يعتبر موفّق الدين عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ/1231م) من العقول الممتازة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، جمع بين التحصيل الوافر الدقيق لكل من العلوم المعروفة في عصره، وبين أصالة الفكر ودقة المنهج العلمي، والقدرة على النفوذ إلى جوهر المشكلات العلمية. فقد أتقن علوم العربية حتى صار من أعلام النحاة، وحدّث فتخرج على يده نفر من المحدثين، وفاض في علوم البلاغة فكان له فيها مؤلفات عديدة. لكن هذا الجانب الفقهي الخالص كان -مع ذلك- أضعف جوانبه، إنما قيمته -كل القيمة- في العلوم العقلية كما كانت تسمى آنذاك؛ في الفلسفة والجغرافيا، والطب والنبات. وأبرز ما له في الفلسفة، أبحاثه في المنطق التي تنبه فيها إلى كبريات المشكلات المنطقية فأفرد لها الرسائل. أما الطب فكان يمارسه علمًا وعملاً وتعليمًا، وله فيه الدراسات الوافرة والمختصرات المفيدة لمتعلّمي الطب، فضلاً عن أصالة المنهج في الملاحظة والتشخيص والكشف عن الأسباب والعلامات.
“إن ما تراه أعيننا أصدق بكثير مما نقرأه”، قال هذه الجملة -التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عقلية ناقدة- طبيب وعلامة من أصفياء صلاح الدين، وهو عبد اللطيف البغدادي الذي أمضى حياته متنقلاً في كل مدن إمبراطورية المشرق، وعلّم في مدارسها العالية. وكان أينما ذهب وحط الرحال، يسخّر عينيه وعقله باحثًا منقبًا مستفهمًا عن الحقيقة.
ومن هنا لم يكن غريبًا أن يعجب به مؤرخ العلم الكبير “جورج سارتون”، حيث مدحه في كتابه “المدخل إلى تاريخ العلوم”، وذكر أنه يمتاز عن غيره بأسلوبه السهل واضح الأفكار. فالبغدادي عالم فذ، ومن أعظم الموهوبين في عصره، وقد ساهم مساهمة ملحوظة في جميع فروع المعرفة، إذ إنه من العلماء الذين لا يؤمنون بالرواية المتناقلة، بل يميل تمامًا إلى المشاهدة والتجربة العلمية، لكي يصل إلى النتائج الصحيحة.
نشأته ورحلاته العلمية
يقول ابن أبي أصيبعة بأن البغدادي تربى في حجر الشيخ أبي نجيب السهروردي، لا يعرف اللعب واللهو، وأكثر زمانه منصرف إلى سماع الحديث، وأخذت له إجازات العلم من شيوخ بغداد وخراسان والشام ومصر. ولما ترعرع، حمله أبوه إلى “كمال الدين عبد الرحمن الأنباري (ت 577هـ) شيخِ بغداد، فتلقى عنه كثيرًا من العلوم. ويورد البغدادي كثيرًا من الكتب والمؤلفات التي حفظها وفهما مثل “اللمع” و”أدب الكاتب” لابن قتيبة، و”مشكل القرآن” و”غريب القرآن” له أيضًا، و”الإيضاح” لأبي علي الفارسي وشروحه، و”المقتضب” للمبرد، ومؤلفات الأنباري والتي تبلغ أكثر من مائة وثلاثين مؤلفًا أكثرها في النحو واللغة والأصول والتصوف والزهد، وكُتب سيبويه، و”الأصول” لابن السراج، و”الفرائض” و”العروض” للخطيب التبريزي، و”معاني القرآن” للزجّاج. ثم أتى على كتب “جابر بن حيان” في الكيمياء، وكُتب “ابن وحشية”، ثم مؤلفات الإمام الغزالي “المقاصد” و”معيار العلم” و”ميزان العمل” وغيرها، حتى إذا فرغ من الغزالي، انتقل إلى كُتب ابن سينا صغارها وكبارها بدءًا من “النجاة” وانتهاء بـ”الشفاء”.
