يجد المتأمل المتدبر فيما كتبه العلامة محمد البشير الإبراهيمي (1889م-1965م) أنه أمام نص أدبي رفيع، يكاد أن يكون من نصوص عصر الاحتجاج اللغوي جيء به خصيصًا إلى هذا العصر، فتحكّمه بناصية اللغة العربية وآدابها قلّ أن تجد له مثيلاً بين شيوخ زمانه وأقرانه شرقًا وغربًا، قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في وصف تحكّمه بناصية اللسان العربي من خلال محاضرة ألقاها: “كان تمكّنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رُزق بيانًا ساحرًا، وتأنّقًا في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها”.
وإنْ تعجب من لغته فالعجب الأكبر يتجلى في المباحث التي دبّجها يراعه، فما من فن كتب فيه إلا كان فيه فارسًا لا يبارى كأني به لا يحسن غيره. وبالرغم من الميادين الفسيحة التي تجشّمها فقد ظلّت ميزة التحكّم والضبط المعرفي والمنهجي ميزة عامة. وتلاحظ حين القراءة له، أن للرجل ذكاء وقّادًا ومؤهّلات ذهنية تولّدت عنها نباهة عقلية وضبط منهجي من المصاف العالي، يدفع إلى الاعتراف له بالقدرة على الضبط التي بزّ بها الأقران وفاق بها علماء الزمان من الشرقيين والغربيين، ولم يكن اهتمامه بها لأجل تفكّه أو تندّر أو رغبة في غلبة بقدر ما كان متعلّق الهمّة ببعث فعالية مفقودة.
تحويل المعارف إلى فعالية
يتجلى في مجمل ما كتب، اهتمامه البالغ بمسألة الفعالية؛ فتكاد مسألة الفعالية أن تكون طابع مجموع مسموع ومكتوب محمد البشير الإبراهيمي، فلا تكاد تجد نصًّا غير ناطق بسؤال الفعالية في مجموع ما نقل عنه. بلغ الاهتمام بمسألة الفعالية في فقه الرجل مداه، فيصرّح بها في التراجم ويعمل على استجلابها في ميادين المباحثة والنظر والتأصيل، ورأس مداخل الفعالية الإحسان والذي من مقتضياته أن لا يكتب الراغب في تحصيل الفعالية في غير ما يتحكّم فيه من المعارف ويحسن بحث موضوعه.
يؤكّد حضور سؤال الفعالية ما اقترحه على كتاب “البصائر” (لسان حال الجمعية)، فنصحهم بالكتابة في بيان وشرح حقائق الدين وفضائله، وآداب الإسلام وحكمه، والسنن الميّتة بإحيائها نشرًا ونصرًا بعد إحيائها علمًا وعملاً، ورفع الأصوات بلزوم إحيائها… وفي كل ذلك تصريح ببعث الفعالية المفقودة في درس تلك المباحث، مع التذكير بوجوب نقلها من المباحثة النظرية إلى التنفيذ العملي، ويتجلى المقصد نفسه من اهتمامه باستجلاب العبر والعظات من مباحث التاريخ وسير أمجاده مع الحث على ضرورة إحيائها. ويتوقّف نجاح تلك الجهود على تطهير النفوس من الأمراض الاجتماعية والنفسية، لهذا ينصح بالتوقّف عند الأمراض الاجتماعية وجوائحها النفسية والخلقية التي حجبت عنا وجه الحياة، وأخفت علينا مسالكه، وينصح بعدم الاكتفاء بالتوقّف النظري البحت، بل يجب الانتقال إلى تشريح الداء وبيان الدواء، تيسيرًا للتمزيق العلمي والعملي للجلابيب التي أضفاها الجهل على عقولنا فلم نفقه معنى الحياة وفقه الحياة، ليس من قبيل المعارف التي تحشى بها الرؤوس ويتباهى بها في المجالس، بل لأجل الفعالية… ولا يتوقّف في بعث الفعالية عند الميادين المشار إليها وفق الرأي الشائع، بل ينتظر بيان العلم في آفاقه الواسعة، مع الترغيب فيه ودعوة الغافلين أو المتخلّفين عن ركابه إلى التشمير عن ساعد الجد، فيسارعوا إلى التمسّك بأسبابه ويأخذونه من أقطابه. ويختم تلك الميادين الباعثة على الفعالية باللغة وعلومها وآدابها فيدعوهم قائلاً: “ابحثوا ونقّبوا واحدوا ركابها وطربوا، واسعوا لبيان فضلها سعيكم لتعليمها، وأشربوا قلوب أولاد هذه الأمة: أنّه ما غرّد بلبل بغير حنجرته”.
