الزلازل محن أم منح؟

شهدتْ وتشهد العديد من دول العالم زلازل لم تعهدها من قبل، وهي ظاهرة كونية مؤثرة في حياة الإنسان تسبب أضرارًا جسيمة ومحنًا عظيمة.

من المعلوم أن الغلاف الصخري للأرض ينقسم إلى صفائح وألواح تكتونية تطفو فوق طبقة “الأسينوسفير” المنصهرة في لُب الأرض. وتوجد “صفائح كبرى” ترتبط بالقارة والمحيط والمنطقة، مثل الصفيحة الأمريكية الشمالية، والأوراسية، والأفريقية، والأسترالية، والهندية، وصفيحة الهادي، والقطبية الجنوبية، كما يوجد عشر صفائح صغرى (منها الصفيحة العربية). ويعتبر الانجراف القاري وزحزحة القارات، نشاطًا جيولوجيًّا تقوم به الصفائح التكتونية بحركة تباعدية أو تقاربية، أو بالاحتكاك بين صفيحتين.

تحدث الزلازل (Earthquakes) بسبب حركة تكتونية للصفائح الصخرية في باطن القشرة الأرضية، مما ينتج عنها سلسلة من الاهتزازات الارتجاجية المتتالية لسطح الأرض (في وقت وجيز جدًّا). وتكمن القوة الدافعة وراء حركة هذه الصفائح في طبقة الوشاح، نتيجة الفوارق الحرارية بين الإجهادات الداخلية للمواد الساخنة (نحو 6000 درجة مئوية) بالقرب من نواة الأرض والأحواض الصخرية الباردة الأقرب للسطح، مما يسبب الحركة الديناميكية في طبقة الوشاح، وتفرز هذه الحركة كمية كبيرة من الطاقة تُسفر عن موجات زلزالية مدمرة. وتجتاح الزلازل اليابسة أو الماء أو كليهما، وعند حدوثه في الماء، يُصاحب بأمواج مد عالية وعاتية (تسونامي Tsunams)، ومن أمثلته ما حدث في 11 مارس 2011 الذي ضرب ساحل اليابان، وخلّف في أعقابه أكثر من 18 ألف قتيل. وتُصنف الزلازل على أنواع، هي هزات أفقية (شائعة)، ورأسية (من أسفل إلى أعلى، تقذف بالصخور والمباني في الهواء)، ودائرية (نادرة وخطيرة، تجعل المنشآت تدور حول محورها، وتسقط)، ومنها أنواعها، مثل الزلازل التكتونية (بسبب حركة الصفائح)، والبركانية (بفعل أنشطة البراكين)، والانهيارية (في باطن المناجم، والكهوف)، والانفجارية (بسبب معدّات نووية أو كيماوية).

وقد تتسبب الأنشطة البشرية في حدوث الهزات الأرضية، بسبب ملء وتخزين كميات ضخمة من المياه في بحيرات خلف سدود فوق صدوع زلزالية، وبناء إنشاءات فائقة الثقل، وحفر وحقن الآبار بالسوائل، وبناء الأنفاق الضخمة، وعمليات التعدين واستخراج الفحم وحفر الآبار النفطية. هذا وتسبب زلزال “سيتشوان”/الصين (عام 2008م) في وفاة 69 ألف قتيل (رقم 19 على قائمة أكثر الزلازل فتكًا)، حيث يعتقد أن سد “زيبنجبو” قد ساهم في تسارع تحرك الطبقات بسبب الوزن الهائل للمياه خلف السد. وكان التنقيب واستخراج الفحم وراء أكبر الزلازل في تاريخ أستراليا. فبسبب استخراج ملايين الأطنان من الفحم التي استخرجت من مدينة “نيوكاسل” (بعد سيدني ثاني أكبر مدن ومناطق ولاية نيوساوث ويلز). ومع ذلك فأغلب المناطق التي حدثت فيها تلك الزلازل، هي مناطق ذات نشاط تكتوني أصلاً.

