لقد تفضل الله تعالى على عباده فأرسل إليهم رسله، وأنزل معهم كتبه، ودلَّهم بذلك على طريقه المستقيم ومنهجه الذي به نجاتهم وسعادتهم؛ (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى)(طه:١٢٣).
والإنسان في رحلة الحياة التي هي دار اختبار وعمل وجد، يتفاعل مع الدين؛ يقترب منه تارة ويبتعد عنه أخرى، يرتقي إلى هداياته وتوجيهاته في أحوال، ويتخلف عن ذلك في أحوال أخرى.. وفي هذه الشؤون المتفاوتة يظل الإنسان بحاجة لمراجعة نفسه فيما يتصل بتفاعله مع الدين؛ حتى يستقيم له الطريق، وتَسْلم له الغاية، وحتى يكون على بصيرة من خطواته.
وهذه بعضُ محطاتٍ تدعونا إلى أن نتأملها، بما يراجع موقفنا فيها ويفتح لنا آفاقًا في الفهم والسعي.
١- فكر بشري
ومن أولى المهمات التي ينبغي أن نهتم بها -مراجعة وتصويبًا وتجويدًا- ما يتعلق بـ”فكرنا الديني”، الذي لا شك أنه يسهم وبدرجة كبيرة في تشكيل وعينا بصفة عامة، وبالتالي له دور مهم في حياتنا.
وقد يتعجب البعض من أن يرتبط “الفكر” بـ”الدين”، تصورًا منه أن “الدين” بما أنه منهج إلهي مقدَّس من عند الخالق سبحانه، لا يَلحق به “الفكر” أو يقترن به الفكر؛ الذي هو عمل إنساني يقبل الصواب والخطأ، بل ربما كان خطؤه أكثر من صوابه.
والحقيقة أن هذا الاعتراض صحيح في مقدمته وليس كذلك في نتيجته.. نعم، “الدين” منهج إلهي مقدس، نزل من عند الله تعالى المتصف بالعلم والحكمة، والمنزَّه عن الخطأ والنسيان والغفلة.. لكن هذا “الدين” بمجرد أن يتناوله الإنسان -بالفهم والدرس والاستنتاج والتطبيق- يصبح “فكرًا بشريًّا”، أي منسوبًا للبشر وليس لله تعالى. فضلاً عن أن الدين ذاته يحض على العلم ويعلي درجته، ويجعله سبيلاً للخشية من الله، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(فاطر:٢٨)، وقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ)(ص:٢٩).
لكن تقرير حقيقة أن الفكر الديني فكر بشري، لا يعني أن نهيل عليه التراب ولا أن نتجاوزه، بزعم ما فيه من بشرية؛ ذلك أنه فكر يقوم على الدين، والدينُ فيه أصول ثابتة، وكليات هادية، وقواعد مستقرة، مثل العقائد والعبادات وأصول المعاملات ومبادئ الأخلاق.. وكلما اقترب الفكر الديني من ذلك كان أقرب إلى الصواب، ونال درجة من الاعتبار والرسوخ ولا أقول “القداسة”.
فما يطرحه الفكر الديني من رؤى واجتهادات هو فكر منسوب لأصحابه، وليس مقدسًا بحال من الأحوال، لكنه يقترب من الصواب ويحظى بالمكانة بقدر اقترابه من حقائق الدين وتعبيره عنها.
فهو فكر ينبع من الدين لكن لا يتطابق معه، ويحاول التعبير عنه من غير ادعاء بأنه هو الدين نفسه. وتقرير هذا، ليس دعوة لتجاوز الفكر الديني، وإنما لوضعه في الموضع الصحيح من غير تقديس ولا تسفيه.
٢- فكر ينفتح على غيره
من الصفات المطلوبة في الفكر الديني صاحب الدور الفاعل في حياة المجتمعات، أنه فكر ينفتح على غيره؛ يطلب العلم ولو بَعُد طريقه، ويبحث عن الحكمة ولو عند المخالفين.
فالفكر الديني بما أنه فكر، أي يقوم على إعمال العقل في النص الديني، وبما أنه ينبع من الإنسان ويحاول أن يبحث في مشكلاته وتطلعاته.. فإنه يدرك أن التجارب البشرية تتشابه، وهموم الإنسان تتقارب رغم اختلاف الزمان والمكان.. كما يدرك أن الله تعالى أنزل الدين ووضع فيه -لا سيما في جوانب المعاملات- أصولاً عامة ومبادئ ضابطة، وترك عن عمد كثيرًا من التفصيلات، حتى لا يشق على الإنسان، وحتى يترك مساحة لاستيعاب المتغيرات التي تتراكم عبر مختلف الزمان والمكان.
ولهذا، كان على الفكر الديني أن يُعمِل العقل كما هو مأمور بذلك في الدين نفسه، وأن يوسع مداركه وينفتح على ما لدى الآخرين من أفكار ورؤى.
