الرقمية أداة لتحقيق العدالة الكونية

لقد استطاعت الرقمية والانتقال التكنولوجي العالمي تغيير نمط حياة الإنسان، ففي عصر أضحت معه المعاملات التجارية والمالية والإدارية والعلمية والسياسية تتم عن بُعد، وصار فيه الاشتغال الافتراضي جزءًا من الواقع الإنساني، وصرنا نتحدث عن التكنولوجيا الذكية، بل وعن المدن الذكية، استطاعت هذه الرقمية أن تُعولِم القيمَ الإنسانيَّة بشكل توجَّبَ معه تغيير نمط تفكيرنا، والانتقال من الدفاع عن القيم في بعدها الوطني أو الإقليمي الضيق، إلى الحديث عن القيم الإنسانيَّة في بُعدها الكوني، من خلال الدفاع عن هذه القيم في السياق العالمي؛ ومنها العدالة الكونية التي يمكن اعتبارها من التحديات التي على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته تجاهها من خلال التصدي للانتهاكات الحقوقية في بعض الدول النامية، والدفاع عن كرامة الإنسان وعن خصوصياته الثقافية والقيمية بشكل يحفظ للإنسانية جميعها كرامتها، فإذا كانت العولمة تسعى إلى تحرير الاقتصاد وتحرير المعاملات العالمية من القيود، خاصة على المستوى المالي والتجاري، فإنه من بين الأولويات أن يتم حفظ كرامة الإنسان والدفاع عن قيمه وعن خصوصياته الثقافية والسعي نحو تحقيق العدالة من زاوية نظر كونية.

العدالة الكونية ومسؤولية المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية

يُفترض في الجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية، والمنظمات الإنسانية غير الحكومية التي تهتم بإنسانية الإنسان، وبقيمه الاجتماعية والسيكولوجية والثقافية والروحية، الدفاع بشكل عادل عن الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان في مختلف بقاع العالم، والاشتغال على ما هو أبعد من ضيق الحيز الجغرافي الذي نجد فيه نوعًا من الانحياز في الدفاع عن قيم المساواة، أو العدالة الاجتماعية، وغيرها من الحقوق ومن القيم وفق مبدأ الكيل بمكيالين يتم فيهما إنصاف المواطن الغربي، واعتبار المواطن الشرقي إنسانًا من الدرجة الثانية.

في هذا الصدد، يكون من الضروري بالنسبة للمهتمّين بقضايا حقوق الإنسان، وخاصة المثقفين الدفاع عن الإنسان وقضاياه على مستوى المعمور وتجاوز النظرة القاصرة التي تتحيز للانتماء الوطني أو القومي أو الديني أو العرقي.

ومن بين القيم التي ينبغي الدفاع عنها في زمن الحروب والأوبئة والنعرات الطائفية قيمة المساواة في بعدها الكوني، وقيمة العدل، وقيمة العدالة الاجتماعية، وقيمة التصالح مع الطبيعة الذي يعتبر اليوم الشعار الذي حمله برنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ وغيرها من القيم ذات البعد الإنساني العالمي والكوني، لأننا اليوم في ظل الرقمية، والعولمة، وما بعد الحداثة؛ لا شك أننا أصبحنا أمام مشاكل ذات أبعاد عالمية تتجاوز الأبعاد الإقليمية الضيقة.

إننا حين نتحدث عن البيئة اليوم، فإن الوئام مع البيئة في العالم يقتضي من المنظمات العالمية الحكومية وغير الحكومية، التدخل العاجل لمعالجة حالات الطوارئ المتعلقة بالمناخ والتنوع البيولوجي والتلوث، كما هو الحال لمشكل ثقب الأوزون الذي كانت من نتائجه زيادة الأشعة فوق البنفسجية، مع ما ترتب عن ذلك من آثار على الكائنات الحية عمومًا، والإنسان بشكل خاص، بحيث يمكن ربط كثير من الأمراض الخطيرة بتلقي هذه الأشعة؛ والحق أن نصيب أوروبا وأمريكا من إنتاج مركبات الكلوروفلوروكربون (Chlorofluorocarbones) أكبر من نصيب أي دولة أخرى، ولهذا فإن حل هذه المعضلة البيئية التي تهدد حياة الإنسان فضلاً عن باقي الأوبئة التي يسببها التلوث، ينبغي أن ينظر إليه في شقه العالمي والكوني ومن ثمة فرض عقوبات على الدول المدمرة للبيئة وتعويض الدول المتضررة.

