غدت الاتصالات الحديثة بأشكالها المختلفة وصورها المتباينة، جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وأصبح ما كان حلمًا في الأمس واقعًا ملموسًا. إذ تقدم العلم في مجال الاتصالات بخطوات متسارعة أخذت تكتشف الجديد والمفيد، وتترك بصماتها الواضحات التي أسقطت بها الحواجز بين الشعوب، وأسهمت في تلاقي الحضارات المختلفة وتلاقح أفكارها، دون أن تعرقلـها فروقات التوقيت أو اختلاف الفصول، أو تعيقـها جغرافية البر والبحر.
وفي وقتنا الراهن تظهر طفرة غنيّة عن التعريف في عالم الاتصالات التي قرّبت البعيد، ويسّـرت أوعية المعرفة، واختزلت الوقت، وحوّلت المقولة المشهورة: “العالم قرية صغيرة” إلى حقيقة مشاهدة يَـسهل معها تداول الأخبار والمستجدات عبر وسائل متنوعة وعديدة بدأت على استحياء، وسرعان ما تطورت لتـشهد حضورًا قويًّا وجريئًا ما يزال ينمو يومًا بعد يوم.
وطفرة الاتصالات تلك، جعلت بين أيدينا جهازًا صغيرًا سهل الحمل، يصلنا بالعالم كلـه خلال ثوان معدودات، ولا تكاد دولة حول العالم تنجو من الزحف المستمر لهذا الجهاز الجوال. ولفت الأمر الأنظار إلى دخول أجهزة الجوال إلى كل منزل، كما أشارت التقديرات إلى زيادة عدد مستخدمي هذا الهاتف فوق المليارات، ولا شك في أن هذا العدد يزيد شيئًا فشيئًا وسنة بعد سنة.
كما يشهد مجال الاستثمار في عالم الاتصالات نموًّا ملاحَظًا، وقد نجحت وسائل الدعاية في جذب المستهلكين الجدد، وهي تحثّهم على الدخول إلى عالم الاتصالات الفسيح.
أبراج في كل مكان
وقد أحاطت بنا أبراجُ تقويةِ بثِّ الهاتف الجوال من جميع الجهات، ودعا هذا الحضور القوي العلماءَ إلى دراسة التأثيرات الحيوية الناتجة عن تعرض الجسم لما ينبعث من جهاز الجوال وأبراجه من إشعاعات قد تحمل بين طياتها خطرًا صحيًّا كامنًا يحتمل أن يتم اكتشافه في القريب العاجل.
وتنص كتب فيزياء الأشعة على أن هناك علاقة إرسال واستقبال بين الهاتف الجوال وأبراج تقوية بثّه الخاصة به. وتنشأ في البيئة المحيطة بنا والتي تكثر فيها أعداد أجهزة الجوال وأبراج تقوية إرساله، حقول مغناطيسية كهربائية من أشعة الراديو والموجات الصغيرة المعروفة بموجات الميكروويف، وهي المسؤولة عن التأثيرات المرَضية التي قد تشاهد في من يتعرض لتلك الموجات، وتتناسب شدة تلك التأثيرات طردًا مع مدة التعرّض للإشعاع، فكلما زادت هذه المدة زاد الأثر السلبي الناتج عنها.
إشعاعات الجهاز الجوال
لا تزال الدراسات حول ضرر الجهاز الجوال محدودة، ولم يتم حتى الآن إعطاء الموضوع حقه من جهد البحث، فذلك يحتاج إلى مدة طويلة وإلى المزيد من التنقيب.. وقد تكشف قادمات الأيام أضرارًا ثابتة في هذا المجال، إلا أن أصابع اتـهام قوية أخذت في الآونة الأخيرة تصف جهاز الجوال، بالخطر الكامن الذي شرعت آثاره السلبية تـتـضح شيئًا فشيئًا.
وتقترح بعض التقارير الطبية الحديثة، وجود رابط بين استخدام الهاتف الجوال وإصابة الجسم ببعض الاضطرابات المرَضيّة العابرة، وبخاصة في مستوى الجهاز العصبي؛ مثل الشعور بالإرهاق والصداع والدوار، واضطرابات النوم، وخلل في وظيفة الذاكرة وضعف التركيز، والإحساس ببعض الخَدَر والتنميل والشعور بالغثيان.