وفي مقام الفعالية يَكْبرُ عليه أن تتحوّل المعارف الإسلامية أشباحًا بلا أرواح بفعل التقليد وقلّة الاستقلال لفقد الاستدلال، والأدهى من كل ذلك أن يلقى الاهتمام بالاستدلال الذي هو عنوان الاستقلال، التضييق عوض المباركة والتأييد. قال الأستاذ في سياق تأبينه للمرحوم محمد بن شنب (أحد أعلام الجزائر الأفذاذ): “أما أسلوب البحث العلمي وبناؤه على المحاكمة والنقد فهو ظاهرة الرجل الخاصة به ونعته الصادق”، ثم ينتقل إلى بيان سبب الإعجاب به فيقول: “السبب هو أنني نظرت في جميع ما لدينا من تراث الأوائل مما نسمّيه علمًا، وأمعنت في تتبّع أطوار العلوم الإسلامية من النقطة التي وصل إليها مداها في الاتساع إلى المنشأ الأصلي، فوجدت أن جميع علومنا الإسلامية في جميع أدوارها يعوزها الاختبار والنقد، يعوزها الاستقلال في الرأي، تعوزها الشجاعة… إلى أن جاءت عصور الانحطاط؛ فكان ذلك الإعواز بذرة فاسدة للتقليد في جميع علومنا حتى أصبحت أشباحًا بلا أرواح، فلا عجب إذا أكبرت الرجل وأكبرت كل من يوفّق إلى غرس هذه الملكة فيه في نفسه.”
الفاعلية المنشودة برنامج عملي عام
مقصد الفعالية؛ أن نتحوّل من مجتمع التفكّك والتخاذل وضعف البصائر في الدين والدنيا إلى مجتمع خاص منتج لنهضة منظّمة في جميع لوازم حياتنا الاجتماعية والخاصة. وألزم هذه اللوازم أربعة: الدين والأخلاق والعلم والمال، وهو أصل ما ترمي إلى تحقيقه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بطريق إرشاد الأمة إلى هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
ذكر الأستاذ أنّ الإسلام لارتكازه على مبدأ الفعالية، دفع أبناءه بروحانيته العنيفة إلى ميادين الحياة بعد أن عرّفهم بمعاني الحياة، دفع الأبطال إلى الفتح وجعل الرفق رديفه، ودفع أولي الهمم إلى الملك وجعل العدل حليفه، ودفع العلماء إلى التربية وجعل الإصلاح غايتها، ودفع الأغنياء إلى بناء المآثر وجعل عزّة الأمة نهايتها، فَسَدّ كل واحد ثغرة وأبقى فيها الآثار الخوالد، أبقى الأبطال تلك الفتوحات التي هي مفاتيح ملك الإسلام، وأبقى الخلفاء تلك السير التي هي جمال الأيام، وأبقى تلك الأسفار الكريمة التي عطر التاريخ أزهاره، وأبقى الأغنياء هذه المعاقل الباذخة التي هي بيوت الله”.
