أنا لا أعرف حقيقتكِ، ولا أدرك كنهكِ، فلقد كنتِ ولمَّا أكن، وستبقين بعد رحيلي.
في رقَّتك -يا عزيزتي- معاني الفتوَّة، وفي ألوانك دلائل الأخوَّة.
فيك التحَم الجمال بالخيال، وفي توجُّهك أمارات القرب من خالقكِ، والسؤال.
ومن عجبٍ أنَّ عيد ميلادك هو ذات عيد ميلادي، لكن شتان بين عيد وعيد؛ إذ بينما أنتِ تشبهين العمامة على رأس الأمراء والعلماء، أنا لا أشبه إلا نفسي، ولا أتمرَّغ إلا في ضحضاحي، فلا كنتُ من صنف الأمراء، ولا انتظمت بين سلك العلماء. أنت -يا حبيبتي- أميرةٌ على الأمراء، وأنتِ تفوقين في الشأو كثيرًا من العلماء.
أنتِ يدٌ مبسوطة نحو السماء تستمطرين البهاء، فتنالين منه الحظَّ الأوفر… وتستسقين الوصال، فتحظيْن منه بالمكان الأخطر.
أنتِ كأس شاي منعنع أو فنجان قهوة رقراقة، تُكرمين جميع الناظرين إليك، المتملِّين بهاءكِ، بلا تمييز ولا إقصاء، لا تبغين الأجرة ولا الأجر إلا ممن يعطي ويجزل العطاء.
أنتِ جرس مقلوب، توقظين فينا القلوب، فتغدو ذواتُنا ضارعة هفهافة رفرافة… كلُّ جرس دونكِ هو مجرَّد نسخةٍ طبق الأصل، وهو مجافٍ في حقيقته لمقاصد الوصل.
يا زهرة التوليب، يا حمراء، يا صفراء، يا بيضاء، يا زاهية الألوان… علِّمينا أن نكون، وإذا كنَّا، علِّمينا أن نحسن كيف نكون، وإذا أحسنا، علِّمينا كيف بعد أمدٍ أن لا نخون.
علِّمينا -كما أنتِ- أن تكون لنا حياتان: حياةٌ لما فوق الأرض، وحياةٌ لما تحت الأرض(22)، حياةٌ للآني والزماني والحضاريِّ وللعنفوان، وحياةٌ للماورائي والإيماني والرباني(3)، أي للرضوان؛ لكن -يا حبيبتي- علِّمينا كيف لا نفصم بين هذا وذاك، وكيف نجمع بين هذه وتلك… في سلاسة وانسياب… بلا جدل ولا ارتياب.
فأنت أنتِ، دومًا محمَّلة بالصدق والصفاء والوفاء، للخالق المبدع الملهم، بلا جفاء… أمَّا نحن، ففينا ومنَّا، وكلُّ واحدٍ منَّا، له وعليه، ساعةً وساعة؛ فساعةً نسمو وأخرى نخبو، وساعة نقترب وساعة نضطرب… لا نعرف الاستقرار على حال، ولا نصبر على الحادثات وعسر المآل.
يا زهرةً مِعطاء، ويا ربيبة الكُرماء، يا من أدمتِ السجود والقعود والقيام… بك الدنيا تشبَّهت، ومثلُك الأعمار قصُرت… فيك نتلو قول الجليل لنبيه الفضيل: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(طه:131).
فما عابكِ الله سبحانه ولا شانك، لكنه -تعالى شأنه- جعلكِ أمارة لنا، فأدَّيت ما عليكِ خير الأداء، إذ كلَّما جفَت قلوبنا، وطغت ذواتنا، وطفت أنانيتنا… وكلَّما أمَّلْنا في الدنيا، واطمأننا إلى الفانيات، وظننا أنَّا سنخلد أبدًا… كلَّما ظلمنا وتجبَّرنا، وغفلنا ونسينا، وجحدنا وكفرنا؛ كلَّما كان منا ذلك، أو بعضٌ من ذلك، وقفتِ لنا بالمرصاد، في لطفٍ تذكِّرين وتهدّدين:
“يا هذا، انظر إليَّ، وتملَّ جمالي، فهل تدَّعي أنكَ بلغته، وهل تقدر أن تنافسني فيه؟
ثم انظر إلى قصرَ عمري، وإلى هرولة أيامي وِجهة الامِّحاء… تذكَّر واعتبر، واعمل وجاهد، ثم اصبر وثابر…
وبهذا أكون لك دليلاً، لتكون أنتَ أوَّاهًا منيبًا، فتتخذني لأجل ذلك خليلاً… تبدأُ معي ساعات عمرك، لتختم بجواري ثمالة أنفاسك.
وهنالك، في الجِنان، سنلتقي، بإذن الله سنلتقي… حينها، سترى أني خالدة بجمالي وبهائي؛ رشيقةَ القدِّ حوراء نجلاء… حينها، ستعلم علم اليقين، أنكَ خالد بقربكَ من الواهب الكريم ذي الجلال الحليم… فكلانا يومها، في المقام والحسن سواء، يا جميل”.
ألا ما أروعكِ يا زهرة “اللاله”، ليت القلوب القحطة تدركُ وتستدركُ؛ فتناجيك كلَّ فجر، وتناغيك كلَّ غروب… مثلي تمامًا، فهل أنتِ تسمعين، وهل أنتِ تدركين؟! سلامًا، يا حبيبتي إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(11) زهرة التوليب وبالتركية “اللاَّله”: نبات من الفصيلة الزنبقية، موطنها الأصلي تركيا. يطلقون عليها اسم زهرة العمامة، لأنها تتكون من عدة طبقات من البتلات الملونة تشبه العمامة التي يلفها الرجال في تركيا حول رؤوسهم. ولقد انتقلت إلى أوروبا منذ 400 سنة وانتشرت فيها، فوجدت عناية خاصة بزراعتها في هولندا، التي أصبحت رمزًا لها ومصدر دخل كبير. وتركيا تحتفل كل عام بِعيدٍ لـ”اللاله” في شهر أبريل.
(22) لزهرة التوليب حياتان: حياة فوق الأرض تنتهي بالأزهار ذات الألوان الجميلة الحمراء والصفراء والوردية، وحياة أُخرى تنتهي بتكوين الأبصال الجديدة تحت الأرض. وهولندا تصدِّر منها سنويًّا بليوني بصلة.
(3) “لاله” (lâlee)، هي رمز الحب الإلهي في الحضارة العثمانية، لأنَّ حروفها هي نفس حروف اسم الجلالة “الله”.