فن الأرض والاندماج مع الطبيعة

إنه التشكيل المباشر في الطبيعة، بأدواتها عبر مجسمات منحوتة، أو تشكيلات محفورة، أو تكوينات مرسومة أو منسقة (على الأحجار، الحصى، الرمال، الأشجار)، أو دوائر كبيرة، أو جدرانٍ طويلة، أو أشكالٍ حلزونية، أو تركيبات بخامات بيئية أو مستهلكة (أحجار، ورمال، ومياه، وثلوج، وفروع أشجار ضخمة، ومعادن، وأسطوانات مُدمجة). وهو فن يقترب من أسلوب الحياة الطبيعية، ويتخلص من القوالب المتكررة، لينتج أعمالاً وأفكارًا بصرية وتشكيلية طبيعية. ولقد تأثر هذا الفن (تشكيل الأرض أحد اتجاهات الفن المفاهيمي) بغيره من الفنون الحديثة كفن الحد الأدنى والفن التكعيبي. حيث تتشارك هذه الفنون كلها في العودة إلى الشكل البسيط واستخدام مواد بيئية طبيعية.  

ويتميز “فن الأرض” بأنه نمط مرتبط بالأرضية أو المساحة التي يتم تنفيذه عليها، وعبرها يهدف الفنان لتغذيتها بملامح جمالية، وتضاريس فنية محلية أو منقولة أو غريبة. ووصفه البعض بـ”الفن المستحيل” وهو أشياء ذات أبعاد ضخمة من المستحيل جمعها، أو عرضها في المتاحف أو القاعات، ومن أمثلتها أرض مليئة بالملح، وصناديق مليئة بالأحجار، وقطع من الجليد، وحقل حصاد.. ونظرًا لطبيعة خامات هذا الفن، وكونه عملاً مرتبطًا بالأرض التي نُفذ عليها، فإن إبداعاته لا يمكن تسويقها بذاتها وليست قابلة للنقل، ولكن يستفاد منها في مجالات عدة كالدعاية، والترويج التجاري، والإرشاد السياحي. والواقع أن عددًا من إبداعات هذا الفن قد تتحول بعد فترة من الزمن إلى مجرد أثر، فتمحى وتتفكك وتتأثر بعوامل التعرية، ولا يبقى منها إلا وثائق تشهد عليها.

عمق الجذور

انطلق “تشكيل الأرض” في أكتوبر 1968م من قِبل مجموعة معرض “أعمال الأرض” في جاليري الدون في نيويورك. وفي فبراير عام 1969م، رعى “ويلغبي شارب” معرض “تشكيل الأرض” التاريخي في متحف “أندرو ديكسون” الأبيض للفنون في جامعة كورنيل إيثاكا في نيويورك. ومن أهم  فناني هذا الاتجاه “روبرت سميثسون” وزوجته “نانسي هولت”.. لكن هذا الفن له جذور ضاربة في أعماق التاريخ البشري، وفي إبداع الشعوب العريقة.

فـ “خطوط نازكا” هي مجموعة رسوم ونقوش عملاقة وغامضة تم اكتشافها في صحراء “نازكا” بجنوب بيرو، ويُعتقد أنها تعود لحضارة “نازكا” فيما بين (200ق.م-600م). وما يزيد الأمر غرابة دقتها الفلكية المدهشة، حيث تشير بعض الخطوط لأماكن النجوم في أوقات معينة من العام، وهي خطوط مستقيمة وأشكال لولبية ومنحرفات عبر 500 كلم مربع من الأرض، وتتنوع تعقيداتها من خطوط بسيطة إلى رسوم طيور الطنان والعناكب والقرود والسحالي، وشكل رجل وحوت ووردة.. ويصل عدد هذه الأشكال إلى خمسين شكلاً يتراوح أطوالها بين 25-275 مترًا. وتَبيَّن أن صُنعها ربما كان عبر إبعاد طبقة أكسيد الحديد. وبعد إزالة الحصى فإن الخطوط تتباين مع لون التربة الفاتح. وما زالت هذه الخطوط موجودة بفضل غياب الرياح والجو الجاف (من أكثر المناطق جفافًا في العالم). ومعظمها لا يمكن رؤيتها كاملاً إلا عبر الجو، وهذا ما أدهش المعماريين منذ عام 1920م. فكيف استطاع “النازكا” تنفيذها بهذه الدقة؟ ولأجل من؟ ولماذا نفذت على هذه المساحة الشاسعة؟ وفي محاولة للإجابة على هذه الأسئلة، ظهرت العديد من النظريات والدراسات. وقد رصدت الأقمار الصناعية آثارًا لخطوط “نازكا” الصخرية التاريخية في منطقة الشرق الأوسط، وهي عبارة عن نقوش عملاقة في المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وسورية.

