النُصرة بالضعفاء وأصحاب الفاقات

النُّصْرَةُ: هي طلب النصر والمدد والعَون، وقد جعلَ الله تعالى لتحقيقها ناموسًا كونيًّا ثابتًا ومستقرًّا دون خللٍ أو نقصٍ، يقومُ في الأساس على تحصيل الأسباب والأخذ بالوسائل.

وهذه النواميس والقوانين الكونية، منها ما يكون حسيًّا؛ كإعداد القوة وتوفر الأسلحة التي يُستعانُ بها على مواجهة الأعداء، مما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، وهذا النوع هو المشهور والمتبادر. ومنها ما يكون بالأسباب المعنويّة؛ كالتوكل على الله تعالى، وحسن الظن به، وقوّة التوجّه إليه وطلب العون منه، وهي نوع من جنود الله سبحانه التي تستجلب النصر والعون، والتي لا يعلم حقيقتها وعددها وقدرتها إلا الله، وقد أخبر سبحانه بأنَّ جميعها يدخل في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 31].

ومن جملة تلك الأسباب: النُصرة بالضعفاء وأصحاب الحاجات الخاصة، وهم الأشخاص الذين لديهم قصورٌ أو خَللٌ كلي أو جزئي؛ سواء كان بدنيًّا، أو ذهنيًّا، أو عقليًّا، أو حسيًّا، إذا كان هذا الخلل أو القصور مستقرًّا، يمنعهم من التعامل بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين.

فقد بيَّن الشرعُ الشريف أنَّ النُصرة والرزق يكونان بسبب الضعفاء وأصحاب الحاجات؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» أخرجه الإمامان: البخاري في “الصحيح”، وأحمد في “المسند”، واللفظ له.

وبوَّب الإمام البخاري في “الصحيح” بَابًا أسماه: “مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْب”، وروى عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ بن أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ”.

فحضَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك على التواضع ولين الجانب، وترك احتقار المسلم على أي حال، على أن سيدنا سعدًا أراد الزيادة في سهام المقاتلة (الغنيمة) مقابل الحمية والقوة، ففي “المصنف” للإمام عَبْد الرَّزَّاقِ: قال سعد يا رسول الله: أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فَذَكَرَ الحديث.

وكما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: أعلمه صلى الله عليه وسلم أَنَّ سهام المقاتلة سواء، فإنْ كانت سهام القوي تترجح بفضل شجاعته، فإِنَّ الضعيف يترجح سهمه بفضل دعائه وإخلاصه.

والاستفهام في قوله: “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ” للتقرير، أي ليس النصر وإدرار الرزق إلا ببركة الضعفاء وذوي الحاجات، فأبرزه في صورة الاستفهام ليدل على مزيد التقرير والتوبيخ.

وحاصله: أنه إنما جعل النصر على الأعداء، وقدر توسيع الرزق على الأغنياء، ببركة الفقراء، فأكرموهم ولا تتكبروا عليهم، فإنهم أهل سلوك المحبة على أضيق المحجة، وملوك الجنة في أعلى مراتب المعزة.

وقد رسَّخت الشريعة في نفوس أتباعها: أن ينظرَ الإنسان إلى أخيه على أنَّه صنعة الخالق سبحانه وتعالى الذي كرَّمه وخلقه بيده، ويدركَ أن جمالَ هذا المخلوق يكمن في أنه مُرادٌ به التنوع والاختلاف، ليحصل بذلك التكامل والائتلاف؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى» أخرجه أبو نعيم في “الحلية”، والبيهقي في “شعب الإيمان”.

ولم يشأ الخالق سبحانه وتعالى أن يخلقَ عبادَه على سَنَنٍ واحد، ولكن جرت سنته فيهم على هذا التنوع، بما يستوجب التعاون فيما بينهم، وأن يظهر كل واحدٍ منهم ما عنده من القِيَم والأخلاق وفعل الخيرات؛ فقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].

فأولت الشريعة الضعفاء وأصحاب الفاقات مزيدًا من الاهتمام والرعاية؛ من رفع الحرج عنهم في العبادات، والأمر بالرحمة بهم ومخالطتهم في شتى جوانب حياتهم، وكفالة حقوقهم وحمايتهم من الأضرار أو الإهمال، والحثِّ على أنهم أبواب الخير والرزق والنصرة لمجتمعاتهم، وفي سبيل ذلك: رتَّبت الأحكام الشرعيَّة، والإجراءات السلوكية، والقيَم الأخلاقية:

– فرَفَعت الحَرج عنهم في العبادات والتكاليف الشرعية بما تضطرهم إليه أعذارهم؛ قال تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٌۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٍ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبۡهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: 17].

فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه.

وأمرت برحمة العامَّة والضعفاء وأصحاب الحاجات، وجعلت دخول الجنة موقوفًا على ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ»، قلنا: كلُّنا رحيمٌ يا رسول الله، قال: «لَيْسَتِ الرَّحْمَةُ أَنْ يَرْحَمَ أَحَدُكُمْ خَاصَّتَهُ؛ حَتَّى يَرْحَمَ الْعَامَّةَ، وَيَتَوَجَّعَ لِلْعَامَّةِ» رواه عَبدُ بنُ حُمَيد في “مسنده”.