إلا أن تقارير أخرى أخذت تُظهر بعض التخوف والقلق بشأن توقعات بوجود علاقة بين كثرة استخدام الهاتف الجوال وظهور بعض الأعراض الخطيرة، مثل الإصابة بأورام الدماغ وارتفاع ضغط الدم، والتعرض لنوبات الصرع لدى الأطفال.
أضرار في الأذن
تمت في جامعة الملك عبد العزيز، دراسة دقيقة تناولت أبعاد الأضرار المتعلـقة بالأذن نتيجة تعرضها للحقل الكهربائي المغناطيسي الصادر عن أجهزة الهواتف الجوالة وأبراج التقوية، ودُرست حالة مريض في الثانية والأربعين من عمره، وكانت الشكوى الرئيسة لديه، ضعف حاسة السمع في الأذن اليمنى منذ ثلاثة أشهر، والشعور ببعض الألم داخل الأذن وحولها عقب استخدام الهاتف الجوّال، بالإضافة إلى بعض الأعراض التحسسية في الأنف، ونوبات من الصداع المتتالي.
وذكر المريض أن تلك الأعراض تبدأ بعد استخدام الجوال بدقائق، وقد تستمر في بعض الأحيان مدة ساعة كاملة، كما لاحظ أن استخدامه لهاتف المنزل العادي لا يسبب له في العادة مثل تلك الشكاوى المزعجة. وأفاد بأنه اعتاد استخدام الجوال مدة تقارب ساعتين يوميًّا، واستخدام الأذن اليمنى تحديدًا لسماع صوت المكالمات.
وتم إجراء فحص طبي، والتركيز على فحص الأذن المصابة، وأجري تقويم لقياس حدّة حاسة السمع، فجاءت النتائج مشخّصة لحدوث حالة مرضيّة تـُعرف بـ”فقد السمع الحسي العصبي” (Sensorineural Hearing Loss) في الأذن اليمنى التي يستخدمها المريض أثناء مكالماته عبر جهازه الجوال.
وتم متابعة تطور حالة المريض الصحية، فلوحظ تدهور مستوى السمع لديه مع استمراره باستعمال هاتفه الجوال وفق نظامه السابق. وفي زيارة لاحقة اقترح الطبيب أن يستخدم المريض أذنه اليسرى لتلقي المكالمات الهاتفية، وإيقاف استخدام الأذن اليمنى، واستمر ذلك ستة أشهر، تم بعدها إجراء تقويم جديد للحالة الصحية للأذنين معًا.
وجاءت النتائج مدهشة، إذ تحسّنت حالة الأذن اليمنى بصورة ملحوظة، بينما بدأت حالة الأذن اليسرى تتدهور تدريجيًّا لتصاب بأعراض فَقْد السمع الحسي العصبي سابق الذكر، فأصدر الطبيب تعليمات جديدة إلى مريضه، مفادها ضرورة الحد من استخدام الجوال، فاستجاب لذلك، فلم يتجاوز مجمل مكالماته الهاتفية خمس عشرة دقيقة يوميًّا، واستخدم سماعة خاصة ومكبّرًا للصوت، فقلـل بذلك من مدة التعرض المباشر للجوال، بالإضافة إلى إبعاد المسافة الفاصلة بين جسمه والهاتف، ولوحظ بعدها تحسن وظيفة السمع لدى أذنه من جديد.
أما التفسير العلمي لذلك فقد أوضحتـه الدراسات التي تقول: إن لقوقعة الأذن (Cochlea) مقدرة على امتصاص جزء كبير من موجات الحقل الكهربائي المغناطيسي، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة أنسجة تلك القوقعة وما جاورها، وهذا يؤثــر سلبًا في صحّة الخلايا الشعرية (Hair cells)، مما يضعف حاسة السمع بصورة تدريجيّة ملحوظة.
كيف نخفف أضرار الهاتف الجوال؟
إن جسم الإنسان أمانة لديه، وعليه مسؤولية كبيرة تجاه الحفاظ على صحته، وصونه عما قد يحدق به من خطر وضرر، ويدخل ذلك ضمن الالتزام بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “إن لجسدك عليك حقًّا” (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضِرار” (رواه ابن ماجة).
