تخضع الطيور في قوة طيرانها أو ضعفه، لشكل جناحيها ومساحته، ولشدة عضلاتها الصدرية وتناسب ثقل الجسم. وإن للذيل مهمة كبرى في تغيير الاتجاه حسب رغبة الطائر ووجهته، كما يُعِين الطير على هذه العملية “الشاقة” عظام خفيفة جوفاء بالغة القوة والمرونة، واتساع محيط التنفس الذي يتيحه لها صدرُها بتركيبه العضوي العجيب، وتكوين رئتيها الإسفنجية التركيب، وشعبها الهوائية المتعددة، وأكياسها الهوائية المتصلة بها… لتساعد كلها على حسن كفاءة تبادل الغازات فضلاً عن مساهمتها في خفة وزن الطائر.
هجرة الطيور
تبقي صعوبة الطيران وصعوبة تفسيرها تفسيرًا علميًّا شافيًا، يُلقيان بظلالهما على هذه الأعجوبة من أعاجيب الطير. ولا يقاربها في الإبهار والروعة إلا أعجوبة هجرة الطيور. وبخاصة في التزامها -والتزام أفراخها فيما بعدُ- بمسارات طويلة ومحددة -ذهابًا وإيابًا- لا تضل عنها. ولفتت هذه الأعجوبة نظر الإنسان منذ قديم الزمان، فوجد على أحد الشواهد الأثرية ما يفيد وصول “الكراكي” إلى برّ مصر في ميعادها المحدد سنويًّا. وكان المصريون القدماء إذا سمعوا صوتها يبدؤون في إلقاء البذور في الأرض.
وحديثًا يحتفل العالم يومي 14-15 من مايو من كل عام، باليوم العالمي للطيور المهاجرة (أكبر المهاجرين في الكائنات الحية)، وهي مناسبة للتوعية بأهميتها، حيث إنها تُشكل خُمس أنواع الطيور المعروفة. وكذلك العمل على حمايتها ومواجهة ما يعيق بقاءها أو يعرّضها لخطر الانقراض، مع العمل على إنشاء المحميات البيئية في المواطن والموائل التي ترتادها الطيور المهاجرة (قرابة خمسين بليون طائر مُهاجر سنويًّا).
تهاجر هذه الطيور لمسافات هائلة، ثم تعود أدراجها بعد بضعة أشهر قاطعة مسافات طويلة تمتد لآلاف الكيلومترات، مقتفية أثر أجدادها في رحلة شاقة وخطيرة. وتوجد اختلافات عديدة -عامة وخاصة- في عادات الهجرة وأنماطها وطرقها ومساراتها وطريقة طيرانها وإستراتيجية هجرتها… فترحل الطيور الصغيرة التي يقل وزنها عن 15 جم، من جنوب أوربا إلى الصحراء الكبرى، وصولاً إلى خط الساحل الأفريقي والسودان، في رحلة تزيد على ألفي كيلومتر، تقطعها في يومين دون أكل أو شرب، وتُحلّق فيها على ارتفاعات شاهقة. أما الطيور الكبيرة، مثل الحدأة، واللقلق الأبيض، فمساراتها أكثر تحديدًا، وظروفها أصعب؛ فهي أثقل وزنًا وأكثر بطئًا، وتطير على علو منخفض، ولا تحلّق فوق البحر، وتتحرك من أوربا في مجموعات كبيرة إلى مناطق “عنق الزجاجة” أو المضائق البحرية كجبل طارق، و”باب المندب”، و”البوسفور”، لتستطيع عبورها جنوبًا.
