البكتيريا، الكائن الفائق الضآلة الذي يقدَّر حجمه بالميكرون، ولا يُرى إلا بالميكروسكوب. كائن مزعج سيئ السمعة ككل المخلوقات والأشياء التي اكتسبت سمعة سيئة، مع أنها تحمل الكثير من عناصر الخير بداخلها مثلما تحمل الشر. إن مثل هذه الكائنات التي أبدع الله في خلقها، تعطينا مثالاً وعبرة على ضرورة عدم التسرع في الحكم على الأشياء والأشخاص، وأن نبحث عن الإيجابيات في داخل الكائنات لنسخِّرها لصالحنا مثلما نبحث عن السلبيات لنتجنبها. ولنا أن نتصور أننا لا نستطيع الحياة بدون وجود هذا الكائن المزعج “البكتيريا”.
اكتشاف بالمصادفة
لم يكن العالِم الهولندي الشهير “ليفنهوك” يَعرف عندما اخترع العدسات المكبرة التي مهدت لاختراع الميكروسكوب، أنها سوف تقوده إلى اكتشاف أغرب الكائنات وأكثرها ضآلة، وهي البكتيريا. والأغرب من ذلك الاكتشاف المصيري في تاريخ الإنسانية، قد حدث بالمصادفة؛ فعندما كان “ليفنهوك” يحاول -باستخدام عدساته التي لم يكن تكبيرها يتجاوز 200 مرة- أن يتوصل إلى سر الطعم الحار للفلفل، أخذه الفضول إلى فحص كل عناصر الطبيعة فيما حوله، ليفاجأ بهذه الكائنات الحية الدقيقة الكامنة في كل هذه العناصر، تعيش وتتحرك، وتمارس حياة مدهشة.. ثم جاء العالم الألماني “روبرت كوخ” ليكتشف علاقة البكتيريا بالإصابة بالأمراض. فماذا عن هذا الكائن البالغ الضآلة، والقادر على أن يفعل الأعاجيب التي تفوق طاقة البشر، وتتفوق على أعتى الجيوش؟!
ما هي البكتيريا؟
البكتيريا تمثل مجموعة كبيرة من الكائنات وحيدة الخلية، تتميز ببساطة تركيبها من خلية واحدة خالية من النواة، أو محتوية على نواة بدائية. ويسبح بداخل جدارها الخلوي سيتوبلازم، يحتوي على كروموسوم حلقي واحد DNA، وبعض الأجسام التخزينية. ويحيط بالخلية البكتيرية جدار وغشاء خلويان. ويتركب جدارها الخلوي من مركب “البيبتيدوجليكان”، وبدونه تنفجر الخلية البكتيرية، لأن الضغط الأسموزي الداخلي لها، يبلغ نحو عشرين ضعف الضغط الجوي.
وهي تتبع المملكة النباتية ضمن الكائنات النباتية الأولية، التي تتكاثر بالانشطار الثنائي البسيط. وتعد الأسواط هي وسيلة الحركة في كثير من أنواعها، ومنها ما هو ذاتي التغذية، أي تقوم بتجهيز احتياجاتها الغذائية بنفسها، ومنها غير الذاتي التغذية فتحصل على الطاقة اللازمة لها عن طريق التحليل الكيميائي للمركبات العضوية، مثلما يحدث في عملية التخمر فيما يعرف بالتنفس اللاهوائي (على عكس استخدام الأكسجين مباشرة في حالة التنفس الهوائي). وبعض أنواعها لا يعيش إلا في وجود الأكسجين، ومعظم أنواعها قادرة على امتصاص أكسجين الهواء الجوي مباشرة مثل الإنسان والحيوان، وتعرف بـ “البكتيريا الهوائية”. بينما توجد أنواع أخرى يكون الأكسجين سامًّا لها فلا تستطيع استغلاله أو المعيشة في وجوده، وتعرف بـ “البكتيريا اللاهوائية”. وبين النوعين يوجد نوع وسط، يستطيع المعيشة في وجود الأكسجين أو غيابه.
