أسماك مضيئة في قيعان البحار

لعل الضوء من أهم العوامل -بجانب الحرارة، والضغط المائي الكبير، وتيارات المد والجزر، ونسبة الملوحة المرتفعة، ومصادر التغذية… إلخ- التي تؤثر تأثيرًا كبيرًا في حياة الكائنات البحرية التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات. ففي هذه الأعماق السحيقة -حيث انعدام الرؤية بسبب “الظلمة التامة المركبة” الناجمة عن السحب، والأمواج السطحية والداخلية- كيف تسير وتهتدي وتتغذى وتتكاثر الكائنات البحرية المتنوعة؟!

عديدة هي الكائنات البحرية، بينما يُقدّر عدد أنواع الأسماك المعروفة عالميًّا، بحوالي 24 ألف نوع. ويعيش نحو 60% منها في المياه المالحة وفي مختلف مستويات العمق، ومن أهمها “أسماك الأعماق/القاع”. وفي العديد من الكائنات البحرية التي تعيش في ظلمات القاع الحالكة، ثمة “إضاءة ذاتية حيوية” (Bio-luminescence). فهي تستطيع توليد وإنتاج وإصدار “الضوء البارد” غير المُصاحب بإشعاع حراري.

وتتميز معظم أسماك القاع المضيئة بلونها الداكن؛ إما سوداء أو بنيّة داكنة أو بنفسجية… إلخ. وغالبًا ما تكون أجسامها رخوة لينة عديمة القشور أو تحتوي على القليل منها. وتُعد أسماك “الستومياتويد” من أكبر مجموعات أسماك القاع المضيئة. تتميز بعيون كبيرة قادرة على جمع أكبر قدر ممكن من الضوء، كما أن أجسامها متطاولة (طولها ما بين بضعة سنتيمترات – مترين). وفكوك ضخمة مزودة بأسنان كبيرة تضفي عليها “مظهرًا مرعبًا”. وفي أحد أنواعها “السمكة الأفعى” تبرز الأسنان “كأنياب” خارج فم السمكة. والبعض منها له لون أسود مع وجود صفوف من الأعضاء المضيئة “Photophores”. وفي أنواع أخرى تتدلى أسفل فكوكها خيوط مضيئة تزيد على طول السمكة أضعافًا مضاعفة.

ومن أوضح الأمثلة للأسماك المُضيئة سمك “أبو الشص” أو “المبتلع الأنقليس” (Angler fish) أو (Chaenophryne longiceps) وهناك حوالي 150 نوعًا منه، وهي تتوزع على البحار الدافئة والباردة، والضحلة والعميقة. ويبلغ عدد الأنواع التي تعيش في قاع البحار (في أعماق تصل إلى 2000م تحت سطح البحر) مائة نوع تقريبًا. وبعض أسماك هذا النوع ينمو ليصل إلى المتر طولاً، إلا أن معظمها لا يتجاوز بضع سنتيمترات.

وقدرة أسماك “أبو الشص” على السباحة ضعيفة، وكثير منها يستعمل الزعانف الصدرية للزحف ببطء فوق قاع البحر فتتربص ما تقتات به، ومن أبرز صفاتها؛ شوارب مضيئة تتدلى من ذقونها. وعضو الصيد “الشَرك الضوئي” (يشبه حيوانًا قشريًا مغريًا). أو”صنارة مضيئة” تبدو كزائدة/بقعة مضيئة من نسيج حي تجذب إليها الأسماك والفرائس الصغيرة، ومن ثم تلتهمها بتلك الخدعة. وتوجد أسماك أخرى تمتلك “مفصل” على طول خيط الصنارة المضيئة، تستطيع أن تثنيه سريعًا لتلتهم الفريسة المُثبتة على خطاطيف حادة صغيرة.

على عكس “المصابيح الحية” التي يضيئها الكائن البحري وقتما يشاء، ويطفئها وقتما يشاء. توجد أنواع من الأسماك جعل الله لها في مناطق من جسمها، مساكن تقطنها أنواع “متكافلة” من البكتريا المضيئة. لكن الضوء البكتري ضوء مستمر لا تتحكم به السمكة إضاءة وإطفاء، لذا وهبها الله تعالى “غشاء داكنًا” يشبه الجفن، فترخيه لتحجب به الأضواء، وترفعه عن المصابيح فتضيء، كما هو الحال مع سمكة “فوتوبليفارون” التي لها بقعة من هذه البكتريا أسفل كل عين، وعندما تريد السمكة أن تطفئ ضوءها، تعمد إلى إسدال ذلك كـجفن عليها.

