من الأمور التي كانت محل دهشة من كثيرين، أن الرئيس “فرانكلين روزفلت” (Franklin Delano Roosevelt) (1882-1945م)، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق الذي فاز في أربعة انتخابات رئاسية متتالية، كان يتباهى بأن عروقه تجري فيها ثلاثة دماء: الدم الأيْرلندي، والدم البريطاني، والدم الألماني. وكان علماء الوراثة يُرجعون سر حيوية الأمريكي -من الناحية الجسمانية والعقلية- إلى الاختلاف والتباين بين الطوائف التي نزحت إلى أمريكا واستوطنتها، فامتزجت دماؤها من خلال التزاوج بين هذه العناصر المتباينة من الناحية الوراثية، فأدى ذلك إلى التحسين الوراثي للأمريكيين بشكل عام.
أما بالنسبة للشعوب الإسلامية -بشكل عام- فما زالت تنتشر بعض العادات والتقاليد التي لم يمحها الزمن وتغيراته والعلم وتقدمه. ومن هذه العادات زواج الأقارب، وهو ما يُعرف في علم البيولوجيا بـ”الإندوجامي” (Endogamy)؛ حيث تشير بعض الإحصاءات الحديثة، إلى أن نسبة انتشاره تنحصر فيما بين 25-42٪ في بعض البلاد العربية كمصر. ومهما كانت الدوافع لتفشي هذه الظاهرة، لا سيما في المناطق الريفية وفي صعيد مصر، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، فإنها ظاهرة يجب إعادة النظر فيها، في ضوء معطيات العلم الحديث، بل -ومن قبل ذلك- في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الكاشفة والهادية إلى سواء السبيل.
ينصح علماء الوراثة بعدم التزاوج من الأقارب، خصوصًا إذا كانوا يحملون صفات غير مرغوب فيها. إذ إن زواج الأقارب يؤدي إلى عزل السلالات النقية وتركيزها بمعدلات عالية، وبذلك تكون نتيجة هذه الزيجات ذرية تحمل بعض الصفات الوراثية غير المرغوب فيها، بل وأحيانا سيئة. ولكنهم لا ينصحون بمنع هذا الزواج إن كانت العائلة تتمتع بصفات مرغوب فيها كالذكاء والقوة البدنية، مع خلوهم من العيوب الخلقية، ومع خلوهم أيضًا من الاستعداد لبعض الأمراض المعروفة بارتباطها بالوراثة، فتكون النتيجة في هذه الحالات جيدة.
هذا وقد كانت عادة زواج الأقارب من الدرجة الأولى (التي تضم الأب والأخ والأخت) متفشية على عهد قدماء المصريين، وقد أدت إلى انقراض هذه العائلات. ومن المعروف أن “كليوباترا” كانت متزوجة من أخيها، قبل مغامراتها مع قيصر، ومن بعده أنطونيوس وغيره.
فمن عيوب هذا الزواج أن السلالات الناتجة تكون عُرضَة للإصابة بأمراض كثيرة كالسرطان، والدرن، والجنون الخفيف، والبلاهة، والتخلف العقلي.. كما يولد الأطفال الناتجون من هذا الزواج بأوزان تقل كثيرًا عن أوزان الأطفال العاديين الناتجين من زواج الأباعد (Exogamy)، كما تظهر على بعض هؤلاء الأطفال حالات غير سوية بنيوية، كغياب الأسنان القاطعة العلوية، والتحام سُلاميات الأصابع، وقد يولد الأطفال صُمًّا بُكمًا، وذلك لوجود خلل في مراكز السمع في المخ. وقد تنخفض مرَّات الحمل نتيجة لنقص خصوبة هذا الزواج، أو لموت الجنين في أطواره الأولى، ثم تزيد نسبة النقص في الخصوبة جيلاً بعد جيل، إلى أن يحدث العُقم الكامل، فيؤدي ذلك إلى انقراض العائلات التي تعتمد على هذا النظام الزواجي.
ومن الأمراض التي كشفت عنها بعض البحوث الحديثة بالنسبة للأمراض المرتطبة بزواج الأقارب، أمراض خلل التمثيل الغذائي (Metabolic disorder)، ومرض “ويلسون” في الكبد، وضمور المخ، وأمراض الدم الوراثية وأشهرها أنيميا البحر الأبيض المتوسط (ثلاسيميا)، وأنيميا الخلايا المنجلية، ونزيف الدم الوراثي أو النزاف (الهيموفيليا)، ومرض الكلية المتحوصلة الذي يؤدي إلى الفشل الكلوي، وبيلة الفينيل كيتون (PKU)، واضطرابات نقص المناعة، وارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال، وانخفاض الوزن عند الولادة، ومتلازمة داون (Down syndrome).