أثناء عملية الاهتزاز التي تصيب القشرة الأرضية، تتولد ستة أنواع من موجات الصدمات، اثنتان تتعلقان بجسم الأرض تؤثران على الجزء الداخلي السفلي منها، بينما الأربع الأخرى موجات سطحية، وتنتقل الموجات السطحية بصورة أسرع (في غضون 21 دقيقة) من الموجات الداخلية. ويتم التمييز بين هذه الموجات حسب التأثير على جزيئات الصخور، حيث ترسل الموجات الأولية (موجات الضغط) جزيئات تتذبذب جيئة وذهابًا في نفس اتجاه سيرها، بينما تنقل الأمواج الثانوية/المستعرضة اهتزازات عمودية على اتجاه سيرها، ويمكن تسجيل الموجات الصادرة عن زلزال كبير على أجهزة رصد الزلازل في المنطقة المقابلة له من العالم.

ومن مركز/بؤرة الزلزال تتحرك الموجات الزلزالية الارتدادية إلى الخارج، وفي جميع الاتجاهات على هيئة موجات سيزمية (زلزالية)، فيما تعرف النقطة التي تقابلها على سطح الأرض بالمركز السطحي. وتتحرر الطاقة من الغلاف الصخري نتيجة لإزاحة الصخور عموديًّا أو أفقيًّا، وتعرف المسافة العمودية بين مركز الزلزال وبؤرته بـ “عمق الهزة”. وتصنف ما بين “ضحلة” (بعمق 70 كم)، و”متوسطة” (70-300 كم)، و”عميقة” (300-700 كم). ويستخدم “السيزموجراف” لتسجيل الهزات الأرضية، ويعتبر الزلزال كبيرًا حين تزيد قوته على ٧ درجات بمقياس “ريختر” (يعتمد على كمية طاقة الإجهاد المُحدثة للزلزال). وتحدد درجة الزلزال بمؤشر من ١-١٠. فإذا كان من ١-٤ فلا يُحدث أضرارًا غالبًا، وإذا كان من ٤-٦ فضرر متوسط، وإذا كان من ٧-١٠ فدرجة تدميره قصوى قد يدمر فيها مدينة كاملة، مع أضرار أخرى بمدن مجاورة. وعلى مقياس “ميركالي المعدل” (يشمل 12 درجة)، فذو الشدة 12 يكون مدمِّرًا لا يبقي ولا يذر، وقد يتسبَّب في اندلاع براكين وحمم ملتهبة من باطن الأرض.

الزلازل ومحنها

تختلف هذه المحن بناءً على شدة الزلزال وحجمه ومدته، وبُعد المنطقة عن مركزه وقوة نشاطه. وتؤدي الزلازل لحدوث وفيات وجرحى ومفقودين ومشردين، وصدمات واضطرابات نفسية لدى الكثيرين وبخاصة الأطفال. وكانت الحصيلة الإجمالية لزلزال تركيا وشمال سوريا الأخير الذي وقع في 6 فبراير 2023، قد تسبب في وفاة 50,303 ضحية (43,556 وفاة في تركيا، و6774 وفاة في شمال سوريا)، مع خسائر تقدر بـ 84 مليار دولار. ومن الأمثلة (التاريخية) لأكثر الزلازل فداحة زلزال “شانشي/الصين” (1556)، حيث قضى على نحو 830 ألف نسمة وشُرد الملايين. وفي سنة 1601 تعرضت “سان فرانسسكو” لزلزال مدمر سبب اشتعال الحرائق، وخسائر بالأرواح بلغت 20000 نسمة. وفي يناير 1699 حدثت 208 هزات أرضية في “جاوة” (أندونيسيا)، فانهارت البيوت وثار بركان “سلاك”، وغيَّر أحد أنهارها مجراه. ولعل انهيار المباني متعددة الطوابق وغير المصممة بموادها وصلاحيتها للتوافق مع الزلازل، هي أكبر حاصد لأرواح الناس، ما تتسبب -حسب شدتها- في أضرار بالغة في البنية التحتية من منشآت وطرق وكباري وسكك القطارات ومهابط الطائرات، وتدمير في شبكات الاتصالات والمياه والكهرباء والغاز، واندلاع حرائق بسبب تدمير مرافق الكهرباء والغاز، وتشقق جدران السدود وانهيارها، وتدفق المياه العاتية إلى المناطق المجاورة الذي يؤدي بدوره إلى فيضانات هائلة. كما يسبب زيادة ميوعة التربة، انهيار وغرق وانجراف المباني والهياكل الأخرى المبنية فوق التربة المسيلة كما حدث مع زلزال “جامايكا” (عام 1692)، حيث أدى إلى دمار مدينة “بورت رويال”. وتسبب في هبوط مستوى سطح الأرض وتساقط الصخور من قمم الجبال، وارتفاع منسوب المياه السطحية، وغرق بعض الجُزر والمناطق الساحلية، وتغيير مناسيب مياه الآبار على امتداد خط الصدع، بالإضافة إلى نضوب ينابيع أخرى.