 أسماك كالغواصات

وتبدو الأسماك المضيئة كغواصات أعماق، يسير البعض وقد أضاء مصابيحه الحية إضاءة مستمرة، وقد تطفئ الضوء لفترة ثم تعيد أنارته لفترة أخرى، وتتكرر الإنارة والإطفاء بنظام ودقة وتوقيت رائع. فقد تنير المصابيح لعشر ثوان، ثم تطفئها لخمس، وتنير وتطفي كأنها تتبادل الإشارت مع أسماك أخرى؛ إلا أن بعضها قد يضيء لمدة نصف ساعة، ثم يغلقها ومن ثم يعاود الكرة لنفس المدة. ولدى البعض عضلات قوية تقبضها وتبسطها كيف شاءت، فتزيد أو تضعف من قوة الضوء إذا أرادت. كما لدى البعض الآخر أسنان قد يشع الضوء منها، ولبعضها ألسنة قد يشع الضوء منها كذلك.

أما “سيبيولا” (Sepiola) وهو من الرخويات، مثل السبيط، فينشر “ساترًا من ضوء” يغشي عين من يهاجمه من كائنات أقوى منه، ثم سرعان ما يهرب. فلقد تعاون “سيبيولا” مع بعض أنواع المضيئة من البكتريا التي تسكن القاع؛ أخذها وزرعها ورباها في جيب نسيجي خاص، وأعطاها الحماية والغذاء، بينما تنطلق هي من الجيب لتغشي عيون الأعداء من حوله. ويوجد نوع من “سبيط” الأعماق له عينان كبيرتان، ويحيط بكل منها خمسة مصابيح صغيرة، يشع كل مصباح بضوء أبيض وقد يتحول إلى أزرق عميق، تعمل كـ”كشافات” تضيء له الطريق في ظلمات البحر. وهناك عشرة مصابيح أخرى تنتشر على أماكن مختلفة من جسمه، منهما مصباحان في مؤخرته يشعان ضوءًا أحمر وكأنهما “مصباحا الخطر” المثبتان في خلف السيارة. وتملك بعض أسماك “الحبّار مصاص الدماء” (Vampyroteuthis İnfernalis) أعضاء مضيئة خفيفة على جسمها، ومؤخرًا وُجد بأن لها أعضاء خفيفة ومضيئة في ذراعيها، حيث يمكن رؤية التوهج الذي يوجد على أجهزتها المضيئة، على طول منتصف الذراع. وثمة حبّار صغير من جنس “Abraliopsis” يمتلك عدة أنواع مختلفة من الأجهزة الخفيفة، حيث إن الحوامل الضوئية تغطي الجزء السفلي من الجسم.

ومن الكائنات البحرية “مشط البحر الهيلامي” (Comb Jelly)، ويتميز جسمه بامتلاكه شعيرات دقيقة متسلسلة يستخدمها في تحريك جذعه في الماء، وكذلك يحتوي في منطقة الظهر على خلايا على شكل شرائط تبدو كأنها مخيطة، ولهذه الخلايا قدرة على توليد الضوء. إن هذه الميزة موجودة في كل أنواع مشط البحر تقريبًا، وكل نوع له ميزة خاصة به؛ فمشط البحر الأحمر يبدأ باللمعان حالما يتم لمس جسمه، وفي الوقت نفسه يطرح في الماء موجات مضيئة من جسمه، وهذا السلوك يمثل أسلوبًا للتمويه والتخفي عن أعين الأعداء.

أما نوع “الشّوكيات” (نجوم البحر، وكستناء البحر، ونجوم البحر الشعرية) فإنها تعيش بالقرب من الشواطئ، وبين الشعب المرجانية، وفي الخلجان البحرية. تقوم هذه الأحياء بتوليد الضوء الخاص بها لإرهاب الأعداء. تمتاز أطراف هذه الحيوانات وعمودها الفقري باللمعان، حيث تطلق موجات مضيئة من جسمها حالما تتعرض لهجوم خارجي.