وتم تقسيم العالم لثلاثة أنظمة هجرة رئيسة منفصلة بحدود جغرافية؛ فالأول طريق الهجرة في العالم الجديد، أما الآخر فهو الأوراسي الأفريقي، والنظام الآسيوي الشرقي، الآسيوي الجنوبي، الأسترالي. وتشكل العديد من المناطق والبحيرات والمحميات الطبيعية في دولنا العربية، معبرًا آمنًا للطيور المهاجرة والمتوطنة كذلك، كما أنها تمتلك مواقع عدة تمكّنها من الاستراحة فيها خلال هجرتها. الطيور المهاجرة تمثل “شاهد عيان” على أحوال استخدام الأراضي، واستثمار الموارد الطبيعية، ولها منافعها وأثرها في تلقيح النباتات، ونثر البذور، وحفظ التوازن الأيكولوجي وخدمة الإنسان وبيئته.
آليات الهجرة
الهجرة أمر فطري عند الطير. وبالرغم من تأثر الطير بالظروف الخارجية، إلا أنها تملك آليات داخلية، ونشاطًا هرمونيًّا تنبهها قبل أشهر إلى وقت الهجرة. فقبل موسم البرد وشُحّ الغذاء، ولأجل التكاثر ووضع الأعشاش، تهاجر الطيور لبيئات أفضل، وتبقى فيها حتى يعود النهار ليصبح أطول، ويتوافر الغذاء بشكل أكبر، ويصبح الطقس مقبولاً في موطنها فتعود له لتهاجر ثانية في العام التالي. وثمة تحضيرات قبل الهجرة، كدعم مخزون دهون الجسم لتأمين الطاقة الكافية، كما أن العديد من آكلة الحشرات تتحول إلى أكل التوت الغني بالسكر لدعم هذا المخزون. وتحتاج طيور اللقلاق، والكراكي إلى تيارات الهواء الدافئ لطيرانها.
وأوضحت دراسة أمريكية -نشرت في مجلة “بروسيدينجس بي” للجمعية الملكية البريطانية- أن طائر الليموزية صاحب المنقار الطويل (شبيه بالكروان) حطّم رقمًا قياسيًّا في الطيران؛ فقطع هذا “الرفراف الجميل” مسافة 11700 كلم فوق المحيط الهادي (من ألاسكا إلى نيوزيلندا) في تسعة أيام بلا توقف أو استراحة أو طعام. وكان الكروان الأوربي -يعيش على الحدود بين أوربا وآسيا- صاحب رقم قياسي سابق للطيران بلا توقف، إذ قطع مسافة 6500 كلم تقريبًا في 3-5 أيام بين أستراليا والصين. ويهاجر “خطاف البحر القطبي” (السنونو) نهاية الصيف إلى القطب الجنوبي قاطعًا مسافة تقدر بـ 18000 كلم. وهو يمر عبر كل من إيران وسوريا وليبيا وجنوب أوربا والبحر الأبيض المتوسط على شكل أسراب مكونة من 60-80 طيرًا، ويذهب إلى أوربا ليفرخ هناك، كما ينتقل من جنوب أفريقيا والقطب الجنوبي. أما خرشَنة القطب الشمالي فتتكاثر أقصى شمال أوربا وأمريكا، وتهاجر في الخريف إلى أستراليا وأفريقيا، فتبقى حتى فبراير-أبريل وتعود إلى موطنها شمالاً في رحلة فريدة عجيبة، تبلغ نحو 35500 كلم ذهابًا وإيابًا في السنة الواحدة.
وتتأثر الهجرة بعوامل وراثية، فالطائر الشادي يطير من أوربا الشمالية إلى وسط أفريقيا وهو يستهلك كميات كبيرة من الطاقة، وتستغرق رحلته حوالي أربعة أيام وليالٍ طيرانًا مستمرًّا. لكن كثيرًا من الطير ترتاح أثناء الطريق؛ إذ تطير مساء وتتوقف نهارًا، لأن التغذية أسهل نهارًا، كما أنها تتجنّب سباع الطير في المساء. لكن بعض الطيور الصغيرة المهاجرة نهارًا كالسنونو والعندليب، تستطيع الأكل أثناء طيرانها، فاتحة أفواهها لتلتهم الحشرات التي تحملها تيارات الهواء. لذا فالفصائل المهاجرة لمسافات قصيرة نسبيًّا، تكون أقل إرهاقًا في مشاكل التغذية، وعادة ما تهاجر نهارًا. أما طيور الشواطئ فتنجز هجرتها في أي وقت من النهار أو الليل.