أما الدراسات الطبية في المملكة العربية السعودية فقد أوضحت أن 73٪ من حالات استسقاء المخ، واعتلالات الجهاز العصبي في الأطفال حديثي الولادة، ترجع إلى زواج الأقارب. كما تشير الإحصاءات العالمية والمحلية إلى أن أعلى نسبة من الحالات المرضية المرتبطة بالحمل، مثل فقر الدم، وتسمم الحمل، والنزيف والإجهاض، وارتفاع معدلات الولادات القيصرية، كانت بين الأمهات المتزوجات من أقاربهن. ولذلك فقد حرّم الإسلام زواج الأقارب الأقربين، وهم ما يعرفون بالمحارم، فقد جاء من قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ)(النساء:23).
وتفسير ذلك إنما يرتكز على بعض الحقائق الوراثية التي تم اكتشافها حديثًا، حيث إن بعض الصفات الوراثية المُسببة لكل هذه العيوب والصفات توجد بصورة متنحية، أيْ إنها قد لا تظهر على الفرد وإن كانت في الوقت نفسه كامنة فيه. وعند تزاوج الأقارب تزداد فرص اجتماع وتركيز مثل هذه الصفات، فتظهر في صورة نقية، ويؤدي تركيزها وظهورها في هذه الحالة إلى أوخم العواقب.
أما في حالة زواج الأباعد، فهناك دائمًا فرصة كبيرة لبقاء نسب الخليط في الصفات كما هي، بل قد يزيد في نسبة تخفيضها، فلا يؤدي ذلك إلى تركيز مثل هذه الصفات، وإضافة إلى ذلك فقد يؤدي إلى قوة الخليط، حيث إن السلالات المُهَجّنة تفوق عادة كِلا الأبوين والجدَّين قوة وصفات. وفي حديث أورده كثير من الفقهاء في الاستدلال على استحباب كون الزوجة غير قريبة جدًّا، منهم الشرواني في حواشيه، والغزالي في الوسيط، والإحياء، والشربيني في “مُغني المحتاج”، هو: “اغتربوا لا تُضْووا”، أيْ انتهجوا أسلوب زواج الأباعد حتى لا تضعفوا(١).
ويقول الشاعر العربي القديم:
وأترك بنت العم وهي قريبتي
مخافة أن تضوي علي سليلتي
أي إنه يترك الزواج من ابنة عمه، وهي قريبته وأولى به من غيرها، خوفًا من أن تكون سببًا في أن تلد له ابنًا هزيلًا خلقة، لأنه يعرف أن الزواج من القريبات قد يكون سببًا في ذلك أحيانًا. وقال آخر:
أنــذرت مــن كان بــعــيـد الــهــمّ
تـــزويــج أولاد بــنـات العـــمّ
ليس بناج من ضوى أو ســـقم
وأنـت إن أطـعمته لا يـنـمــي
ويعلل بعضهم لكراهة زواج الأقارب بقوله: ولعل هذا لما بين الزوجين القريبين من الألفة التي تكون من أسباب ضعف الميل وفتور الرغبة، ولأن الزواج بالغرائب يغذي النسل بصفات وطبائع وغرائز وأذواق يزداد بها قوة وحسنًا، فهو أشبه بتطعيم النباتات، كتطعيم نوع من أشجار الفاكهة بنوع آخر يزيده بركة وحسنًا وجودة.
ومع ذلك فإن الوقاية من بعض آثار زواج الأقارب، وتفادي ظهورها ممكن بشرط الوعي بضرورة ذلك، ويتأتى هذا بالاستشارات الوراثية قبل الزواج وقبل الحمل، واعتماد أسلوب التثقيف الصحي فيما يختص بزواج الأقارب، كجزء من برنامج الصحة الإنجابية، وضرورة تبني ذلك في المراحل التعليمية المختلفة، وبرامج خدمات تنظيم الأسرة. وكذلك فإن الفحوص الطبية والوراثية قبل الزواج، لا سيما تلك التي تتعلق بالزوجين حاملي المرض، دون أن يظهر عليهما، كظهور أي أعراض مرضية تشي به، هي التي تحدد ضرورة العلاج الجيني في حالة رغبة وإصرار الزوجين في إتمام هذا الزواج، رغم وجود مخاطر إنجاب أطفال سيعانون من أمراض معينة، كأمراض الدم الوراثية على سبيل المثال، وذلك أن هناك احتمالًا بنسبة 25٪ في إنجاب أطفال يعانون من هذا المرض، في حال كوْن الزوجين يحملان عوامله الوراثية.
