طوفان التفاهة

من أهوال الطوفان أنه يكتسح الأحياء والمدن بما تحمله من ديار وسكان، ويغرق الأشجار ويمحو التضاريس؛ ليصنع بدلها تضاريس أخرى، غالبًا لا تلائم الناس ولا سائر الكائنات الحية… لذا تجد الناس يستشعرون خطر هذا الطوفان وهم يتلقون تنبيهات من أخبار أحوال الطقس، يخلون أماكن ينتقلون إلى أخرى، يجمعون الغالي والنفيس من أمتعتهم، يستعدون بكل ما أوتوا من مال وجهد  قبل الكسح والمحو والانقلاب الذي لا تحكمه القوانين ولا المحاكم، فهو قدر مقدر فوق إرادة ورغبة الإنسان، وكل طوفان تكون له آثار اقتصادية وعمرانية وبشرية سلبية على المدى البعيد، ويكلف الدول أموالاً طائلة تحتاج إليها في تأمين عيش وأمن المواطنين.

ذلكم الطوفان الطبيعي بمخاطره، ومفاجآته على المناطق التي تتعرض لهجمته الشرسة. فماذا عن طوفان التفاهة الذي نهض مسعورًا يواجهنا ونواجهه؟

طوفان التفاهة

إذا كان الطوفان البيئي الطبيعي فوق طاقة البشر، فإن طوفان التفاهة له منحى وعوامل أخرى، فهو من البشر إلى البشر، يركبه البعض ضمن مراكب آمنة؛ فيكتسح به صدور آخرين من بني جنسه، إنه طوفان يمكن تسميته عدة تسميات منها:

الناسف للجد. المكدّر للصفاء. المرادف للخواء. الداعي إلى الإسفاف. الماكر المخادع.

ألقاب يمكن اعتبارها عناوين لمقالات تصب في سلبيات هذا النوع من الطوفان، ففي حضور طوفان التفاهة -الذي لا يقتصر على منطقة على حساب أخرى- يسقط الجد كما يسقط المطر على رمضاء، يختفي، يهاجرنا ويغادر قلوبنا لتموت، تصير من خشب أو مطاط لا تشعر لا بالمُحرِق ولا بالمُبرِّد ولا بما بينهما، فالأخلاق والمكارم والفضائل تزول منسوفة بأمواج طوفان التفاهة الفتاكة، تغادر صدور الآباء، ولا تصل إلى الأبناء، وهنا يتعانق خواء الآباء مع خواء الأبناء، وبذلك يخلو المكان للتفاهة تسود وتوجه وتعيّن الناجحين بلا استحقاق والخاسرين دون ذنب ولا خطيئة سوى الانخداع المغرض المغرق في أوحال العبث.

التفاهة تواجهنا في كل فضاء، وفي كل وقت، ومحمولاتنا نوافذ ومنافذ تدخل عبرها إلينا التفاهة فتغمر بيوتنا كالهواء، وقد اعتدناها مكرهين حين تقوَّت وصارت طوفانًا وإعصارًا أخلى أذهاننا وقلوبنا من مشاعر الجد والمسؤولية، فصار الصغار والكبار، الإناث والذكور يعتبرون التفاهة معروفًا ونقيضها منكرًا ينبغي محاربته.

التفاهة الكاسحة غيرت وجه الحقيقة وسيدت العبيد وصيرت الأسياد عبيدًا، صار الأمي قائدًا للمتعلمين، يعلمهم كيف يربحون الآلاف والملايين في وقت وجيز بضحكة غريبة أو رقصة مغرية، أو بعرض جزء عار من جسد أو باختلاق مشكل أو معركة اختلاقًا أساسه الإثارة.

صارت التفاهة سيدة الفن بكل أنواعه.. صارت سيدة على الآباء والمعلمين فأهمل كثير منهم من قبل طلبتهم إلا من رحم الله.. صارت التفاهة الصديق الملازم للصغار والكبار ذكورًا وإناثًا.. صارت التفاهة المورد الأول والأخير لجمع المال بلا جهد، بل بالتسلية والضحك على الذقون، أصحابها مخادعون يمررون رغباتهم عبر العبث والهزل والمظاهر الفاضحة الجاذبة للغرائز الكامنة فينا، والتي يضبطها العقل حتى لا تصير بهيمية تفقدنا الطابع الإنساني الذي نفتخر به على جميع الكائنات.

ممارسو التفاهة عبر الإعلام الذي لا حدود لسطوته اليوم يَقْــلبون الحق فيصير في منزلة الباطل، ويرفعون من قيمة الباطل فيصير في الأوج يطمح إليه المصيدون ضحايا التفاهة الفتاكة.

عصرنا عصر التفاهة بامتياز للأسف، طوفانها أكثر هولاً وخطرًا من طوفان الطبيعة الذي يصيب منطقة ويترك مناطق، فالتفاهة نفذت إلى الكتابة، وإلى الثقافة، وإلى العادات، وإلى الفن، وإلى الأخلاق… صار الكل ناصحًا بلا حكمة، وصار الكل ممثلاً دون أن يلج مدارس المسرح، وصار الكل كوتشا يحبذ ويذم، وصار الكل يتاجر بجزء من حركاته أو جسده أو بجزء من مشاكله المختلقة.

علاج مرض التفاهة

إن التفاهة مهما سطت سحبها على العالم في شتى الجوانب، لن تبقى سيادتها، ولن تقبع على صدور الجماهير إلى الأبد، فلكل مرض دواء، ولكل سقوط في فخ وسائل للخلاص، ولكل ظلام نور يزيحه، المسألة مسألة وقت فقط.

ولا بد من توحيد الجهود شيئًا فشيئًا قصد بناء سد من الحصانة أمام التفاهة عبر الكتاب والمجلة والصحيفة والمدرسة وعبر وسائل التواصل الاجتماعية وهي ذاتها التي سهلت شهرة التافهين.

المسؤولية جسيمة تقع على عاتق الجميع، ونحن مع الفيلسوف الكندي “آلان دونو” صاحب كتاب (نظام التفاهة) وهو يقول: (إذا لم نواجه هجوم التفاهة الخبيثة للعدوان في بيئتنا اليومية، وإذا فقدنا السيطرة تدريجيًّا على التلوث السائد من اللامبالاة وعدم الاحترام، فنحن بحاجة إلى إعادة هيكلة تفكيرنا بشكل لا رجعة فيه وتعديل آلية عملنا، أخْذ كل شيء كأمر مسلم به وقبول أي شيء غير قابل للنقاش، قد يولد الانفصال، ويثير حسرة شديدة، وأخيراً يحول حياتنا إلى بلاء حتى لو سقط العالم، سوف ينقذني هاتفي المحمول).