مكتبات جمعت تراث الأمة

شهد المغرب الأقصى والأندلس خلال عصري المرابطين والموحدين -وقبل ذلك وبعده- ازدهارًا علميًّا ونبوغًا فكريًّا، كان من تجلياته العناية الكبيرة بصناعة الكتاب تأليفًا ونسخًا وتسفيرًا، وكذا الاهتمام البالغ بتشييد الخزائن التي تحضنه، وعمارتها وتنظيمها، باعتبارها مظهرًا من مظاهر الحركية العلمية والفعل الثقافي بتلك الربوع من العالم الإسلامي.
والعجيب أن هذه العناية بالكتب والمكتبات بالعدوتين لم تكن قاصرة على أهل العلم وطلبته فقط، وإنما تحولت إلى ثقافة شعبية تحرص جميع فئات المجتمع على الإسهام فيها. إذ صار التعلق بالكتاب وإنشاء خزائنه مظهرًا للرفعة والحظوة، ووجهًا من أوجه التعيين والرياسة، يقول “المقري” يصف قرطبة: “وهي أكثر بلاد الأندلس كتبًا، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة، يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصّله وظفر به”.
ومن الأخبار الطريفة المؤكدة لهذا الأمر ما نقل عن الإمام الحضرمي أنه قال: “أقمت مرة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي.. قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده.. قال: فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق، فهو كثير”.
لقد نتج عن هذا الوله بالكتاب والشغف بامتلاكه، بروز عدد من الخزائن العامرة والمكتبات الحافلة التي استجمعت في رحمها مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات في مختلف فروع العلم والتخصصات المعرفية.
عمومًا، يمكن تصنيف المكتبات التي كانت موجودة خلال الحقبة المرابطية والموحدية إلى ما يلي:

المكتبات المَلكية

يعتبر هذا النوع من المكتبات، من الظواهر التي تَمِيزُ الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها. وقد حفظت لنا كتب التاريخ والتراجم بعض أسامي الملوك والأمراء المغاربة، الذين عنوا باقتناء الكتب وتشييد المكتبات خلال المرحلة التاريخية التي نحن بصددها، منهم أمير “بطليوس” المظفر بن الأفطس (ت460هـ)، الذي وصف بأنه “كان جمّاعة للكتب، ذا خزانة عظيمة، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في الأدب والمعرفة”، ومنهم الأمير المرابطي المنصور بن محمد بن أبي داود اللمتوني (ت550هـ)، الذي قيل في ترجمته “كان ملوكي الأدوات، سامي الهمة، نزيه النفس، راغبًا في العلم، منافسًا في الدواوين العتيقة والأصول النفيسة، جمع من ذلك ما أعجز أهل زمانه”. ومنهم الأمير ميمون بن ياسين المرابطي (ت530هـ)، الذي وصفه مترجموه بأنه “كان رجلاً صالحًا معتنيًا بالآثار”، “ذا همة رفيعة في اقتناء الكتب”، ومن ذلك أنه اشترى حين حجه نسخة من صحيح مسلم مشرقية الخط في تسعة وعشرين جزءًا، وكان لا يبالي بما ينفق في ذلك، فقد أثر عنه أنه اشترى أيضًا أصل أبي ذر الهروي من صحيح البخاري بمال جسيم.
كما تذكر المصادر إشارات عن تأسيس يوسف بن تاشفين لخزائن بـ”لمتونة”، عمَّرها بالكتب التي جلبها من خلال رحلاته إلى الأندلس، وعلى دربه سار ابنه عليٌّ فجمع مكتبة عديمة النظير.
ومن أشهر من عرف بعدهما من الموحدين، أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، الذي عرف بشغفه الشديد بالعلم وجمع مظانه، حتى بذل في ذلك التعويضات السنية، بل قد بلغ به الوله بالكتب إلى استعمال القوة في جمعها وانتزاعها من أهلها غصبًا؛ وبذلك جمع من الكتب ما لم يجمعه غيره، قال المراكشي: “ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب”. ومعلوم أن مكتبة الحكم، تنيف محتوياتها عن أربعمائة ألف مجلد. بناء على هذه الشهادة يمكن القول: “إن يوسف الموحدي هو المؤسس لأول مكتبة ملكية عظيمة بالمغرب”.
وقد حرص خلَفُ أبي يعقوب على عمارة هذه المكتبة بجديد المقتنيات ونفيس المنتسخات، إلا أنها ستتعرض لنكبة مؤسفة عند خلع الخليفة عبد الواحد الأول الموحدي، فنهبت أكثر كتبها واختل نظام سيرها، حتى استقر الأمر لعبد الله العادل -الذي خلف السلطان المخلوع- فعمل على تنظيم ما بقي من كتبها وتمييز الكامل منها، ثم سار على الاهتمام بها خلَفُه أبو حفص عمر المرتضى، إلى أن آل أمرها إلى بني مرين.