كائن فائق القدرة على التكيف
نظرًا لمقدرتها العالية على التكيف مع مختلف الظروف البيئية، فهي تنتشر في كل البيئات تقريبًا، وتعيش في القناة الهضمية للإنسان والحيوان دون أي تأثير ضار عادة.. بل على العكس، هناك أنواع من البكتيريا النافعة، الضرورية لإتمام التمثيل الغذائي بشكل سليم في أمعاء الإنسان والحيوان.
وتعتمد كثافة وجودها على الظروف المحيطة، فالبكتيريا التي تعيش في التربة تتواجد على سطح التربة، وتقل كثافتها بتعمقنا فيها لنقص المحتوى الأكسجيني والغذائي، ولذا تزيد كثافتها في الأراضي المزروعة عن الأراضي البور. وأوضحت الأبحاث، أن الهواء الموجود على قمم الجبال هو الأكثر نقاء، فيكاد يخلو من أي ميكروبات.
البكتيريا ليست شيطانًا ولا ملاكًا، وليست شرًّا مطلقًا وليست خيرًا مطلقًا.. ويكفي للدلالة على منافعها وأهميتها، أن نذكر بكتيريا التحلل التي لولاها لتراكمت الجثث، وأصبحت الأرض غير صالحة للسكنى.
الوجه السيئ للبكتيريا
بعض أنواعها يسبب أمراضًا للإنسان والحيوان؛ فقد تنتقل بعض الأمراض المعوية إلى الإنسان بواسطة المياه الملوثة بمياه المجاري، والحاملة للبكتيريا الممرضة، مثل الدوسنتاريا، والكوليرا، والتيفود. وتسبب بعض الأطعمة الملوثة ببكتيريا “السالمونيلا” تسممًا غذائيًّا، خصوصًا البيض النيئ، واللحوم المصنعة. وتتمثل أهم أعراض التسمم الغذائي الناتج عن بكتيريا السالمونيلا، في النزلات المعوية الحادة والقيء، ويمكن أن يؤدي في حالاته الحادة للوفاة. وتسبب بكتيريا “الكلوستريديم” ما يعرف بـ “التسمم البوتيوليزمى”، الذي يَنتج غالبًا عن تناول الفسيخ الفاسد. وهناك بعض الأمراض البكتيرية التي يمكن أن تنتقل للإنسان عن طريق اللبن الملوث، مثل الدفتيريا، والحمى القرمزية، والسل الرئوي. ولعل أهم ميزة بالنسبة لمواجهة الأمراض البكتيرية، سهولة السيطرة عليها غالبًا باستخدام المضادات الحيوية المناسبة والمطهرات، واتباع قواعد النظافة الشخصية، والحرص على تناول غذاء صحي وماء نظيف.
منافعها المتعددة ودورها بالنسبة لطعامنا
نحن نبتلع يوميًّا أعدادًا لا حصر لها من البكتيريا في اللبن والأسماك المملحة وغيرها.. فكلها أغذية تشارك البكتيريا في إنتاجها وتركيبها، وتمثل قدرًا لا يستهان به من قيمتها الغذائية. ولنا أن نعلم أن الجرام الواحد من الجبن -مثلاً- يحتوي على ما يربو على بليون خلية بكتيرية. والاختلاف في أنواع الجبن ومذاقها، يرجع لاختلاف أنواع البكتيريا المشاركة في تكوينها. وما الرائحة المميزة للأجبان والأسماك، إلا بسبب مركبات طيّارة ثانوية تنتجها البكتيريا. بل إن شريحة اللحم التي نأكلها، تشارك البكتيريا بشكل مباشر في إنتاجها من خلال قيام أعداد لا نهائية من البكتيريا التي تعيش في القناة الهضمية للحيوانات بتحليل الألياف السيلولوزية الموجودة في علف الحيوانات، والتي لا تستطيع هضمها بنفسها، فتحول السيليلوز إلى جلوكوز، ثم تحول معظم الجلوكوز إلى بروتين. وهي تفعل هذا كأسلوب لتغذيتها، فتفيد وتستفيد من معيشتها بأمعاء الحيوانات معيشة تكافلية.