بيّن الأستاذ أنّ الفعالية المنشودة برنامج عملي عام، يفرض على المسلم الهيمنة على قسمي الحياة فيكون سيّدًا في الحياة العلمية والحياة العملية، ولكنّ السيادة في الثانية متوقّفة على السيادة في الأولى، ذلك أنّ “الثانية منهما تنبني على الأولى قوّة وضعفًا وإنتاجًا وعملاً، وإنكم لا تكونون أقوياء في العمل إلا إذا كنتم أقوياء في العلم، ولا تكونون أقوياء في العلم إلا إذا انقطعتم له ووقفتم عليه الوقت كله… إن العلم لا يعطي القياد إلا لمن مهره السهاد وصرَف إليه أعنّة الاجتهاد”.
أسس بعث الفعالية
1- العودة إلى هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، والتركيز على الجوانب الهدائية -وفي ذلك لفت نظرٍ إلى ترك المباحثات النظرية التي لا طائل منها في حاضر الأمة ومستقبلها- والتركيز في تفسير القرآن على تفهيم معانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه والتفهيم… تابع للفهم، فمن أحسن فهمه أحسن تفهيمه. وفهم القرآن يتوقّف -بعد القريحة الصافية والذهن النير- على التعمّق في أسرار البيان العربي، والتفقّه لروح السنة المحمدية المبيّنة لمقاصد القرآن، الشارحة لأغراضه بالقول والعمل.
قصارى ما يطلب في هذا الباب، التركيز على لباب العلم والرمي إلى أغراضه السديدة، واطّراح القشور وما لا محصول له من المباحث، وإيثار العلم المفهوم على العلم المحفوظ.
2- التأسيس لثقافة الاستقلال في الرأي بتشجيع ثقافة الاختبار والنقد والاستدلال، ولا طريق لبلوغها من غير الشجاعة الأدبية والنفسية، وتكاد آثاره أن تكون ناطقة بهذا المقصد، ولكن الخلوص إلى عقلية الاختبار والنقد ثم الاستدلال تأسيسًا للاستقلال في الرأي والمحاكمة، بحاجة إلى صناعةٍ تستوجب إعادة النظر في طرائق التعليم ومصنفاته ومستوى تحصيل معلميه. وقد بذل الأستاذ جهدًا مشكورًا لأجل تحقيق هذا القصد بالتوجيه والإرشاد والتنظيم، وكان القصد من تلك الأعمال الجليلة، دفع عقلية “سلّم تسلم” و”سلّم للرجال في كل حال”. قال الأستاذ: “فالعزّة اللامعة في جبين هذه النهضة العلمية هي اقتران العلم بدليله، فأصبح علماؤنا يعملون بالدليل، ويدعون إلى الدليل ويطالبون بالدليل، ويحكمون بالدليل ولو على أنفسهم”.
3- التأكيد على أن الحياة الدنيا للعاملين وأن العاقبة في الآخرة للمتّقين، وكلاهما برنامج عملي يتأسس على الفعالية في شعاب الحياة. وفي هذا الرأي توجيه النظر إلى البذل في شعاب الحياة، فالدنيا يأخذ البشرُ منها بقدر ما بذلوا لتذليلها على وفق أمر ربها.
4- ينتظر من أفراد الأمة السعي والاقتناع التام بأن العناصر الضعيفة محكوم عليها بالذوبان وفق سنة الله في الكائنات، وهذا يفرض أن تملك الأمة عناصر القوة وتدفع عن نفسها عناصر الضعف، ولا مطمع في إنشاء القسم الأول ودفع الثاني بغير أمة تعيش الفعالية في أعمق أعماقها. وأهمّ عناصر التأسيس للفعالية التعلّم. والأمة التي لا تتعلّم يغتالها الجوع العقلي، والأمة التي لا تعمل يغتالها الجوع البدني، لهذا فالأمة التي تتعلّم هي أمة المستقبل، وأمة المستقبل هي أمة صحيحة العقول، صحيحة العقائد، صحيحة التفكير صحيحة الأبدان، صحيحة الأعمال.
