يصف “أبو عثمان عمرو بن بَحْر” (الجاحظ) (159-255هـ) النبلاءَ بقوله: “ولا يكون المرء نبيلاً حتى يكون نبيلَ الرأي، نبيل اللّفظ، نبيل العقل، نبيل الخُلُق، نبيل المنظر، بعيد المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش”.
ومن صفات النُّبْل: “المروءة، وبُعْد الهمَّة، وبهاء المنظر، وجَزالة اللفظ، والمقامات الكريمة كحسن الخُلُق والحلم والحكمة والفطنة والرشد والتواضع واللطف والإنصاف والعدل والنزاهة والعفو والكرم والفضل والمسؤولية والشجاعة..”، ويقال “رجل نبيل: في فعله ومنظره، وفَرَسٌ نبيل: في حُسْنه وتمامه”.
ومن أشهر كتب التراجم “سير أعلام النبلاء” لمؤلفه العلامة “شمس الدين الذهبي” (673-748هـ)، الذي أصبح مرجعًا لكل أعلام ما قبل تدوين الكتاب (فرغ منه سنة 739هـ). ويسمو النبل في مكانٍ علي ومكانة رفيعة، لا يليقُ بنواله، ولا يستحِقُّ وصله ووصاله مَن لا يبذل وافرَ الجهد في تحصيله، عاملاً بسماته، آتيًا بمقتضياته، فيعيش أهله كِرامًا ويموتون كِرامًا.. وهو كالنجاح، غاية مقصودة ووجهة منشودة، وهي أرقى مِن أن ينالها كسولٌ، وأرفع مِن أن يستمتع بمذاقها بليد. يقول “المتنبي” في بيته النبيل:
وإذا كانــــت النفــــوس كبارًا تعبتْ في مرادها الأجسامُ
هذا النـبل الذي يسعى إليه كثير من البشر ليصبحوا من “النبلاء” هو سمة كونية مبثوثة في “الغازات النبيلة”. في عام 1898م نَحَتَ العالم “هوجو إيردمان” جملة “Noble gases” (الغازات النبيلة) من الألمانية “Edelgas”، وهي “النيون” و”الأرجون” و”الهيليوم” و”الزينون” و”الكريبتون” و”الرادون”. شكلت صفات هذه الغازات لغزًا مُحيرًا عند اكتشافها عام 1868م؛ حيث اكتشف “الهيليوم” بمطياف الشمس، أما “النيون” و”الكريبتون” فاكتُشفا عام 1898م. ولقد أضافها العالم الروسي “ديمتري مندليف” (Dmitri Mendeleev) (1834م-1907م) إلى جدوله الدوري للعناصر (Periodic Table of Elements)؛ وهو يضم 118 عنصرًا، مُرتبة حسب عددها الذرِّي. وتشغل الغازات النبيلة (تمتلك ذرات وحيدة) المجموعة رقم 18 من الجدول، كمجموعة غير مرئية وعديمة اللون والطعم والرائحة.
يمكن الحصول على “النيون” و”الأرجون” و”الكريبتون” و”الزينون” من الهواء في وحدة فصل الهواء، بأساليب تسييل الغازات والتقطير بالتجزئة. كما يتم الحصول على “الهيليوم” بشكل طبيعي عبر الاضمحلال الإشعاعي، من حقول الغاز الطبيعي، وذلك باستخدام تقنيات فصل الغاز بالتبريد العميق. بينما يتشكل “الرادون” طبيعيًّا نتيجة تحلل “اليورانيوم” و”الثوريوم”، ونظرًا لامتلاك هذين العنصرين عمرًا قصيرًا، فإن “الرادون” سيبقى أطول عمرًا، كما يتشكل “الرادون” عبر تحلل عنصر “الراديوم” الموجود في الصخور، وعبره يتم التنبؤ بحدوث الزلازل، رغم عدم اعتباره مصدرًا موثوقًا في هذا الشأن.
ومن نبل الغازات، أنها هادئة وأكثر استقرارًا بشكل فريد مدهش، وأنها مكتفية بذاتها، قنوعة بتكوينها، فعدد إلكتروناتها في مداراتها الأخيرة مكتمل (٨ إلكترونات)، وليست بحاجة لمساعدة خارجية من ذرات عناصر أخرى، ولها قوى بين جزيئية ضعيفة، ودرجات انصهارها وغليانها “منخفضة” بدرجة متشابهة لا يصل الفرق بينها إلى ١٠ درجات مئوية. وإنها لا تتفاعل مع الأحوال المحيطة بسهولة، وغير قابلة للاشتعال؛ فلا تتفاعل مع فتيل “التنجستين” الساخن الموجود داخل مصابيح الإضاءة (تمنعها من التأكسد) أو جدرانها الزجاجية، مما يساعد على إطالة أعمارها.