دور البكتيريا في تخصيب المحاصيل
البكتيريا لازمة لخصوبة التربة، فلولاها ما نمَت نباتات ولا نشأت حياة، فمنها ما يحلل المواد المعقدة في التربة إلى مواد سهلة الامتصاص بواسطة النبات. وهناك العقد البكتيرية التي تنشأ في جذور المحاصيل البقولية وهي انتفاخات عقدية ضئيلة، تعيش بها مستعمرات البكتيريا. وتقوم البكتيريا بامتصاص نيتروجين الهواء الجوي وتثبيته، لتستمد منه غذاءها.. وخلال تغذيتها تحوله إلى عنصر الآزوت اللازم لتسميد النباتات، وتقوم بتخزين فائض تغذيتها في هذه العقد. وعند زراعة محصول بقولي مثل الفول، في أرض صحراوية قاحلة، ورشه بمادة “العقدين”، المستخرجة من العقد البكتيرية؛ فعند تكوين جذوره تهجم عليها بكتيريا العقدين وتخترقها، وتصل لساق النبات وتقيم فيه، وتمتص نيتروجين الهواء الجوي، فتأخذ منه حاجتها لتغذيتها، وتخزن كمية وفيرة حول النباتات، فيكثر الآزوت حول جذورها، وتزيد خصوبة التربة. ويتم في المعامل استنبات هذه البكتيريا النافعة، وإضافتها للتقاوي قبل زراعتها، مما يؤدي لإسراع نموها ووفرة محصولها، وزيادة خصوبة التربة بعد الحصاد.
في الصناعات الغذائية
للبكتيريا دور رئيسي في عملية التخمر التي تحدث في اللبن، وتعتبر أولى عمليات تكوين الزبد، وهي التي تكسبه طعمه ورائحته المميزين. وتعتمد صناعة اللبن الرائب، والزبادي، والزبد على نوعين من البكتيريا، هما بكتيريا اللبن “اللاكتوباسيلاس بولجاريس”، وبكتيريا “الستربتوكوكاس ثيرموفيلاس”. وتعتمد صناعة الأجبان على أنواع مختلفة من هذين الجنسين البكتيريين؛ فمثلاً، تعتمد صناعة الجبنة السويسرية، على بكتيريا “الشيرماني”. وهناك أنواع منها تنتج إنزيمات تدخل في الصناعات الغذائية، فعلى سبيل المثال، تنتج بكتيريا حمض الخليك، وهي المسؤولة عن إنتاج الخل من خلال أكسدة الكحول. وتدخل بعض أنواع البكتيريا في تصنيع الأعلاف البروتينية اللازمة لغذاء الماشية والدواجن.
دورها في الطب وصحة الإنسان والحيوان
تعيش بعض أنواع البكتيريا معيشة تكافلية في أمعاء الإنسان والحيوان، فهي تساعد في هضم بعض المواد الدهنية والسليلوزية، وفي بناء فيتامينَي B, K في أمعاء الإنسان والحيوان. وتستخدم بعض أنواعها في تحضير مواد عضوية ومستحضرات طبية نافعة، مثل الفيتامينات والإنزيمات. وعن طريق الهندسة الوراثية، أمكن استخدامها في تصنيع هرمون الأنسولين، وبعض المضادات الحيوية المتطورة. كما أمكن بهندستها وراثيًّا الحصول على هرمون النمو البشري، الذي يعالج قصور الغدة النخامية، المسبب لمرض التقزم. وأمكن استخدام البكتيريا الكروية العقدية “ستربتوكوكاس” في إنتاج إنزيم “استربتو كينيز”، الذي يستخدم لعلاج جلطات الأرجل والأوردة الرئوية والقلب.
واستخدمت سلالات من نوعين من البكتيريا -وباستخدام التقنيات البيولوجية- في إنتاج كميات وفيرة من فيتامين (B 12)، الذي يؤدي نقصه في الطعام إلى أنيميا حادة. ولم تتوقف منافع استخداماتها على الإنسان، فقد تم الحصول على لقاحات ضد عدة أمراض بيطرية اعتمادًا على تقنيات حديثة استخدمت فيها البكتيريا، مما أسهم في حماية الثروة الحيوانية.