وثمة العديد من أساليب الوقاية التي تساعد في الحد من تعرض الجسم لمخاطر الإشعاع الصادرة عن جهاز الهاتف الجوال، ومن ذلك تقليل استخدام هذا الجهاز قدر المستطاع بتقليل مدة المكالمة واقتصار استعماله أثناء الحاجة إليه، فكلما زادت مدة المكالمة زاد احتمال ظهور الخطر. ونشير هنا إلى نتائج إحدى الدراسات التي جاء فيها؛ إن إجراء مكالمة مدة دقيقتين فقط عبر هاتف جوال، كفيلة بتغيير النشاط الكهربائي للدماغ مدة ساعة كاملة.
ومما ينصح به أيضًا، الاعتماد على استخدام الهاتف المنزلي ذي الخط الأرضي، وعدم استخدام الجوال داخل المنزل في حال وجود خط هاتفي أرضي، لا سيما وأن الأخير قد ثبتت سلامته وخلوه من أضرار الإشعاعات.
ويجب أيضًا إبعاد الجوال عن الجسم في حال عدم استخدامه، وليس من الصواب جعله بالقرب منا في المنزل أو العمل. كما يجب إبعاده عن الجسم أثناء النوم، إذ ثمة ما يشير أيضًا إلى تسبيب موجات الجوال لاضطرابات النوم، كالإصابة بالأرق والنوم المتقطع.
ويجب كذلك عدم وضع الجوال مدة طويلة في جيب ما نرتديه من ثياب، أو في حزام الخصر. وتشير دراسات إلى زيادة احتمال الإصابة بالعقم، نتيجة تعرض الأجهزة التناسلية في الجسم لمخاطر أشعة الجوال.
وأثبتت نظرية أخرى، أن إبعاد جهاز الجوال عن الرأس مسافة خمسة سنتيمترات، تخفض ما يقرب من 75% من موجات الإشعاعات الواصلة إلى الرأس والعنق، ويشجعنا ذلك على استخدام السماعات السلكية، ومكبـر الصوت (Speaker) التي يمكن معها إبعاد الجهاز عن أذن مستمعه ورأسه.
كما يجب الحرص على عدم استعمال الجوال داخل الأماكن المعدنية المغلقة، كالسيارة والطائرة والمصعد، وسبب ذلك أن الأشعة تميل إلى حبس جزء كبير منها داخل الحيـز المعدني، وهذا يعني أن الجسم سيـجبر على امتصاص كمية أكبر من هذه الأشعة، ولذلك يـُنصح بإغلاق الجوال داخل تلك الأمكنة المغلقة.
ومن المهم كذلك، عدم إجراء مكالمات الهاتف الجوال إن كانت إشارة البث ضعيفة، وذلك لأن ضعف الإشارة يجبر الجهاز على زيادة قوته وإنتاج طاقة أكبر، وفي ذلك مزيد من تعريض الجسم لمخاطر الأشعة والموجات.
كما تزيد مخاطر إشعاعات الجوال في حال استخدامه أثناء ركوب الأجسام المتحركة بسرعة، كالسيارات والطائرات والقطارات، لأن الحركة السريعة تزيد من إنتاج طاقة الجوال وبثـه للأشعة، ولذلك يُنصح بعدم إجراء مكالمات أثناء استخدام وسائل النقل تلك.
الأطفال والسيدات الحوامل
يجب تحجيم استخدام الأطفال للهاتف الجوال قدر الإمكان، والاقتصار على ذلك حين الضرورة. ومن المؤلم ما نراه من منظر الكثير من أبنائنا وهم يعبثون معظم أوقاتهم بهواتفهم الجوالة، وليت الأسرة تدرك خطر ذلك. وعمومًا فإن جمجمة الأطفال -من ناحية تشريحية- أرق مما هي عليه لدى الكبار، كما أن محتوى دماغ الطفل من السوائل أكبر، وهذان عاملان يسمحان بمرور موجات وإشعاعات أكثر نحو دماغ الطفل، مما قد يزيد من المخاطر المحتملة.
وتنصح السيدة الحامل أيضًا بتخفيف استعمالها للأجهزة الجوالة؛ فأعضاء الجنين الذي تحمله داخل الرحم حساسة جدًّا للمؤثرات الخارجية، لا سيما الموجات التي تبثها الهواتف الجوالة. كما تـحث أيضًا على تقليل استخدام الجوال بعد الولادة أثناء حملها لوليدها؛ فأنسجة جسمه الرخوة تستقبل هي الأخرى مزيدًا من الإشعاعات الضارة.
(*) اختصاصي جراحة التجميل بالمدينة المنورة / المملكة العربية السعودية.