وهناك أحد أنواع النجم البحري يعيش على عمق ألف متر تحت سطح البحر يتميز بـ”التوهج الضوئي”، حيث تشع من أطرافه أضواء خضراء تميل إلى الزرقة. ويوجد نوع آخر من نجم البحر يبدأ باللمعان حالما يشعر بهجوم العدو، بل ويرمي العدو بأحد أذرعه المستمرة باللمعان لجلب انتباه العدو أو إبعاده، ومن ثم يستطيع الهروب والنجاة. ومن مجدافيات الأقدام (القشريات) يوجد “Gaussia”، وهو عملاق في عالم “الكوبيبودا” (Copepoda). فمعظم الكوبيبودا يكون مليمترًا أو اثنين، وهذا النوع يبلغ 27 مليمترًا عبر الهوائيات، ويبرع في إنتاج ألمع عروض الضوء الحيوي، إذ يحدث ذلك عندما يُخرج نفحات من الضوء عند القيام بالهروب.

 طبيعة المصابيح الضوئية، وكفاءتها الحيوية

“حاملات الضوء” عبارة عن مصابيح صغيرة على درجة عالية من الكفاءة. تتركب من قرنية شفافة تتلوها عدسة، ثم عاكس مقعر عبارة عن نسيج خاص يقابل شبكية العين هو المسؤول عن توليد الضوء، وقد تقوم القرنية والعدسة بتجميع هذا الضوء قبل أن ينبثق خارج جسم السمكة. وتختلف أعضاء الإضاءة في هذه الأسماك من حيث العدد والتوزيع والتعقيد، وغالبًا ما توجد على جانبيها، أو على بطنها، أو رأسها، ونادرًا على سطحها العلوي. وتعتبر قدرة الأسماك على توليد الضوء إحدى عجائب خلق الله في الطبيعة. وقد يكون هذا الضوء باهتًا يصدر بشكل متقطع من وقت لآخر، أو قد يكون مبهرًا مستمرًّا.

ينتج هذا الضوء من تحويل الطاقة الكيميائية إلى طاقة ضوئية، حيث تتحول مادة “اللوسفرين” (Luciferin) بعد اتحادها مع الأكسجين، لتكون مادة “الأوكسي لوسفرين” المضيئة. ويقوم بهذا التفاعل إنزيم “اللوسفريز” (Luciferase) الذي يرتبط بمصدر الطاقة في الخلايا الحية “أدينوسين ثلاثي الفوسفات” (ATP)، ويظل مرتبطًا بمصدر الطاقة حتى تأتي إشارة من الخلايا المتخصصة لإصدار الضوء الحيوي، فينفصل الإنزيم عن مصدر الطاقة ليقوم الإنزيم بتحفيز تحول مادة اللوسفرين للاتحاد بالأكسجين وتتأكسد لتكوين المادة المضيئة (الأوكسي لوسفرين). ويمثل هذا التفاعل الفريد، عملية الأكسدة الوحيدة المعروفة في أجساد الكائنات الحية التي لا يصاحبها إنتاج قدر مدرك من الحرارة، بل إن الطاقة الكيمائية تتحول جميعها إلى طاقة ضوئية، مما يجعل كفاءة ذلك الضوء الحي يصل إلى مئة بالمئة، في حين أن مصابيحنا أو آلاتنا لا تستطيع بلوغ تلكم النسبة النهائية في تحويل كل طاقتها إلى ضوء. ومن العجيب أن كل نوع من هذه الأحياء البحرية له مركبات كيمائية خاصة منتجة للضوء، وله إنزيماته الخاصة كذلك.