 كما أن استنزاف ثروات إفريقيا مثلاً يقع على مسؤولية الحكام، كما أنه ذو بُعد دولي؛ ويكفي أن ننظر إلى استنزاف فرنسا لثروات إفريقيا منذ أكثر من قرن، واستنزاف بريطانيا للثروات الإفريقية، بحيث ورد في موقع نيو إنترناشيوناليست (ماثيو برامال، مايو 2017) أن الحكومة البريطانية متورطة على نطاق واسع في سرقة الموارد من إفريقيا، حيث إن الشركات البريطانية المتخطية للحدود القومية، من بين أكثر الشركات نشاطًا في القارة؛ كما أن المعونات التي تقدمها في شكل قروض تسهم في أزمة الديون الوشيكة؛ وبريطانيا من الناحية التاريخية من أكبر المساهمين في تغير المناخ الذي يكلف القارة 37 مليار دولار كل عام.

ورغم الموارد الطبيعية المهمة في إفريقيا، فإن ما نشاهده من مأساة إنسانية في دول إفريقيا جنوب الصحراء، التي تنخرها المجاعة والملاريا والجفاف تساءل الإنسانية جمعاء، وتدعو جميع المهتمين بالإنسان وحقوقه في العالم إلى التدخل والدفاع عن إنسانية الإنسان في تلك الدول الموبوءة. فعواقب استنزاف ثروات إفريقيا على حياة المواطنين الإفريقيين صارمة، يؤكد ماثيو برامال. فأكثر من 50% من الناس في البلدان الإفريقية محرومون من الوصول إلى المرافق الصحية الحديثة. وهنالك 14 فقط من المهنيين الصحيين في المتوسط، لكل 10 آلاف شخص، أي أقل من أوروبا بسبع مرات. ويعني الافتقار إلى الرعاية الصحية الكافية الممولة من القطاع العام، أن كثيرًا من الناس في إفريقيا ليسوا ببساطة قادرين على التماس الرعاية الصحية عند الحاجة، بينما يُدفع 11 مليون شخص نحو الفقر كل عام، لكي يدفعوا ثمنها.

أكذوبة العولمة: الإمبريالية الجديدة

تعيش كثير من دول العالم النامي معاناة مضاعفة، معاناة خارجية بسبب الإمبريالية العالمية ومتزعمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي يعتبرها البعض مثل الصحفي الإسرائيلي “إسرائيل آدم شامير” الوجه الآخر لإسرائيل، وظلم الحكومات المتوالية نفسها التي لم تعمل على الاستفادة من ثرواتها في سبيل الارتقاء بشعوبها؛ بحيث إننا نرى أن البلدان التي تنتج الموارد الطبيعية تعيش شعوبها ضروب الفقر والجوع والتخلف، كما هو الحال لمعظم دول إفريقيا، والتي تستفيد منها الدول المتقدمة، وذلك ما يؤكد أننا بحاجة اليوم إلى إعادة النظر فيمن يسطون على حقوق الشعوب النامية وعلى ثرواتها.

لقد قضت العولمة على القيم الفردية فقضت على الخصوصيات الثقافية كما قضت على المال وعلى الموارد الطبيعية للدول النامية، وجعلت الأمور تبدو كما لو أن الدول النامية اليوم تعيش تحت رحمة الغرب، حتى إننا نرى عددًا من الدول النامية تبدو كما لو أنها مقاطعات تابعة للغرب وخاصة من الدول الاستعمارية السابقة (فرنسا، بريطانيا) و الإمبريالية المعاصرة التي تتزعمها أمريكا والاتحاد الأوربي، والتي تفرض على الدول النامية طبيعة الاقتصاد وتسير أموره المالية والإدارية، وتتدخل في شؤونه الداخلية بما في ذلك شؤون التربية والثقافة والتعليم.