وفي شمال غرب “نازكا” اكتشفت أعمال لعلها تعود لشعب “الباركاس” (600-200ق.م)، سميت “البتروجليف” (النقش على الصخر)، وقد نُقشت على سطوح منحدرات الجبال وهي غير واضحة تمامًا، وتظهر للعيان تبعًا للاتجاه الذي تُشاهد منه. وهي نقوش مذهلة تصور البشر والحيوانات وتشبه بعفويتها رسوم الأطفال. فتصور أناسًا مرموقين ونبلاء، وآخرين يحمل سكاكين طقسية في يدٍ وقضبانًا في الأخرى، بالإضافة إلى قبعات مزركشة، ورسوم حيوانات تشبه اللاما. ويشار إلى أنها أنجزت كدلالة إلى أماكن وجود منصات العبادة المقطوعة فوق قمم الجبال. وفي 26 يونيو 1998م وعبر الجو، تم اكتشاف “العملاق ستيوارت” أو “رجل الماري” في منتصف استراليا، وهو عمل أرضي ضخم وبدائي يشخص رجلاً استراليًّا يحمل عصا في يده، ويصل طوله إلى 4,2 كلم، بمحيط 15-28 كلم، وهو أكبر جيوجليف في العالم، وقد يعود -حسب دراسات- إلى قبيلة “بيتجات تجاتجارا” المعروفة بصيد الطيور عبر رمي العصي. 

روائع تشكيل الأرض الحديثة

يقول “دوغلاس هوبر”: “إن فن الأرض لا يتطلب بالضرورة نقل أطنان من التراب والصخور من مكان إلى آخر.. إن تحديد المكان بشكل أو بآخر، يكفي لخلق العمل الفني”. لذا قد تقتصر بعض الأعمال على مشاهد اندماج الإنسان مع الطبيعة لتعكس طابعًا “تأمليًّا صوفيًّا”، كالمشي في الطبيعة وملاحظتها، والتقاط صورًا فوتوغرافية لها. ويأتي “حاجز الميناء الحلزوني” كأحد أهم وأشهر الأعمال الرائدة والمُلهمة في المضمار للفنان الأمريكي “روبرت سميثسون” (1938-1973م)، نحته عام 1970م من الطين ويلورات الملح المترسب، وستة آلاف طن من الصخور البازلتية السوداء داخل البحيرة العظيمة بالقرب من “روزل” في ولاية “يوتا” الأمريكية. لكن منذ أكتوبر 2015م، غمرته مياه البحيرة فتلاشي، ولا يمكن مشاهدته إلا عبر وثائق وصور فوتوغرافية له. ويظهر العمل كحاجز طوله 1500 قدم يتداخل ويتقاطع مع البحيرة بشكل حلزوني، ويلتف عكس اتجاه عقارب الساعة. كما شاركت الفنانة “نانسي هولت” زوجها “روبرت سميثسون” إبداعه، واشتهرت بعملها “أنفاق الشمس” (1973م)، وهو أربعة أنفاق أسمنتية ضخمة مثقوبة وموضوعة على شكل حرف X في صحراء ولاية “يوتا”، بصورة تسمح بدخول أشعة الشمس وتلوين جدرانها بلون الرمال الذهبي وتشكل فتحات الأنفاق “براويز” لقرص الشمس.

ووظف “ريتشارد لونغ” الماء والعشب والأحجار لإنجاز أعماله، وصنع منحوتات تعبر عن المشي؛ فهو يؤمن بأن له تاريخًا ثقافيًّا للشعوب، كالحجاج وشعراء اليابان، المتجولين والرومانسيين الإنجليز. وأنجز منحوتاته الأولى عام 1965م وهو يمشي، وعمله عبارة عن خط مستقيم من الحجارة المرصوفة ضمن حقل عشبي، فقد فتن بطريقة جديدة للمشي وتزود بفكرة كشف العلاقات بين الوقت والمسافة والجغرافيا والقياس. ويقول الفنان موضحًا: “أعتقد أن منحوتاتي الأرضية تقطن في منطقة غنية وبين نظريتين فكريتين، إما أن أصنع صرحًا تذكاريًّا أو أترك بصماتي”.