لقد زار البغدادي كثيرًا من المدن الإسلامية المشهورة بعلمائها مثل الموصل ودمشق والقاهرة والقدس، كي يتتلمذ على كبار العلماء هناك ويجالس كثيرًا منهم. درّس في الأزهر الشريف حقلَ الطب، وتفنن في هذا المجال حتى صار من كبار الأطباء. لقد كان البغدادي كثير الترحال بين مختلف البلدان العربية والإسلامية، وكان يحمل معه من الكتب ما استطاع، ويضيف ويكمل ما ابتدأ به أنى حل وأقام.
ويجمع المؤرخون والمترجمون على أن البغدادي كان شديد الذكاء، سريع الحفظ، واسع الاطلاع، غزير المعرفة، وكان عالمًا باللغة والفقه والتاريخ والفلسفة والطب والنبات، كما كان كثير التأليف، خصب الإنتاج، ألف وصنف كتبًا كثيرة في الطب والنحو والمنطق وأصول الدين والحيوان والنبات، وشرح وفسر واختصر كثيرًا من الكتب للأقدمين. وكان كثير الاعتداد بنفسه، صريحًا، جريئًا، لاذع النقد.
مؤلفاته
يذكر “عمر رضا كحالة” في كتابه “العلوم البحتة في العصور الإسلامية” أن البغدادي اختصر كتاب “الأدوية” المفردة لــ”ابن وافد” وعلق عليه، كما أوجز كتاب “النبات” لـ”أبي حنيفة الدينوري”، وعلق وشرح على كتاب “ديسقوريدس” في صفات الحشائش، ومقاله في النخل، كما ذكر تفاصيل ما شاهده من نبات مصر وشرح بعضه وعلق عليه.
وهنا يجب ألا ننسى دور البغدادي في علمي النبات والصيدلة. فهو من كبار الصيادلة المسلمين والمعتمدين في استخراج عقاقيرهم من النباتات التي تجود بها البيئة، ومن الذين عرفوا الأعشاب وخصائصها الطبية. فكان في عصرهم الطبيب هو النباتي، والنباتي هو الطبيب لقرب الصلة بين المهنتين. كما كان البغدادي من العلماء الذين يؤمنون بضرورة الزيارات للعلماء المتخصصين، كي يتمكنوا من تبادل الخبرة والمعلومات التي لا يستطيعون تقديمها بالمراسلة، ويعترف بأن المناقشة الشفوية مفيدة جدًّا، بل لا غنى عنها للباحث في أحد مجالات المعرفة، فلا تكفي قراءة الكتب وكراريس العلم. لذا نجد البغدادي من الذين دوّنوا مشاهداتهم للنبات في مختلف بقاع العالم، فإنتاجه العلمي متكامل من الناحتين النظرية والتجريبية.
وقد اشتهر البغدادي بمؤلفه “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر” الذي وصف فيه أرض مصر من حيث السكان والحيوان وطبيعة الأرض.
ويذكر المستشرق “ماكس مايرهوف” في “تراث الإسلام”، أن البغدادي رحل من بغداد إلى القاهرة ليرى كبار العلماء وأرض مصر، كما وصف المجاعات والزلازل التي حدثت فيها. وقدم البغدادي معلومات نفيسة عن خواص العظام بعد دراسة لها في مقبرة قديمة تقع شمال غربي القاهرة، وراجع وصحح وصْفَ جالينوس لعظم الفك الأسفل وعظم العجز.
ولم يبق من مؤلفات البغدادي إلا بعض الكتب القليلة، منها الكتاب السابق في وصف مصر، ومخطوطته في مكتبة البودليان في أكسفورد وقد ترجم إلى الألمانية عام 1790م، وإلى الفرنسية عام 1810م، وإلى الإنجليزية عام 1964م. وهناك كتاب “ما بعد الطبيعة” الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن بدوي، وفي مكتبة حكمة تيمور نسخة منه، وفي إسطنبول نسخة أخرى، وكتاب “مقالة في الحواس والمسائل الطبيعية” في مكتبة الأسكوريال. وقد قدم الدكتور “بول غليونجي”، وسعيد عبده لها في مقالتهما في الحواس، وقدّما قائمة بمؤلفات البغدادي تصل إلى سبعة وستين كتاب ومقالة.