5- الاستفادة من الأمم المتقدمة في العلم والمعرفة والنظام، فخذوا منها العبرة، وخذوا من مصائرها العظة… فالنظام أساس النجاح في التربية التعليمية والاجتماعية، ونظامنا يستوجب الإصلاح في كلّ مناحي عملية التعليم ثم الحياة، ولا ضير على الإطلاق من الإفادة من التجربة الإنسانية في مجال التنظيم.
6- الأخلاق بها يبزّ المسلمون غيرهم من الأمم الأخرى: العلم وحده مهما تشعّبت أغصانه، وتفرّعت أفنانه، وأسلس عصيّه حتى فتحت مغلقات الكون، لم ولن يغن عنها فتيلاً مما تغني الأخلاق والفضائل. إنّ العلم لا ينهى مفسدًا عن الإفساد، ولا يزع مجرمًا عن الإجرام، ولا يميت في نفوس الأقوياء غرائز العدوان والبغي على الضعفاء، بل ما زاد المتجرّدين من الفضيلة إلا ضراوة بالشر، وتفنّنا في الإثم…لهذا يحث الأستاذ الإبراهيمي على جعل الفضيلة رأسمال نفوس التلاميذ وجعل العلم ربحًا. وعمدة انسياب الأخلاق في ضمائر المتلقين تخلُّق المرشد بالخلال التي يدعو إليها. لهذا ينصح الأستاذ لأجل تيسير فعالية جنود الإصلاح في عملية الإصلاح، أن يعتنوا بإصلاح أنفسهم ومداواتها من داء الأنانية والغرور والتحلي بالأخوة، والتعاون والتساند والتضامن.
توجيه الأمة للصالحات وتربيتها التربية العقلية والروحية المثمرة، ورياضتها على الفضيلة الشرقية الإسلامية، وتصحيح نظرتها للحياة، ووزنها للرجال، وتقديرها للأعمال، وتحقيق روح التآخي بين مكوّنات المجتمع، ومحبّة إخوانهم في العلم، وأوثق وسيلة للتآخي والمحبّة، الاتصال والتعارف ثم التعاون، ودعوتها إلى التطوّر العلمي الذي وسيلته العمل والإنتاج والدخول في الميادين العامة والتغلغل في شؤون الحياة”. وهذا يفرض البعد عن الأساليب الشائعة بين علماء زمانه، إذ كان ديدنهم الإجابة عن الأسئلة دون توقّف عند أسبابها وطرق دفعها، ذلك أنهم رجال انقطعت الصلة بينهم وبين أهل زمانهم… وبهذه السيرة التي كانوا عليها خرجت الأمة من أيديهم إلى أيد لا تحسن قيادة الأمة.
7- تشجيع التخصص العلمي والابتكار والمطالعة المستمرة، قال الأستاذ: “الحقَّ أقول إن شبابنا كسول عن المطالعة، والمطالعة نصف العلم أو ثلثاه. فأوصيكم يا شباب الخير بإدمان المطالعة والإكباب، ولتكن مطالعتكم بانتظامٍ حرصًا على الوقت أن يضيع في غير طائل، وإذا كنتم تريدون الكمال فهذه إحدى سبل الكمال.
8- إتقان اللغة العربية علمًا وتعليمًا، وإجادتها تكلّما وكتابة وخطابة، فالنهضة تقوم على ألسنةٍ تنثر دررًا من العلم، وألسنةٍ تنفث السحر من البيان، وأقلامٍ تسيل رحمة في مواطن الرحمة وتمجّ السمام أو تنثر السهام في مواطن الغضب للحق و الذود عن الحق، ولا طريق لتصوير تلك الحقائق بغير التحكّم في اللسان العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لأحمد طالب الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، 1997، بيروت.
والعلامة محمد البشير الإبراهيمي، هو من أبرز أعلام الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي. كان صدّاحًا بما انتهت إليه قناعاته، ولا يخاف في إبدائها لومة لائم، ترأس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد وفاة الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس (16/04/1940م). وكانت وفاة الإبراهيمي يوم الخميس 18 من محرم 1385هـ، الموافق 20 من مايو1965م.