وأسَّسَت لمبدأ مراعاة الجوانب النفسية لأصحاب الاحتياجات الخاصة، بعدم الانتقاص منهم أو التمييز بينهم وبين غيرهم؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أخرجه الإمام مسلم في “الصحيح”.

ومن النماذج التطبيقية في السنة النبوية: ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إنَّ لي إليك حاجة، فقال: «يا أمَّ فلان انظري أي السِّكك شئتِ، حتى أقضي لكِ حَاجَتَكِ»، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها. أخرجه الإمام مسلم في “الصحيح”.

وما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنَ مسعود فصَعِد على شجرةٍ، أمرَه أن يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابُهُ إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من حُمُوشة ساقيه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ماتضحكون؟! لَرِجلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أُحُد” رواه الأئمة: البخاري في “الأدب المفرد”، وأحمد وأبو يعلى في “مسنديهما” وأبو نعيم في “معرفة الصحابة” وغيرهم.

وعن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار- أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، وإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم، وددت أنك يا رسول الله تأتي فتصلي في مصلى، فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟» قال: فأشرت إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبَّرَ، فقمنا وراءَه، فصلَّى ركعتين، ثم سلَّم” متفقٌ عليه.

وهذا من كمال رحمته وتمام شفقته صلى الله عليه وآله وسلم، فهو كالأب الرحيم والطبيب المُشفق.

وهو ما طبَّقه الخلفاء الراشدون أيضًا في سياساتهم الشرعية:

* فقد ردَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جنديًّا من الجيش ليرعى أباه الضرير، وأجرى له من المال ما يكفيهم لمعاشهم؛ كما في «خزانة الأدب» للعلامة عبد القادر البغدادي (6/ 21، ط. الخانجي).

* وعندما ولَّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشتر النخعي على مصر أوصاه وصيَّة خاصَّة بالمرضى وغيرهم من ذوي الهمم وأصحاب الحاجات، وأمره بأن يجعل لهم نصيبًا من بيت ماله، ونصيبًا من بيت مال المسلمين، وأن يجعل لهم نصيبًا من وقته، وأن يتعهَّد حاجاتهم بالرعاية ومغفرة أعذارهم؛ كما في “التذكرة الحمدونية” للعلامة ابن حمدون (1/ 323، ط. دار صادر).

* وفي خلافة الوليد بن عبد الملك، أمر ببناء المستشفيات الخاصة لعلاج أمراض ذوي الهمم وأصحاب الاحتياجات، وخصص لكل مريض خادمًا ولكل ضريرٍ قائدًا، وأجرى لهم الأرزاق بما يكفل لهم احتياجاتهم؛ كما في “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” للدكتور أحمد عيسى (ص: 10، ط. دار الرائد العربي).

وهو ما ترجمته القوانين العصرية، كما فعل المُشرِّع المصري في صورة عقوبات قانونيَّة؛ ففي المادة (309 مكرر) “ب” من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م المُعَدَّل بالقانون رقم 189 لسنة 2020م، على: «يُعَدُّ تَنمُّرًا كُلُّ قولٍ، أو استعراض قوة، أو سيطرة للجاني، أو استغلال ضعف للمجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنها تُسيء للمجني عليه؛ كالجنس، أو العِرْق، أو الدِّيْن، أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية، أو العقلية، أو المستوى الاجتماعي؛ بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحَطِّ من شأنه، أو إقصائه من محيطه الاجتماعي” اهـ.

– وأمَرَت بمخالطة ذوي الهمم وأصحاب الحاجات الخاصة في الأمور الحياتية؛ من الطعام والشراب والزواج والتعليم ونحو ذلك؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: لمَّا أنزل الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا ‌تَأۡكُلُوٓاْ ‌أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ تحرَّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفى الطعام، فأنزل الله هذه الآية.

وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأنَّ الناس يكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ كما في “أسباب النزول” للواحدي، (ص: 223، ط. الحلبي).

حتى جعلت الشريعة -من كمال المبالغة في مخالطة الضعفاء وذوي الاحتياجات- عدم إلقاء السلام على الضرير الذي فقد عينيه، من الخيانة المنهي عنها؛ محافظة على مشاعره، وحرصًا على أنه قد يحتاج من يُرشده ويدله؛ ففي الحديث: «ترك السلام على الضرير خيانة» أخرجه الديلمي في “المسند”.

المصادر والمراجع:

         “شرح صحيح البخاري” للإمام ابن بَطَّال (5/ 90، ط. مكتبة الرشد).

         “مرقاة المفاتيح” للعلامة الملا القاري (8/ 3274، ط. دار الفكر).

         “التحرير والتنوير” للعلامة الطاهر ابن عاشور (18/ 299، ط. الدار التونسية).