اتجاهه النقدي
لقد اشتهر موفق الدين عبد اللطيف البغدادي باستقلاله في الرأي، فكان لا يأخذ بما سلّم به علماء العرب والمسلمين من آراء علماء اليونان، مثل جالينوس في الطب، وديسقوريدس في علم النبات، وأرسطو في علم الحيوان وغيرهم، إلا بالاستناد إلى الملاحظة العلمية الدقيقة والبرهان العلمي الواضح. لقد نهج منهج ابن الهيثم وابن سينا في اعتمادهما على المشاهدة والاستقراء وتحري الحقيقة، حيث يقدّم لنا فكرة جيدة واضحة عن الطرق التي كانوا يتبعونها لإيجاد أدلة في الرأي يؤيدون بها ما يقرؤون من الكتب.
ولننظر إلى المقدمة المنهجية التي وضعها البغدادي في بداية شرحه على “تقدمة المعرفة”، نجده اعتبر عملية الشرح هي “وضع كتاب علمي على جهة معدلة”، يقول البغدادي في كتابه “شرح تقدمة المعرفة”: “إن كل واضع كتاب علمي على جهة معدلة، فقصده تسهيله على المتعلم بثلاثة أوجه؛ الأول أن يجتنب اللفظ الوحشي والملبس والمغلط ويجتهد أن يصور المعنى في نفس المتعلم بغاية الإمكان، والثاني أن يثبت الرأي بالحجج الممكنة والأدلة الواضحة، والثالث أن يرتب الموضوع ترتيبًا يسهل حفظه ولا يصعب ضبطه”.
ولم يكن البغدادي هنا يقدم صياغة نظرية فحسب، وإنما يحدد طريقًا عمليًّا لما قام به بالفعل في شرحه، فنراه يحرص كل الحرص على تقديم آراء السابقين ورأي العلماء فيها، وتحليلها ونقدها وتصحيح ما بها من أغلاط. وقد تجلت هذه النزعة النقدية -حسب ما يذكر الدكتور بول غليونجي في تقديمه لمقالة “الإفادة والاعتبار”- في أعمال عبد اللطيف البغدادي بشكل بارز، فهو في معرض حديثه عن آثار مصر واعتقاد العوام المعاصرين له في ضخامة أجسام الفراعنة، ينتقد هذه الفكرة العامية برجوعه إلى المومياوات الفرعونية، ثم يقدم تعليلاً لاعتقاد العوام فيقول: “وإذا رأى اللبيب هذه الآثار (يقصد التماثيل الضخمة للفراعنة) عذر العوام في اعتقادهم عن الأوائل بأن أعمارهم كانت طويلة وأجسامهم عظيمة، أو أنهم كان لهم عصا إذا ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم”.
أما فيما يخص الطب والتشريح، فينتقد البغدادي ما ذهب إليه جالينوس في تركيب العظام. وهو يمهد لنقده بالإشارة إلى أنه اعتمد على مشاهدة “تل من الجثث يقرب من عشرين ألف جثة”، ومدافن بوصير، يقول: “(…) ثم إني اعتبرت هذا العظم أيضًا بمدافن بوصير القديمة فوجدته على ما حكيت، ليس فيه مفصل ولا درز، ومن شأن الدروز الخفية والمفاصل الوثيقة إذا تقادم عليها الزمان أن تظهر وتتفرق، وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة. وأما العجز مع العجب ذكر جالينوس أنه مؤلف من ستة أعظم، ووجدته أنا عظمًا واحدًا، واعتبرته بكل وجه من الاعتبار فوجدته عظمًا واحدًا، ثم إني اعتبرته في جثة أخرى فوجدته ستة أعظم كما قال جالينوس، وكذلك وجدته في سائر الجثث على ما قال إلا في جثتين فقط، فإني وجدته فيهما عظمًا واحدًا، وهو في الجميع موثق المفاصل، ولست واثقًا بذلك كما أنا واثق باتحاد عظم الفك الأسفل”.