مِنَح الزلازل وفوائدها

تعمل الزلازل على تنفيس الطاقة الكامنة والزائدة في بؤرة الأرض، فلولا حدوثها لتفاقمت تلكم الطاقة، مما قد يؤدي إلى انفجار اللُّب وتدمير الكوكب، وهي تعيد تشكيل سطحها من مرتفعات وجبال. فالدورات الزلزالية وما يصاحبها من التواءات في قشرة الأرض، كونت الجبال العالية كالهيمالايا والقوقاز (آسيا)، والبريناس والألب (أوربا)، والروكي (أمريكا الشمالية)، والأنديز (أمريكا الجنوبية)، ومن المعلوم أن للجبال فوائد جمة لا يمكن للبشر العيش بدونها. وقد تسبب زلزال “ألاسكا” (عام 1964م) برفع بعض المناطق مسافة 11,5 مترًا تقريبًا، بينما انخفضت مناطق أخرى إلى مستوى 2,3 متر تقريبًا.

ومع انشقاق التربة تظهر ينابيع حديثة وتتفجر عيون ماء جديدة.. ومع إرخاء التربة وتحريكها، تترسب العناصر الغذائية والمعادن بالتساوي، مما يكوِّن تربة خصبة وبخاصة عند تزامن انتشار الرماد البركاني. ومع اهتزاز الأرض فإنها تربو فتساعد الغطاء النباتي على الازدهار، حيث تعمل على انفلاق البذور ونمو النباتات، وزيادة الرقعة الخضراء في الكوكب، وهذا بسبب توليد الطاقة الكهربائية في التربة وخروج السوائل المعدنية، بالإضافة إلى خروج كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يستخدمه النبات في عملية البناء الضوئي ووفرة المحاصيل والأعلاف.. وذلك يساعد في عملية الإنتاج الحيواني ويحفظ علينا توازن كوكبنا. وبسببها تستخرج المعادن من باطن الأرض، وتجعل الوصول للوقود الأحفوري في الصدوع الناشئة من الزلازل أمرًا أكثر سهولة. كما أن عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة، تنعش الاقتصاد ودوران رأس المال، وتوفر أرباحًا في مختلف المؤسسات والشركات.. وفيها دعوة إلى التضامن الاجتماعي والإنساني، ومد يد العون للمنكوبين، وتجديد حيوات أخرى.

ولا مِراء في أنَّ العقول -على اختلاف توجهاتها- تَشرئبُّ دومًا إلى ما وراء الحقائق الجزئية، والأحداث الجارية إلى حقائق كلية أزلية. الزلزال آية كونية توضح مدى ضعف ومقدرة الجنس البشري مهما أوتي من علم. وهذا الكون مخلوق على هذا النسق من الإعجاز والتقدير والإحكام.

(*) كاتب وأكاديمي مصري.