مكتبات المساجد والجوامع

هي المكتبات التي كانت تؤثث بها المساجد والجوامع، وهي أقدم أنواع المكتبات الإسلامية، وقد برزت إلى الوجود مع ظهور المساجد. ففي نظري إنه لا يُتصور خلو المساجد الصغيرة من المشرق أو المغرب على الأقل من بعض الكتب -التي تصلح أن تكون نواة مكتبة- كالمصاحف وبعض كتب التفسير والحديث وغيرها، بله المساجد الجامعة؛ كجامع قرطبة وطليطلة وألمرية وإشبيلية والقرويين والكتبية وغيرها وإن كانت المصادر التاريخية لا تسعفنا في تأكيد هذا المعطى إلا في القرن الثامن الهجري وما بعده. ويزداد هذا الرأي قوة إذا علمنا أن هذه المساجد -خاصة الجامعة منها- كانت معاهد للتعليم منذ تأسيسها، وأكيد أن هذا الدور يقتضي أن تحوي بين ثناياها عددًا من الكتب والمصاحف التي يحتاجها الطلبة الواردون عليها على الأقل. وهذا الذي ذكرتُه، تذهب إليه بعض المصادر الأجنبية وغيرها، إذ تؤكد احتواء بعض المساجد للمكتبات؛ كجامع طليطلة الذي وُصف بأنه كان يتضمن مكتبة غنية وحافلة بالكتب، قد استولت عليها القوات النصرانية حين دخول طليطلة سنة (478هـ-1085م).
وقد ورد أيضًا في بعض المصادر العربية إشارات يمكنها تأكيد هذا الطرح، منها ما ورد عند الحميري في وصف مخزن جامع قرطبة، يقول: “وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، وقد نقل من الجامع أيام عبد المؤمن الموحدي إلى مراكش”. فهذا النص من الروض يشير إلى وجود مخزن بالجامع، وأن من محتويات هذا المخزن مصحف. فهل يا ترى أكان المصحف يتيمًا بهذا المخزن مع ما عرف به الجامع من عطاء في مجال التعليم والتدريس؟

مكتبات المدارس

وهي الخزائن التي كانت تلحق بمعاهد العلم والتدريس، والظاهر أنها وجدت بوجود المدارس نفسها، ولعل أشهرها في هذه المرحلة التاريخية، مكتبة أبي الحسن الشاري (579-649هـ) التي وصفت بأنها أول خزانة وقفت بالمغرب على أهل العلم، وقد شيدها الشاري وجعلها ملحقة بمدرسته الشهيرة بـ”سبتة”، إلا أن الفقيه محمد المنوني -رحمه الله- علق على هذه الإشارة التاريخية فقال: “نستبعد أن يتأخر تأسيس المكاتب العامة بالمغرب إلى العهد الأخير من الدولة الموحدية، من غير أن يكون على الأقل في أولها، ومن غير أن يكون لعبد المؤمن وأبنائه أثر في هذا الميدان، لما علم من اهتمامهم بهذا الشأن، واشتهر من ابتنائهم بيت الطلبة وتأسيس الكثير من المدارس بالمغرب وغير المغرب، وكل هذه المؤسسات لا تستغني عن الكتب والمكتبات تكون بجانبها مباحة للعموم”. وهذا الرأي الذي ذهب إليه المنوني -رحمه الله- وجيه، وقد أكدته بعض المصادر كـ”مسالك الأبصار” لـ”العمري”، فقد أورد أثناء حديثه عن القصر الذي بناه يعقوب المنصور إشارة قال فيها: “وفي رحبة القصر دارِ الكرامة والأضياف (…) وفي هذه الرحبةِ المدرسةُ، وهي مكان جليل به خزائن الكتب”. بناء على هذا أقول إن فرضية وجود هذا النوع من المكتبات بوجود المدارس نفسها، تكاد تفرض ذاتها وإن كانت تعوزنا الأدلة التاريخية في إثبات ذلك.