رأينا ذلك فيما اقتبسه المسلمون في غزوة الأحزاب من فكرة حفر الخندق التي كانت معروفة لدى الفرس.. وفيما نقله المسلمون بعد ذلك من علوم اليونان.. وفي البعثات العلمية الحديثة لأوروبا؛ التي خرَّجت لنا علماء ومفكرين تركوا بصمات مميزة في فكرنا على وجه العموم، والديني منه على وجه الخصوص، أمثال رفاعة الطهطاوي، وطه حسين، ومحمد عبد الله دراز، وعبد الحليم محمود، ومحمد البهي.
وهذا الانفتاح المطلوب، هو انفتاح واع يدرك ما بين الثقافات والحضارات من اختلاف بالضرورة، فلكل ثقافة أو حضارة ما يميزها عن سائر الثقافات والحضارات، وإلا لَكَانت نسخًا مكررة من بعضها البعض، وما كانت هناك حاجة للتأكيد على الحوار والتلاقح الفكري بينها.
مجرد الدعوة للانفتاح والاستفادة مما لدى الآخرين، تعني أن ثمة اختلافًا هنا وهناك. وليس هذا الاختلاف مشكلة في حد ذاته. المهم، أن نعرف كيف نوظفه بحيث يؤدي للتكامل، وكيف نوجهه بحيث يبتعد عن الصدام.
والفكر الديني مدعو لهذا الانفتاح، لا سيما في عالمنا المعاصر الذي أزيلت فيه كثير من الحواجز، وأصبح تقاربه حقيقة ملموسة أكثر من أي وقت مضى.
٣- فكر ينحاز للإنسان
جاء الدين ليحقق للإنسان سعادته في الدينا والآخرة، وليرفع عنه الحرج والضيق والمشقة، وليزيل عنه ركامات الجهل التي تكبله وتجعل على قلبه وعقله غشاوة، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج:٧٨)، وقال عن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعة مهمته: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(الأعراف:١٥٧).
فالدين جاء ليحقق مصلحة الإنسان، وليكون له نورًا وهداية ورحمة، لا عنتًا ومشقة وحرجًا. ولهذا، كان على الفكر الديني أن يلتزم هذه الهدايات التي أنزل الله سبحانه وتعالى الدين من أجلها، وأن ينحاز هذا الفكر للإنسان. ويتمثل انحياز الفكر الديني للإنسان في عدة أمور، منها:
– إعلاء مكانة الإنسان، وعدم التمييز في ذلك بسبب اختلاف الدين أو العرق أو اللون أو الطبقة؛ فالإنسان مكرم عند الله، وطاعته لله تعالى تزيده تكريمًا على تكريم.
– التيسير في الدعوة، والتزام خطاب يحبب الناس إلى منهج الله، وييسر لهم أمور دينهم، ويبصرهم بوظيفة الدين في حياتهم.
– التعبير عن آمال الإنسان وتطلعاته؛ من حيث تقليل الفجوة بين الطبقات، وضمان الحقوق الأساسية للإنسان، وإنصافه أمام خطابات الكراهية واستنزاف الثروات وتسفيه حريته وإرادته.
– مواجهة المفاهيم المغلوطة عن الدين؛ مثل فهم القضاء والقدر على أنه جبرية، أو فهم الاستسلام لله على أنه سحق لإرادة الإنسان، أو فهم الدعوة للاستعداد للآخرة على أنها نبذ لمتاع الدنيا وطيباتها، أو ربط تزكية الروح بتعذيب الجسد وإعناته.. إلى غير ذلك من مفاهيم تُشقي الإنسانَ باسم الدين!
الإنسان هو في القلب من الدين؛ فالدين لا يقوم في الحياة بذاته وإنما من خلال الإنسان.. الإنسان الذي يفهم الدين على أنه طاقة للعمل والإبداع، وسعي شريف لتحصيل الطيبات، وعون للإنسان على تحقيق ذاته وحفظ كرامته وضمان حقوقه.. ومن ثم، على الفكر الديني أن ينحاز للإنسان في كل ذلك.
٤- عقلانية الخطاب
من الانتقالات المطلوبة في الفكر الديني، أن ينتقل من العاطفية والوعظية إلى العقلانية والإقناع والاستدلال. فالإنسان له روح يناسبها الخطاب الوعظي الذي يهدف إلى التحفيز والتشويق، وله عقل يناسبه الخطاب العقلاني الذي يهدف إلى الإقناع وبيان الفوائد والمضار.
والتركيز على الخطاب الوعظي أدى بالبعض إلى الإفراط والمبالغات والخرافات، والتحليق بالإنسان في مشاعر غير منضبطة أو أفكار غير مستقيمة، وما هكذا الدين.