ويعلق الدكتور بول غليونجي قائلاً: “لقد استمر جالينوس في “عظمتي” الفك زمنًا طويلاً، فقد أخذ برأيه ابن سينا عند وصفه تشريح عظام الفكين، واستمر هذا الرأي سائدًا حتى بعد عبد اللطيف إلى أن أعاد نقده عملاق التشريح “فييزاليوس” (Vesalius) في القرن السادس عشر.
ونلاحظ هنا أن المشاهدة والملاحظة الدقيقة كانت هي سند البغدادي في تسجيله لحقائق التشريح، ذلك العلم الذي كان يتقدم على يد المسلمين على استحياء، نظرًا لتحرج كثير من الفقهاء من عمليات التشريح، خاصة وأن للجسم البشري كرامته الوافرة في المنظور الإسلامي.
وقد كانت الملاحظة الإكلينيكية التي تقوم على تتبع أحوال المرضي في البيمارستان أو في غيره، هي أهم أنواع الملاحظة عند الأطباء العرب والمسلمين، يقول البغدادي: “وقد ينبغي أن تجعل نظرك في جميع الأمراض الحادة على هذا الطريق، انظر أولاً إلى وجه المريض هل يشبه وجوه الأصحاء؟ وخاصة هل يشبه ما كان عليه؟ فإنه إذا كان كذلك فهو على أفضل حالاته. فأما الوجه الذي هو من المضادة لذلك الوجه، أشبه في الغاية بما كان عليه فهو أردأ الوجوه”. وهذا الذي يقوله في كتابه “تقدمة المعرفة” يؤكده في كتاب “الإفادة والاعتبار”.
ويظهر لنا جليًّا أن البغدادي ليس فقط مشهورًا في الطب والتشريح، ولكنه من المتضلعين في علم النبات، فقد أثبت أن اطلاعه عميق في مختلف العلوم الطبيعية. يقول عبد الرزاق نوفل بأن البغدادي يتلاقى مع أكبر علماء النبات في العصر الحديث بدقة وصفه وبراعة التعبير وحسن المشاهدة، ومع علماء الزراعة في تنظيم دورات الحقل، بما يحقق أكبر إنتاج بخصوبة الأرض من جودة التوزيع والتنويع.
البغدادي وعلاج السكر
يذكر لنا “بول غليونجي” أن عبد اللطيف البغدادي كان له فضل الريادة في معرفة داء السكري وإن كان الفضل في اكتشافه يرجع إلى علماء الصين؛ وذلك في القرن الثالث الميلادي عندما لاحظوا أن حلاوة البول تجتذب الكلاب. ثم درس علماء الهند هذا الموضوع دراسة دقيقة في القرن السادس الميلادي، وسمّوا المرض “بول العسل” لحلاوة هذا السائل ولزاجته. أما علماء العرب والمسلمين فهم الذين عرّفوا أعراضه ومنهم العلامة عبد اللطيف البغدادي الذي قال: من أعراضه استرسال البول (كثرة البول)، العطش الشديد (نتيجة لكثرة البول)، ويعرض للبدن هزال وجفوف.
ويذكر “عبد الكريم شحاته” في مؤلفه عن البغدادي، أن الأقدمين كانوا يجهلون أن قصور البنكرياس في إفراز الأنسولين هو سبب السكر وإن كان البغدادي تكلم عن معالجة السكر والأدوية المختلفة التي تنفع فيه، وعن التغذية والحمية، وينصح بوجوب الخلود إلى الراحة النفسية بقدر الإمكان. هذا وإنا نرى البغدادي يحلق في التسلسل المنطقي في تعريفه ووصفه للعلامات السريرية لداء السكري (Diabetes) اعتمادًا على الملاحظة العلمية الدقيقة رغم عدم توفر المعلومات الكيمائية والحيوية والفيزيولوجية التي نملكها الآن.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.
المراجع
(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، ج2، بيروت 1968.
(2) دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، لعبد الرحمن بدوي، الأنجلو المصرية 1967.
(3) أضواء على الطبيب العربي عبد اللطيف البغدادي، لعبد الكريم شحاته، بيروت 1985.