يتيم القدر

عاد الطفل من المدرسة.. وجد كل شيء في البيت قد تغير.. حزنٌ خيّم على سمائه.. ودموع أحزان تناثرت بين جنباته.. هرول الطفل إلى بيت أبيه فوجده ممددًا والأم تضع الحنّاء على قدميه.. سأل في دهشة: “ما الخطب أمي؟!
تتفاجأ الأم بسؤال طفلها، وفي حيرة مذهلة بين ابتلاع دموعها وارتباك جوابها: “إنه أباك نائم”.
يجلس الطفل يتوسد قدمي أبيه، والأم تنهمر الدموع من عيونها، والأبناء والبنات يلتفون حولها.. تبحث الأم في تركة الأب لعلها تجد ما تشتري به ملحًا لقدرها، لكن لم تجد شيئًا.. مَن يشتري لها.. الأطفال صغار، ونفسها عفيفة لا تمد اليد إلا لباريها.. سلّمت الأمر لربها ورضيت بقضائه.. شُيعت الجنازة، وانتهت مراسيم العزاء، ونُعي إلى الطفل وفاة أبيه، فجرت من عينيه الدموع أنهارًا.. لم يجد الطفل أمامه إلا حضن أمه يأوي إليه.
لم يكن وفاة والده سهلاً عليه.. فالطفل في ربيعه السادس.. ولكن لله ما أخذ وما أعطى وكل نفس ذائقة اليوم إما اليوم أو غدًا.
وظل الطفل العاقل صابرًا، والأم تحيطه برعايتها وترعاه في كنفها، وتخوض به لجج الحياة ومتاعبها، وصعوبة العيش وبؤسه وحالة الفقر ونكده ومرارة الأسى والأحزان.. وتنشئه على خصال السماحة والرحمة والأدب، وعفة النفس واحترام الآخرين، والاهتمام بالمحتاجين.. لم تقصّر قط، ولم تغفل عنه طرفة عين.
أخذ منه القدر أباه، وجعل حياته حياة فقر.. ينهره بعض الناس بلا سبب، وينظرون إليه بنظرة حسد.. يستغرب الطفل البريء! لِمَ أُحسد؟! وعلى ماذا؟! أَلفقري، أم لمتاعب حياتي، أم لفقداني والدي، أم لتمزق قلب أمي علي؟! لِمَ نسي هؤلاء الناس تعاليم السماء: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ﴾؟ ووصية خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه قسوة قلبه: “ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلين قلبك وتدرك حاجتك”.. تكاد لا تنزل على رأسه إلا الصفعات.
وتمضي الأيام ويجد الجميع الطفل اليتيم شابًا يافعًا عاقلاً راشدًا، يصعد المنبر ليخاطب الناس في يوم الجمعة.. ينظر أمامه فيجد أصحاب الصفعات وما أهانوه في صباه.. يحنون رؤوسهم وينظرون بنظرات تذكّرهم الماضي.
لكنه استهل خطبته بنثر ابتساماته على الجميع المسيئين والمحسنين.. لم يرد الإساءة بالإساءة، وإنما رد الإساءة بالإحسان كما أنشأته أمه التي كانت تبكي من شدة الفرح كلما سمعت عن طفلها الشاب الخيرَ والخُلقَ الحسن، فتسجد لله سجدة شكر أن جهدها لم يذهب أدراج الرياح.. وأن الله بارك ابنها، وجعله بارًّا بها وبأهل قريته الصغيرة.. جعله شابًّا خلوقًا عفيف النفس، حسن الخُلق، كثير الأدب مع الصغير والكبير.. حمدت الله أن جعل ابنها محبوبًا عند الجميع حتى عند مسيئين له في الماضي.
هنا أدرك الطفل الشاب أن الله لا يفعل إلا خيرًا.. يأتي بالفرج بعد الشدة، وبالمخرج بعد الضيق.. فحمَد الله وأثنى عليه، ودعا بالخير والبركة والرفعة لأمه المباركة.. وبالرحمة والغفران لوالده المرحوم.