نعم، الدين يقوم على التصديق بالقلب والإذعان بالجوارح، وعلى الرغبة فيما عند الله تعالى من النعيم، والخوف من العذاب المقيم.. لكننا -وبجانب هذا- نحتاج إلى خطاب يقدم الدين في حقائق واضحة، ويقيم على مبادئه أدلة مقنعة؛ وبالتالي يحول هداياته إلى سلوكيات محددة لا يشوبها غموض، ولا يعتريها تكلف، ولا يخالطها وهم.
وقد كان عجيبًا أن يبدأ القرآن الكريم أولى توجيهاته للإنسان بالأمر بالقراءة؛ التي هي مفتاح العقل وأداته إلى حقائق الكون والحياة، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ # الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)(العلق:١-٤).
كما جعل القرآن النظرَ في الأرض وتأمل ما فيها ومن فيها، طريقًا لمعرفة عظيم صنع الله تعالى، وقدرته على إحياء الخلق بعد الموت، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:٢٠).
إذن، طريق الإسلام لتقرير حقائقه هو طريق العلم والمعرفة والسير في الأرض والتأمل في الكون، وليس طريق التسليم بلا علم، أو الخضوع بلا برهان، فضلاً عن الادعاء بلا بينة.
وهذا كله، يوجب على الفكر الديني أن يكون فكرًا عقلانيًّا، يدرك حاجة الإنسان إلى البيان والبرهان، ويعلم أن الإقناع سبيل لرسوخ المعاني في النفس، ولانعكاسها على الجوارح.
والفكر الديني العقلاني:
– يعتمد الحوار أداة للإقناع ولتوصيل المعاني، لا سيما مع أجيال الشباب.
– يمزج في خطابه بين المثالية والواقعية.
– يتصالح مع الحياة ولا يخاصمها.
– يقدم نقدًا لنفسه ولا يتماهى مع قداسة النص الديني.
– يقيم جسورًا ولا يبني حواجز.
– يدرك أن الدين جاء للحياة قبل أن يكون نجاة في الآخرة.
٥- يعيش مع هدايات القرآن
القرآن الكريم هو ذلك الكتاب المعجز الذي أنزله الله تعالى هدى للناس، وجعل فيه النور والرحمة والصلاح لأحوالهم. هذا الكتاب العزيز هو أساس الإسلام وسر خلوده، وهو كتابه الجامع الهادي إلى صراط الله المستقيم.
من أراد التعرف على الإسلام، أو على مقصود الله تعالى من خلقه، أو على الدين كيف يكون هاديًا للنفس موجهًا للحياة.. فيكفيه أن يطالع هذا الكتاب العزيز، الذي قال عنه منزله سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(ص:٢٩)، وقال أيضًا: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة:٢).
والفكر الديني المطلوب، عليه أن يتعامل مع القرآن الكريم بهذا المستوى الذي يرتقي إلى هدايات القرآن وأنوراه:
– سواء مما يتصل بالنفس وتزكيتها، وصقلها بفعل الطاعات والابتعاد عن المعاصي.
– أو يتصل بالعقل وتوسيع مداركه، وإقامته على البرهان والميزان.
– أو بالمجتمع وتمتين صفوفه وتشييد وحدة أبنائه.
– أو بترسيخ مفاهيم العدل والقسط والعمران والإصلاح في جنبات الحياة.
في كل هذه المجالات وغيرها، تأتي هدايات القرآن واضحة بينة شافية؛ تشبع العقل وتزكي النفس وتهدي للتي هي أقوم. وهنا، نشير إلى أن ثمة مستويات للتعامل مع القرآن حجبت أو لم تبرز هذه الهدايات بشكل كافٍ، وذلك حين انشغلت بالتعامل مع القرآن على سبيل التبرك فحسب، أو اكتفت بالبحث فيه عن شواهد لغوية وبلاغية أو أدلة فقهية وتشريعية.
نعم، القرآن الكريم فيه كل ذلك، لكنه يبقى في الأساس كتاب هداية ومنبعًا للنور. واللافت أن التعبير عن هداية القرآن جاء في مفتتح الكتاب العزيز كما ذكرت آية سورة البقرة السابقة، ثم تكرر هذا المعنى فيما تلاها من السور، في إشارة مهمة إلى مركزية هذه الخاصية من بين خصائص القرآن الكريم. يقول الشيخ محمد الصادق عرجون: “والإعجاز بالهداية هو معجزة القرآن الخالدة خلود العقل، أما الإعجاز الأسلوبي في براعة البيان وروعة الأداء فهو إعجاز خاص بمن يفهمه ويزنه بميزان ركائزه من البلاغة العربية التي ذهب أهلها بعد أن استعجموا.. وبالهداية كان الإعجاز عامًّا شاملاً للزمان والمكان والأجيال والأفكار”. ولهذا، كان على الفكر الديني أن يمتن جسوره مع القرآن الكريم، وأن ينبع منه ويدور معه وينتهي إليه.
(*) باحث في الفكر الإسلامي / مصر.