المكتبات الخاصة

هي الخزائن التي أسسها الأفراد من المجتمع لأنفسهم، إما بقصد الاستفادة منها علميًّا، أو بقصد التباهي والزينة. وقد كان الاهتمام بالمكتبات الشخصية خلال الحقبة المرابطية والموحدية، أمرًا ملحوظًا في سائر مدن العدوتين. وقد حفظت لنا كتب التراجم أسامي بعضها، منها مكتبة محمد بن يحيى الغافقي القرطبي المعروف بابن الموصل (ت433هـ)، وكان هذا الرجل يؤْثر جمع الكتب على كل لذة، وقد اجتمع عنده منها ما لم يجتمع مثله لأحد بعد الحكم المستنصر، وقد بيعت هذه الكتب في تركته، وأغلي فيها حتى تقدمت الورقة في بعضها بربع مثقال.
ومنها مكتبة عمر بن عبيد الله بن يوسف بن حامد الذهلي (ت454هـ)، فقد جاء في ترجمته: “وكان معتنيًا بنقل الحديث وروايته وسماعه من الشيوخ في وقته، جامعًا للكتب، مكثرًا في الرواية (…) وعن أبي مروان الطبني قال: أخبرني أبو حفصٍ، أيْ عمر بن عبيد الله قال: شددت في داري بالربض الغربي ثمانية أحمال من كتب لإخراجها إلى مكان غيره، ولم يتم لي العزم حتى انتهبها البربر”.
ومنها مكتبة علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن علي بن سمجون (ت599هـ)، فقد “لقي أشياخًا جلة وأخذ عنهم، وكان فقيهًا عارفًا جليلاً ذا مروءة كاملة وخلُق حسَن، وكانت له خزانة كتب حافلة”.
ومنها مكتبة عبد الرحيم بن الملجوم (ت604هـ) التي كونها من مكتبة والده عيسى الذي كان جمّاعة للدواوين العتيقة والدفاتر النفيسة، ومن مكتبة أستاذه أبي عبد الله محمد بن أحمد الخزرجي، ومما أضاف لهذه وتلك حيث صارت مكتبة حافلة بالنفائس والذخائر.
ومنها مكتبة قرابته عبد الرحمن بن يوسف بن الملجوم (ت605هـ)، التي “جمع لها من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل بالمغرب، وخزانة كتبه كانت مشهورة في المغرب”، “وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أنه بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلّدة بل متفرّقة، بستة آلاف دينار”.
ومنها مكتبة ابن أبي الصقر بمراكش، وهو الحافظ المكثر أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري، نزيل مراكش (ت569هـ).. كان كلفًا بالعلم حريصًا عليه، كتب من دواوين العلم ودفاتره ما لا يحصى كثرة، وكان يقتني من الكتب جملة وافرة سوى ما ينسخ بخطه الرائق، فاجتمع له بذلك مكتبة طافحة بالذخائر والنفائس، نكب فيها مرات بضروب من الجوائح كالغرق والنهب.
فهذه بعض من أنواع المكتبات التي برزت بالمغرب الأقصى والأندلس خلال عصري المرابطين والموحدين مع جملة من نماذجها، قصدت بها التمثيل لا الحصر، ذلك أن تتبع أخبار المكتبات أمر يطول، ولعل هذه أمثلة دالة على القصد، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

(*) كاتب وباحث مغربي.
المراجع
(1) نفح الطيب، للمقري، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1988م.
(2) المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي، لابن الأبار، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1967م.
(3) المستملح من كتاب التكملة، للإمام الذهبي، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2008م.
(4) صلة الصلة، لأبي جعفر بن الزبير، تحقيق: عبد السلام الهراس وآخرون، منشورات وزارة الأوقاف المغربية، 1994م.
(5) المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، تحقيق: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا، الطبعة الأولى، 2006م.
(6) لمحة عن تاريخ الخزائن الملكية بالمغرب الأقصى، لمحمد المنوني، منشور بمجلة دعوة الحق، ع:288.
(7) الكتب والمكتبات في الأندلس، حامد الشافعي دياب، دار قباء، الطبعة الأولى، 1998م.
(8) تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب، لعبد الحي الكتاني، ضبط وتعليق: أحمد شوقي بنبين، وعبد القادر سعود، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الثانية، 2005م.
(9) مسالك الأبصار، لابن فضل الله العمري، تحقيق: حمزة أحمد عباس، وآخرون، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
(10) وصف إفريقيا، ليون الإفريقي، ترجمة: محمد حجي، ومحمد الأخظر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1983م.
(11) الصلة، لابن بشكوال، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1989م.