لعقود من الزمن اعتبر المختصون أن هذه الغازات لا تستطيع التواصل والاتحاد مع ذرات عناصر أخرى. فهذه المجموعة من الغازات ذات التكافؤ (صفر) في الجدول الدوري، لا يمكنها تشكيل مركبات عبر الاتحاد مع عناصر أخرى (أي إنها خاملة). لكن تبيَّن لاحقًا وجود مركبات يمكن لهذه الغازات المشاركة فيها عندما تتوفر طاقة عالية (تؤين) تحيل إلكتروناتها الخارجية من حالة الخمول إلى حالة النشاط (متابعة ذات شحانات). لذا أمكن تقسيمها لمجموعتين: الكريبتون المتفاعل نسبيًّا، والزينون، والرادون. وغير المتفاعلة جدًّا: النيون، والآرجون، والهيليوم. وفي عام 1933م، توقع الكيميائي الأمريكي “لينوس باولنغ”، أن الغازات النبيلة الأثقل، قادرة على تشكيل مركبات مع الفلور والأكسجين، وتوقّع وجود “مركب سداسي فلوريد الكريبتون”، و”سداسي فلوريد الزينون”، و”ثماني فلوريد الزينون” كمركب غير مستقر. وتبين صحة هذه التنبؤات، إلا أن ثماني فلوريد الزينون غير ثابت حراريًّا وحركيًّا، وتُمثِّل مركبات الزينون الأكثر عددًا حتى الآن، وتستخدم بعض هذه المركبات في الصناعات الكيميائية كعوامل مؤكسدة وفلورة، كثنائي فلوريد الزينون المتوفر تجاريًّا. وبحلول 2007م تم تحديد حوالي 500 مركب للزينون بما في ذلك مركباته العضوية (يرتبط بها “الزينون” بذرة كربون)، والزينون المرتبط بالنتروجين والكلور والذهب والزئبق والزينون نفسه. كما تم اكتشاف مركبات يرتبط فيها الزينون بالبورون أو الهيدروجين أو البيريليوم أو الكبريت أو التيتانيوم أو النحاس أو الفضة ولكن ضمن شروط خاصة.
إضاءة الغازات النبيلة
لدى الغازات النبيلة “حلم وحكمة وتواضع”، فهي “تمشي هونًا”، لا تميل كثيرًا “للمغامرة الكيميائية”. ويمكن تلوينها بألوان مختلفة فتنتج أطيافًا زاهية، وتوهجًا ساطعًا، وخصوصًا غاز “النيون” الأكثر استخدامًا في الإشارات الضوئية، مما يعطي توهجًا أحمر قويًّا. ويشكل “النيون” جزءًا بسيطًا من الهواء الذي نتنفسه، تنقيته بسيطة وغير مكلفة. وكذلك إنتاج غاز “الأرجون” “متواضع” غير مكلف، وضَوؤه أقل حدة من ضوء النيون، لذا عادة ما يتم إضافة كمية صغيرة من “الزئبق” لإنتاج ضوء أقوى، وتتميز مصابيحه تلك باللون الأزرق الفاتح. وعلى الرغم من أنه يمكن إنتاج ألوان أخرى عن طريق طلاء الجزء الداخلي من الأنبوب الزجاجي بفوسفور حساس للأشعة فوق البنفسجية، لكن “الزئبق” ينبعث من الأشعة فوق البنفسجية ويجعل الفوسفور يتوهج. وفي المناخات الباردة، يمكن إضافة “الهيليوم” إلى “الأرجون” لتسخين المصباح بشكل أسرع، مما يجعل تشغيله أكثر كفاءة.
وبالإضافة إلى استخدامه مع “الأرجون”، يمكن استخدام “الهيليوم” (الغاز الأكثر ندرة) بمفرده لإنتاج توهج أحمر وردي. كما أن “الهيليوم” النقي هو عنصر خاص لمصابيح تفريغ الغاز أكثر من “النيون” أو “الأرجون”. ويستعمل “الهيليوم” (بدل الهيدروجين القابل للاشتعال) في نفخ المناطيد والبالونات التي تطير في الهواء في أعياد الميلاد والاحتفالات وغيرها، ويستخدم غواصو البحار أسطوانات (أخف وزنًا، وأكثر كفاءة) ممتلئة بغاز “هيليوكس” عند أعماق أكثر من 55 مترًا لحمايتهم من التسمم والأثر المميت للأوكسجين عالي الضغط، وتجنبًا لتخدير الأعماق حيث الأثر المشتت المخدّر لغاز النيتروجين عند الابتعاد عن عتبة الضغط الجزيئي، بالإضافة إلى التسمم/الذعر بثنائي أكسيد الكربون (فرط ثنائي أكسيد الكربون في الدم)، كما يُستخدم الهيليوم أحيانًا لتحسين التنفس لدى مرضى الربو.