الليبرالية المتوحشة: وحشية المال

تعمل الإمبريالية العالمية التي تتحكم في صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأمريكي (البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي) على فرض سلطتها وسطوتها على العالم وعلى توسيع الفوارق بين دول الشمال ودول الجنوب، من خلال شعارات العولمة والليبرالية، حيث تعمل الرأسمالية على التحكم في العالم النامي عبر البنوك الكبرى، مثل مجموعة البنك الدولي (WBG) وصندوق النقد الدولي (IMF)، وذلك ما يجعل أمريكا تتحكم في المال العالمي وتتحكم في ثروات الشعوب، انطلاقًا من تحرير الأسواق لترويج الصناعة الغربية مقابل استنزاف الثروات وسرقة العقول التي يتم اجتثاثها عبر الهجرة، انطلاقًا من التفقير الممنهج لهذه الشعوب التي أُجبرت على التبعية للغرب والتقليد لها تقليدًا أعمى، وهو ما فوت إمكانيات النهضة والتقدم عن هذه الشعوب، وهو ما يساءل أيضًا المنظمات الإنسانية حول التحكم في هذه الشعوب وتفقيرها وتهميشها لفائدة شعوب تعيش الرفاهية بثروات وقدرات وكفاءات هذه الشعوب النامية.

الفوارق الكبرى في النظام الرأسمالي

من بين أهم مساعي الرأسمالية والليبرالية المتوحشتين تفتيت الحدود الجغرافية وتحرير الأسواق في سبيل تمرير بضائع الدول الصناعية الكبرى وترويجها، فلا يهمهما إلا المال والذي يجعل الفوارق بين الطبقات كبيرة على المستوى المحلي وعلى المستوى الدولي؛ فمن بين ما أنتجته هذه الرأسمالية والليبرالية هو الفقر المدقع للطبقات الصغرى حتى في الدول النامية الغنية بالثروات الطبيعية، والتي يتواطأ حكامها مع الغرب، كما هو الحال لكثير من الدول العربية.

إن المجاعة وغياب النظافة وسوء التغذية وندرة المياه الصالحة للشرب هي شعار عصر العولمة أو الأمركة (américanisation) أو الإمبريالية العالمية أحادية القطبية التي تتحكم في الشعوب باسم العولمة، بحيث نرى بأم أعيننا كيف أن الآلاف من الناس اليوم يموتون جوعًا في دول العالم الثالث، فالفحش المالي الذي نجده اليوم عند الطبقة المسيطرة على المال يأتي على حساب مصادرة حقوق الشعوب المفقَّرة في العالم، بحيث يتم الاستيلاء على ثرواتها باسم التنمية، أو الحماية، أو الأمن القومي.

الرقمية وتحديات العدالة الكونية

الحق أن الرقمية اليوم قد فتحت الباب على مصراعيه، من أجل العمل أولاً على خلق نوع من الشفافية في الوصول إلى المعلومة والتوصل إلى الحقائق بخصوص وضعية حقوق الإنسان، ومعرفة كيف تتم مصادرة حقوق الإنسان في بعض الدول، والاستيلاء على ثروات الشعوب وتدمير الخصوصيات الثقافية، فالرقمية تجعلنا مقبلين على تحولات لا حدود لها في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها مستقبلاً، وعلى المثقف أن يقوم بدوره اليوم في العمل على نشر الوعي من أجل الدفاع عن العدالة الاجتماعية، وفي هذا الصدد يمكن الإشادة بالمبادرات التي تقوم بها بعض الجمعيات الحقوقية غير الحكومية والمنظمات المحلية أو الإقليمية أو الدولية للتضامن مع الشعوب المستضعفة في العالم، وهي مبادرات يمكن المراهنة عليها مستقبلاً بفضل ما تتيحه الرقمية من إمكانات لخلق اللحمة بين شعوب العالم عبر التضامن العالمي الذي يمكن أن تساهم فيه مواقع الاتصال الاجتماعي، وذلك  للحيلولة دون انتهاك حقوق الإنسان في العالم، ومن ثمة تحقيق نوع من العدالة الكونية.