجو، يستطيع في بادئ الأمر التعرق بمقدار لتر واحد فقط في الساعة، ولا يكفي هذا المقدار لطرح الحرارة الزائدة عن الجسم. ثم يزداد مقدار التعرق عنده تدريجيًّا حتى يصل إلى (2-3) لترًا في الساعة.

ومقدار الزيادة في مقدار التعرق، مرتبط بسعة وقدرة الغدد العرقية على الإفراز. ومع ذلك فإن مقدار الملح الذي يفقده الجسم، يبدأ بالانخفاض بعد تكيف الجسم مع الظروف المناخية الجديدة. ويعود هذا إلى زيادة إفراز هرمون “الدسترون” الذي يعمل على تأمين تكيف الجسم مع البيئة الجديدة.

وبينما يفقد الشخص -الذي لم يتكيف جسمه مع البيئة الجديدة والظروف المناخية الجديدة- (15-30) جم من الملح في الجو الحار، نرى أن هذا المقدار ينخفض إلى (3-5) جم كل يوم بعد انقضاء (4-6) أسابيع عليه، بعد تكيفه مع الظروف الجديدة.

وقلة ضياع الملح هنا -على الرغم من زيادة التعرق- تُعد هبة من هبات الخالق. فلو استمر ضياع الملح مع التعرق الكثير، لحدث انخفاض في ضغط الدم، وضياع في سوائل الجسم، مما يؤدي إلى حدوث صدمة وإلى الموت. لذا كان على الإنسان أن يحافظ على نفسه حتى يتعود جسمه على المناخ الحار.

 

رائحة العرق

العرق في الحالة الطبيعية والاعتيادية سائل دون رائحة، ولكنه يكتسب رائحة بفعل إفراز الغدد الدهنية، وبفعل نشاط البكتريات الموجودة فوق الجلد وقيامها بتكوين تراكيب متعددة. والإنسان يشكو عادة من رائحة العرق، وتقوم بعض مركبات التجميل المستعملة بسد منافذ الغدد العرقية الموجودة تحت الإبط، وهذا يؤدي إلى بقاء المواد الضارة -التي يجب طردها خارج الجسم- في داخل الجسم، وهذا أمر ضار للجسم.

من أجل منع التعرق المفرط الذي يؤثر سلبيًّا في حياة الناس، يجب أخذ بعض الأمور بنظر الاعتبار:

مثلاً، على الأشخاص الذين يتعرقون كثيرًا، أن يقللوا من شرب الشاي والقهوة وغيرها من السوائل التي تنبّه وتزيد التعرق، وأن يبتعدوا أيضًا عن الفلفل والتوابل والأطعمة التي تحتوي عليهما بكثرة. كما أن الملابس تلعب دورًا مهمًّا في التعرق. كما أن التعرق الذي يحدث في جميع أجزاء الجسم والرائحة المنبعثة بسببه، ولا سيما في أخمص القدمين وفي راحة اليد وتحت الإبط، تعود إلى تناول بعض أنواع الأغذية؛ كالثوم والبصل والباسطرمة والنقانق.

وعلى الذين يتعرقون كثيرًا، استعمال الملابس الصوفية والقطنية أو ملابس الكتان، وأن يتجنبوا استعمال الملابس الداخلية التي تزيد من التعرق، وأن يتجنبوا أيضًا لبس الجوارب أو الأحذية المصنوعة من المواد الاصطناعية، والقيام بغسل الأجزاء التي تتعرق كثيرًا في أجسامهم، وألا يلبسوا الأحذية الرطبة من العرق إلا بعد أن تجف.

أفضل طريقة للتخلص من رائحة العرق هي الاستحمام في فترات متقاربة، وإذا لم يستحم الشخص مدة طويلة، فإن جسمه سيمتص مرة أخرى المواد الضارة التي تكون قد خرجت مع عرقه في السابق. وبما أن عملية التعرق هي عملية دفاعية، فإن منع التعرق -ولا سيما في أشهر الصيف- يشكل دعوة للتعرض للضربة الشمسية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي (رحمه الله).