وقد أجرى “هارفي” أحد أفذاذ عصره المختصين بالكشف عن “سر الضوء الحيوي” عدة تجارب في هذا المجال،(1) فوجد أنه لو أُعطِيتُ جزءًا واحدًا من المادة التي ينبعث منها الضوء الحيوي، ووزعته في 40 مليار جزء من ماء البحر، لاستطعت أن ترى ضوءها في هذه الكمية الهائلة من الماء، شرط وجود الإنزيم الخاص مع الأكسجين. كما يشير إلى أن لو وُزع جزء واحد من الإنزيم على 8 مليارات جزء من ماء البحر، فإنه يستطيع أن يؤكسد مادة انبعاث الضوء الموجودة في الماء، ويبعث بضوء تحس به العين البشرية. كما أن الأكسجين الداخل في هذا التفاعل، يستطيع بعث الضوء -في وجود شروط التفاعل من إنزيم ومادة كيمائية- إذا كان تركيزه جزءًا واحدًا في كل مائة مليون جزء من الماء. فلو قارنا هذا الدينامو الحي الصغير الذي يبعث بإضاءته القوية مع حجمه الضئيل مع الدينامو الضخم الذي صنعه البشر، لتبين كيف تتضاءل إمكاناتنا أمام “عطاءات” الخالق سبحانه وتعالى لمخلوقاته…عطاءات لا تعلو على دقتها دقة ولا على كفاءتها كفاءة:

﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾(النمل:88).

 وظائف وفوائد الإضاءة الحيوية

في الأنواع المختلفة من الكائنات البحرية المضيئة، كالأسماك والجوفمعويات والقشريات وغيرها، خُلقت وسائل الإضاءة الذاتية/التكافيلية فيها بتصميمات مبهرة ودقيقة: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49). ويمتاز نحو 95% من الأحياء المائية في الأعماق بإشعاع “ضوء حيوي مختلف الألوان”. فلكل نوع من أسماك الأعماق عدد محدد من المصابيح، ولكلٍّ ضوؤه الخاص (أزرق، أبيض، أخضر…)، وموقعه وقوته التي لا تتغير: ﴿هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(لقمان:11).

كما أن لهذه “الإضاءة الحيوية، والمصابيح الضوئية” العديد من الوظائف والفوائد… فالأسماك المضيئة تستخدم “أضواءها” لترى بها الأشياء في ظلمات الأعماق؛ فالأعضاء المضيئة حول العينين تجعل “مجال الرؤية” مضاءً لمسافات قصيرة على الأقل. فلإحدى “الأسماك الستوماتويدية” قدرة على إلقاء حزمة قوية من ضوء أزرق لمسافة تبعد عن جسمها بمقدار 60 سم، إلا أن أكثر مواقع أعضاء الإنارة التي تميز حاملات الضوء، هي على الجهة البطنية، ويستعمل هذا الضوء ككشافات تسلط على الطحالب والكائنات الدقيقة، والتي تتغذى عليها العديد من أسماك الأعماق… كما تشكل “أنماطًا” مميزة يتعرف بواسطتها أفراد النوع الواحد، فتستخدم الضوء “كلغة إشارة وتواصل خاصة” بين أفراد النوع دون غيره، ولكي يتجنب أفراد النوع افتراس بعضه البعض، كما تعتبر وسائل لاجتذاب الفرائس أو للدفاع وتخويف باقي الأعداء… ولا شك أنها أيضًا، تفيد كشفرات بين الذكور والإناث لأغراض التزاوج.

ويبقى السؤال: مَن غير الله الخالق البارئ المُصور، يمكن أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة هذا النور الذاتي، ويحقق تلك الوظائف والفوائد المتعددة؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز، كما يتضح من قبله الجانب المعنوي الرفيع: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾(النور:40).(2)

إذن، إن آلية إنتاج الضوء الحيوي لدى الكائنات البحرية، تمثل دليلاً على عظمة الله سبحانه وتعالى وبديع صنعه وعظيم هدايته: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50). وهكذا يسير كل نوع من هذه الكائنات البحرية له “هويته الشخصية” مسجلة بحروف من ضوء تشع في الأعماق، ليعلن بها عن نفسه فيعرف جنسه أو عدوه، فينحرف إليه في حالة الزواج أو يهرب منه في حالة العداء أو ينقض عليه في حالة الغذاء. ففي الظلام الذي يُظن أنه “موت وانغلاق” تنبعث أنوارها التي هي “حياة وانطلاق”: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾(النور:40).

ـــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) انظر، أسرار المخلوقات المضيئة، للدكتور عبد المحسن صالح، المكتبة الثقافية، العدد:120، ص:133-134، الدار المصرية للتأليف والترجمة، نوفمبر 1964م.

(2) تأملات في كتاب الله، للدكتور زغلول النجار، ص:202-203، الدار المصرية اللبنانية، 2008م.