دورها في استخراج البترول والخامات الاقتصادية
أوضحت الدراسات البيوتكنولوجية أن هناك مواد تكوِّنها بعض أنواع البكتيريا، يمكن أن تحرر البترول من الصخور والرمال بشكل يسهل جمعه في منطقة بئر البترول، بحيث يمكن ضخه إلى سطح الأرض، ومن هذه المواد صمغ “زانثان”، الذي تفرزه بكتيريا “زانثوموناس كامبيستريس”. وأوضحت الأبحاث أن ضخ البكتيريا العصوية “باسيلاس”، والبكتيريا المغزلية “كلوستريديوم”، في الطبقات الحاملة للبترول، يعمل على تحرير البترول من حبات الرمل والصخور بفضل إفرازاتها الكيميائية.
ويمكن توظيف أنواع معينة في استخلاص المعادن -وبخاصة الحديد والكبريت- من الخامات المتواجدة فيها، بواسطة تفاعل كيميائي يعرف بتفاعل “التصفية الحيوية” (Bioleaching) ومن أبرز أنواع البكتيريا المستخدمة لهذا الغرض جنس “الثيوباسيلاس”، حيث إن هذا الجنس من البكتيريا واسع الانتشار، وهو في البيئات المائية، يؤكسد الكبريت، وينتج كبريتات مفيدة للنباتات، وفي الرواسب الأرضية العميقة يولد حمض الكبريتيك الذي يذيب المعادن في المناجم.
دورها في مقاومة الآفات وحماية البيئة
بعض أنواعها تستخدم في مقاومة الآفات الحشرية، لما تنتجه من بللورات سامة تقتل الحشرات، ومثال ذلك بكتيريا “الباسيلاس ثيورنجنسيس” (Bacillus Thuringiensis). وتستخدم أنواع أخرى في تنظيف البيئة باستغلالها في معالجة مياه المجاري، والتخلص من مخلفات المصانع والمنازل، بما تشمله من عناصر ثقيلة سامة، كالرصاص والزئبق. وتستخدم نواتج معالجة المخلفات لإنتاج الطاقة من غاز الميثان، وتستخدم أنواع منها في معالجة التلوث بالبقع النفطية.
وكثيرًا ما تستخدم في تنقية ومعالجة مياه الصرف، حيث تترسب البكتيريا وهي مُحمَّلة بالعناصر الثقيلة في القاع مكونة طبقة تطفو فوق المياه الخالية من العناصر الملوثة. وهذه المياه النقية الطافية، يتم صرفها إلى المجاري المائية بعد أن أصبحت آمنة. ولكل نوع من العناصر الثقيلة بكتيريا قادرة على استخلاصه لتنقية المياه منه. فبكتيريا “الدانييلا” تستخدم في استخلاص الزرنيخ، وبكتيريا “زوجليا راميجيرا” تستخدم في استخلاص الكادميوم، وهكذا. وأثبتت الأبحاث أن بعض أنواع البكتيريا من جنس “دينوكوكاس”، لها قدرة فائقة على مقاومة أضرار الإشعاع، وبالتالي أمكن استغلالها بعد هندستها وراثيًّا، في التخلص من العناصر الإشعاعية السامة.
وختامًا نقول: إن البكتيريا تقدم لنا دروسًا عظيمة، يمكن أن تفيدنا في حياتنا، فأين جحافل الجيوش المزودة بالأسلحة المتقدمة الفتاكة، من خلية بكتيريا ضئيلة جدًّا ولا تُرى بالعين المجردة، تستطيع إصابة قادة هذه الجيوش المتغطرسة، فتعجزهم عن الحيلة وتجعلهم خائري القوى.
فهي في الوقت الذي تعلمنا فيه ألا نتعالى على مخلوقات الله الضعيفة، تعلمنا أيضًا ألا نستهين بقدراتنا مهما شعرنا بأننا في الموقف الأضعف. وهكذا هي الحياة، متعددة الوجوه، وهذا سر جمالها وغموضها.
(*) كاتب وأديب مصري.