لقد تم كشف الكثير من آليات الهجرة عبر أجهزة الإرسال المُثبتة في أعناق أو أرجل الطيور، ورصد الإشارات اللاسلكية الصادرة عنها، وتتبع مساراتها مستقيمة أو ملتوية أو دائرية. كما أن الفحص الدقيق لساعة جسم الطائر البيولوجية أكد أنها تعمل بشكل مناسب، لكن لم يقرر نهائيًّا كيف أنها تحافظ على دقة الوقت. كيف “تعرف” الطيور المهاجرة مسارها بعد انطلاقها وخلال إيابها؟ هل تعتمد الهجرة على وسائل ملاحية خارجية كمساعدة الضوء والشمس والنجوم؟ وهل تكون متأثرة بتبدلات وتنوعات المجال المغناطيسي للأرض، وتفسير الطائر للأمواج المتكررة المنخفضة وعامل الرياح؟ وهل تكون قادرة على تحديد خطوط القوة المغناطيسية مساء كي تسمح باختيار مسارات طيرانها؟
تشير الأبحاث إلى أنها قد تملك خضابًا وخلايا خاصة في أنظمتها البصرية، تسمح بإدراك الحقول المغناطيسية للأرض على شكل أنماط خطية براقة أو مظللة. وعندما تمتص العين الضوء تصبح الخضاب ضعيفة مغناطيسيًّا فتسبب تبدّلاً في الإشارات العصبية التي ترسلها العين إلى الدماغ. وتقول النظريات أن بعض خلايا الدماغ تحتوي على بلوريات مادة ماغنتايت وهي أوكسيد حديدي قادر على التقاط الحقول المغناطيسية. فهل تستعمل الطيور المهاجرة إحساسها المغناطيسي البصري لالتقاط اتجاهات البوصلة؟ وتستعمل مادة الماغنتايت أيضًا لالتقاط التبدلات المحلية أو العالمية في الحقول المغناطيسية؟ وهل هذا النظام الملاحي المزدوج يفسر لماذا تتمكن بعض الطيور من الملاحة في الليالي المظلمة والغائمة؟ وهل هذا الخضاب الحساس للضوء يعمل أيضًا في ظروف الإضاءة الضعيفة؟
هناك ما يقرب من 10000 نوع من الطيور تتباين في طرق معيشتها وأشكالها وأحجامها، بداية من النعامة والتي يصل وزنها إلى 150 كجم، وصولاً إلى الطائر الطنان (2.2 جم) الذي يستهلك في طيرانه طاقة كبيرة، لو أراد الإنسان أن يقوم بعمله لاحتاج إلى 13 كجم من اللحوم يوميًّا، وإفراز 45 لتر من الماء في الساعة ليحتفظ بحرارة جسمه تحت 100 درجة مئوية. للطيور عمومًا، والمهاجرة خصوصًا، أهمية كبرى في منظومة التنوع البيولوجي لكوكبنا ولحياتنا، منظومة تؤثر فينا ونؤثر فيها إيجابًا أو سلبًا.
إذن، المتأمل في الكون يجد كمًّا هائلاً من الكائنات الحية. والمَشاهد والمظاهر تدل ليس فقط على نعمة الإيجاد من عدم (الخلق) لما يزيد عن مليون نوع من الكائنات الحية ومنها الطير، متنوعة الصفات والخصائص والوظائف والتراكيب والأشكال والألوان، بل أيضًا على هداية، وإرشاد، وتسخير، ورزق، وتعليم الله تعالى لها كي تؤدي دورها ووظيفتها، وتنال رزقها وتتواصل فيما بينها على الوجه الأنسب والأفضل دومًا.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.