اليوجينيا أو علم تحسين النسل
ليس معنى ذلك أن زواج الأباعد فيه ضمان دائم أكيد لإنجاب السلالات الممتازة، خاصة إذا ما تم بين أفراد من عائلات فيها صفات مُتنحية غير مرغوب فيها، فتكون النتيجة تجميع وتركيز مثل هذه الصفات الرديئة، تمامًا مثلما يحدث في زواج الأقارب. إنه عند اختيار الزوجة أو قبول الزوج، يجب الاستبصار وحسن الاختيار، وهذا أساس مكين لعلم الوراثة، كما يُعتبر -أيضًا- أساسًا هامًّا لعلم تحسين النسل (Eugenics)، الذي لم يظهر إلا حديثًا (عام 1883م) على يد العالم الإنجليزي “فرانسيس جالتون”.. وأكدت بعض حقائقه مبادئ علم الوراثة فيما بعد، وذلك بعد ما يقرب من ثلاثة عشر قرنًا من تعاليم الإسلام الحنيف بهذا الخصوص. بيد أن علم تحسين النسل لم يكن معروفًا في ذلك الحين، إذ إن قواعده لم تكن معروفة حتى عام 1900م، ومعنى هذا أن الوسائل العلمية لتحسين النسل لم تكن في عهد “فرانسيس جالتون” على أساس متين.. فقد كانت أكثر حقائقه مجهولة، وما عُرف منها كان في كثير من الأحايين مشوَّهًا، ولم تكن أسرار العوامل الوراثية أي الناسلات أو الجينات قد عُرفت بعد.
ومع ذلك فإن الغرب قد وظف علم اليوجينيا (شأنه في ذلك شأن بعض العلوم والنظريات العلمية الأخرى) توظيفًا أيديولوجيًّا، بحيث يخدُم توجهات الغرب العنصرية، بيد أننا نأخذ منه الحقائق العلمية لنستفيد من عطائها، ونبتعد عن مثل هذه التوجهات الأيديولوجية، التي قد يستخدمها الغرب لأغراض أخرى، وربما غير إنسانية.. إذ ما كاد علم التحسين الوراثي يكشف عن بعض حقائقه في الأوساط العلمية -خاصة فيما يتعلق بالنسلات السوداء- حتى هلل لها الأرستقراطيون البيض، بزعم أن تلك الناسلات السوداء وحدها هي التي يُعْزَى إليها وجود الطبقات البشرية المُنحطة، وأن خير وسيلة لإصلاح العالم الذي نعيش فيه، هو تحسين النسل بتفادي الزواج بين ذكر وأنثى يحمل أحدهما أو كلاهما تلك الناسلات.
وقد قوبلت بعض وسائل هذا المنهاج بالترحاب حينًا، وبالسخط وعدم الرضا حينًا آخر، واعتنقتها أمم ونبذتها أمم أخرى.. حتى إن بعض الدول قد أباحت، بل أصدرت بعض القوانين التي تنظم تعقيم بعض الأفراد من الجنسين؛ وذلك لتجنيب المجتمع ويلات ذريتهم غير المرغوب فيها. حدث ذلك في أمريكا عام 1907م وعام 1950م، وفي بعض بلدان أوروبا أيضًا.. فقد أصدرت قوانين التعقيم كل من سويسرا وفنلندا والنرويج والدانمرك، أما ألمانيا فقد أمعنت في هذا الإجراء لا سيما في عهد هتلر كما يذكر الدكتور “أمير بقطر” في مؤلفه: “أنت وأنا من أين جئنا وكيف نشأنا؟”(٢).
(*) أستاذ علم الحيوان، جامعة المنوفية / مصر.
الهوامش:
(١) https://www.islamweb.net/ar/fatwa/56631/%D8%B1%D8%AA%D8%A8%D8%A9-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D9%83%D8%AD%D9%88%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9
(٢) أنت وأنا من أين جئنا وكيف نشأنا؟، د. أمير بقطر، دار الهلال 1964م، ص:219.