وقام الفنانان “جيم دينيفان”، و”اندريس امادور” بتنفيذ رسومات ونقوش عملاقة علي الرمال يصعب رؤيتها كاملة إلا من ارتفاعات شاهقة. واستطاعا تحويل الشواطئ الأمريكية والمكسيكية إلى معارض عملاقة لرسومات أدهشت العالم بدقّتها وحجمها. ووظفا فيها مستلزمات طبيعية كفروع الأشجار وقطع الخشب، وفي أحيان كثيرة يستخدم سيارته نظرًا لحجم رسوماته العملاقة التي وصل عرض بعضها إلى 4,8 كلم. وفي مخاطبة الصحراء، “كتشكيل طبيعي، وكحالة عقلية، وتواصل المرء مع اللانهاية” غطي عمل “تنفس الصحراء” (1997م) مئة ألف متر مربع من الأرض الصحراوية بمنطقة الجونة بالقرب من البحر الأحمر في مصر. وتطلب تنفيذه ـ الذي ابتكره ثلاثة مبدعين يونانيين وهم الفنان “دناي ستراتو”، والمصممة الصناعية المعمارية “ألكساندرا ستراتو”، والمعمارية “ستيلا كونستانتينيديس”، إزاحة ثمانية ألاف متر مكعب من الرمال. وذلك لعمل حوض دائري ممتلئ بالماء بقطر ثلاثين مترًا، تحيط بها أشكال مخروطية للأسفل وللأعلى تشكل في مجموعها حلزونين متشابكين، وهو ما زال قابلاً للروية رغم تعرض للعوامل الجوية الطبيعية. 

أما أعمال “والتر دي ماريا” فتعتمد بشكل كبير على القياسات والأرقام، مثل عمل “الحقل المضاء” الموجود في صحراء “نيفادا” جنوب غرب مكسيكو. ويتألف من أربعمائة عمود موضوعة في صفوف متشابكة، ويظهر مفهومه جليًّا في عمله هذا وهو تصميم دقيق يستقطب الطاقة الكونية الرفيعة الموجودة في الطبيعة. بينما درس الألماني “ديتمار فورفولد” في مدينة “دوسلدورف” فن الجرافيك والتصوير الفوتوغرافي، وأمضى كثيرًا من وقته على سواحل “موريشر” (الجنشر) الخلابة في شمال اسكتلندا، وفيها أنجز “ديتمار” معظم أعماله من فن الأرض، وبعضها الآخر احتضنته شواطئ كريت وألمانيا.

 ولعل من أشهر أعمال الفنان الأماني “نيلس أودو” ما يعرف بـ”عش كليمسون كلاي” (2005م) والمقام في حدائق “ساوث كارولينا” التابعة لجامعة “كليمسون”؛ وهو عبارة عن عش طائر عملاق يزن ثمانين طنًّا من سيقان البامبو وأوراق الشجر والنباتات. وظل العمل صادمًا لعامين حتى أزيل لكونه “غير آمن”. لكن رمزيته أشارت إلى البيت الحنون والطبيعة.

ولعقدين من الزمن سعي الفنان النيوزيلندي “مارتن هيل” بالتعاون مع شريكته الفنانة “فيليبا جونس”، إلى السفر لأماكن نائية ليبدعا منحوتاتهما الرائعة من الصخور والثلوج والمواد العضوية. وهي تأخذ أشكالاً دائرية تمثل دورات الطبيعة، وتوضع -عادة- وسط بحيرات متلألئة حيث انعكاس الضوء المبهر. وذلك بغية حث الناس على تأمل العلاقة بين النظم الطبيعية والتواصل مع البيئة وحمايتها، وكيفية الانتقال بحدود اللوحة من الوجود الضيق المحدود إلى الفضاء الرحب غير المحدود. ويبقي “فن الأرض” مرحلة بارزة في ديمومة تفاعل حركة الفن وإبداعات الفنان مع ثقافة وبيئة المجتمع. وهو نتاج النشاط البشري الإبداعي الذي يرتمي في أحضان الطبيعة. فيبدع من خلالها وبأدواتها، عن أفكاره ومشاعره المتوافقة. وفي محاولة هامة لنقل الأعمال من أروقة الفن المغلقة ومعارضه الضيقة، إلى أحضان الطبيعة الرحبة ومساحاتها الشاسعة، بغية العودة إليها وفهمها وتأملها واكتشاف خباياها وسحرها.