ويوظف غاز “الزينون” لإنتاج ضوء ساطع. وكما هو الحال مع “الهيليوم”، لا يتم استخدامه غالبًا بمفرده لإضاءة اللافتات، على الرغم من استخدامه منذ فترة طويلة للأضواء القوية والتصوير الفوتوغرافي باستعمال الفلاش. كما يمكن خلط “الزينون” بنسب مختلفة مع الغازات النبيلة الأخرى لعمل خليط من الإضاءات بألوان مختلفة. وتستخدمه شركة “آي ماكس” في الصور التي تعرضها على مسارحها حتى تعرض بشكل أفضل، حيث يملأ الزينون في المصابيح المستعملة في عرض الفيلم على الشاشة. كما يستعمل “الزينون” في عملية التخدير، فيعمل على إذابة الطبقات الدهنية التي تتكون منها أغشية الخلايا. وهذا يجعله أكثر فعالية من أوكسيد النيتروز المعتاد، كما يتخلص الجسم منه بسهولة، مما يؤدي لعملية إفاقة أسرع. للزينون تطبيق طبي آخر في التصوير الطبي للرئتين، من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي فائق القطبية.
ويعطي غاز “الكريبتون” ضوءًا أصفر وأبيض مميزًا، مما يجعله مفيدًا للألوان الأخرى. فإذا كان زجاج المصباح ملونًا، فإن الضوء الصادر من “الكريبتون” سيأخذ هذا اللون الجديد، كما هو الحال مع “الزينون”. وينتفع “الجراحون” من أشعة الليزر النابعة من كرم المصابيح المملوءة بالزينون والكريبتون والأرجون، فتتمكن من إزالة ترسبات “الكولسترول” المسبب لتصلب الشرايين، ورأب الأوعية الدموية، كما تساعد أشعة الليزر، في بعض جراحات العيون. وعبر تسليط الليزر على جزئيات “الذهب النانوية”-بما تمتصه/وتعكسه من حرارة- على إذابة وتدمير الخلايا السرطانية.
الرادون النبيل
اكتشفه “إرسنت رذرفورد”، و”روبرت بي أوينز” عام 1899م، واسمه مشتق من اسم العنصر الكيميائي “الراديوم”. وكان اسمه في بداية الأمر “رادون نيتون”، وهو مشتق من الكلمة اللاتينية “Nitens” وتعني “اللامع”. ويحمل الرمز Rn، وقيمة العدد الذري له في الجدول الدوري هي 86. وهو غازٌ خامل كيميائيًّا، وغير قابل للاشتعال، وعديم اللون والطعم والرائحة. وينتشر غاز “الرادون” في الطبيعة، ولا يتم الانتباه لوجوده باعتباره غازًا غير مرئي. ومثلما يمكن دفع أحد النبلاء إلى أن يكون “ضارًّا” بعض الشيء، فيتفاعل مع مواقف لا ترتقي لنبله. فإن غاز “الرادون” سام جدًّا، ويعدّ ثاني أكثر المسببات لسرطان الرئة بعد التدخين، وهو خامس عنصر كيميائي مشعّ.
وبما أنه ينتج من تحلل بعض العناصر، فإن الإنسان لا دخل له بوجوده. وقد يتسرب من باطن الأرض إلى داخل المباني والمنازل عبر الشقوق الموجودة في الأساسات، أو عبر البالوعات الأرضية أو المسام، التي يحتويها الطوب الإسمنتي الأجوف. وقد يظهر الغاز في مستويات تركيز مختلفة، ويزيد تركيزه في الهواء في المناطق المحتوية على صخور كثيرة تحتوي على الراديوم، ومنها الجرانيت، حيث تتركز فيه ذرّات الرادون، وتنتشر في المباني التي دخل في تأسيسها، وتزداد خطورته على الصحة إذا ما تجمع داخل مبان مغلقة. ولخفض نسبته في المنازل، ينبغي قضاء وقت أقلّ في الأماكن التي يمكن أن تحتوي على نسب مرتفعة منه، من الأماكن المنخفضة بالمنزل مثل الكراج. مع تهوية المنزل جيدًا، وغلق البالوعات بإحكام وتغطيتها للحدّ من تسرّب غاز الرادون داخل المنزل، أو تركيب مصيدة مائية بها لسدّ أماكن تسرّب الغاز، وشفطه من التربة.
ومما رفع من شأن نبل “الرادون”، أنه استعمل -أوائل القرن العشرين- في المعالجة بالأشعة لأنواع من السرطان وأمراض مناعة ذاتية، كالتهاب المفاصل. وذلك عبر التعرض للرادون المسمى بـ”هرمون الإشعاع” في غرف صغيرة، وذلك قبل اكتشاف آثاره المسببة لسرطان الرئة. كما استُخدم في التصوير الإشعاعي، إلا أنه استُبدل بالأشعة السينية (أشعة إكس، X-rays) التي اكتشفها “وليام كونراد رونتغن” عام 1895م، نظرًا لأنها أقلّ تكلفة وخطرًا.