عرفوا وتحققوا من منفعة الإخلاص في الدنيا والآخرة وقارنوا ذلك بمخاطر الرياء المحبط للأعمال، المورث للإغفال فصدوا سورة شهوة النفس فذاقت قلوبهم حلاوة القدرة والانتصار، فمضوا في التزود لآجلتهم… إنهم صاروا يدركون فقرهم وحاجتهم إلى صافي الحسنات وخالص الأعمال، فنزعوا من قلوبهم الرياء الذي يصنعه الرَّين والقسوة والغفلة فلم يعد للهوى والشيطان سبيل إلى إحباط أعمالهم حيث أدركوا بعزيمتهم ومكابداتهم أن الشيطان عاصٍ ذليل ملعون لا طاقة له باستمالتهم ما داموا مستمسكين بحبل الله المتين، فاشتغلوا بالله عز وجل، وتركوا ما دونه، وكل أمر يقومون به لا يقومون به إلا أنه يقربهم إلى مرضاته، فحين يريدون، يريدون لله وحين يكرهون، يكرهون تنفيذًا لأمر الله…

عرفوا أن الإخلاص من أجَلِّ مقامات التقوى.

وأن الإخلاص نقيض فساد العقيدة والعبادة.

وأن الإخلاص تحقيقه لقِمَّة الإحسان باعتباره أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك.

وأن الإحسان أن يكون ما في الباطن يماثل ما في الظاهر.

وأنه ما قصد به وجه الله سبحانه وتعالى.

وأن الإخلاص تصفية ما يراد به ثواب الله وتجريده من كل شائبة تكدر صفاءه

بالقصد به رضا وطاعة عز وجل… وأنه أسس القبول والفوز في الدنيا

والآخرة.. وأنه بمنزلة الروح للعمل بدونه لا يمكن الانتفاع به…

صححوا نياتهم فعلقوها بالاستجابة لأمر الله والانتهاء عن نواهيه استعدادًا للقائه. وحدوا نياتهم فصارت خاصة تقودهم في القول والنظرة والعمل، فارتاحت ضمائرهم من التأرجحات المتعبة للنفس والروح… سخروا كل ما يصدر منهم اتقاء النار وبغية الفوز بالجنان ورضا خالق الجنان، مثيب أوليائه الذين أخلصوا حين قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله… صارت أوقاتهم خيرًا وبرًّا وإحسانًا وطاعة لن يستفيد منها سواهم، فالله لا يحتاج إلى عبادتهم فهو الغني الحميد، له ملك السماوات والأرض وما بينهما.. فضَّلوا ما فضَّل الله وأقاموا حسن أعمالهم وعباداتهم ومعاملاتهم في سبيل الله، فلم يبالوا بزينة الدنيا مفاخرين منافسين، وإنما دأبهم رضا الله بطاعته الخالصة وفق ما بعث به رسوله عليه الصلاة والسلام… لقد حولوا المفاخرة والمنافسة من الأدنى إلى الأسمى والأسنى… نقاء إيمانهم بالله عز وجل قوَّى من عزائمهم فهزموا النفس، وقضوا على حظوظ الهوى في أفعالهم فانفضحت بين أيديهم حيل الأبالسة والشياطين من الثقلين فلم يبالوا بما يعرض أمامهم من زينة الدنيا ولم يبالوا بالخواطر والوسوسات،

فلا طاقة لها بهزمهم وتحريف صحة وجهتهم بتشتيت نياتهم، فأثمرت أعمالهم حين أخلصوا فخلصوها من الشوائب والأدران الخادعة.. يكتمون فضائلهم كما نحب ستر زلاتنا… يعيشون محترزين من النار راجين الثبات على نية الانصياع للواجب قدر الطاقة فاستراحت جوارحهم من الجذب والدفع المتعبين.. استراحوا حين صدوا النفس ومراوغتها حين أدركوا الجليل من غير الجليل وميزوا العابر عن الخالد فوضعوا الأمور في مواضعها الصحيحة وانطلقوا مستقيمين وفق الأمر والنهي… عرفوا الغاية من خلقهم فحرصوا على فعل الخيرات إن وجدوا وكفوا أيديهم وألسنتهم عن الأذى إن لم يجدوا ففازوا في كلتا الحالتين واطمأنوا… حين أسلموا راغبين معتبرين وحين امتثلوا امتثلوا مستحضرين الآمر الرحيم الغفور الشديد العقاب، فنالوا ميزان العبودية والطاعة فلازمتهم حتى في مضاجعهم؛ فحين يقبلون على أمر يعيدون النظر فيه للتحقق في أمر النية والدافع إليه فيقبلون عليه ويحجمون إلى حين تصحيح الدافع والنية لجعلها خالصة لوجه الله: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}، فهم لا يريدون أن يحمدوا من قبل المخلوق بعبادة الخالق. قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ (هود:15)، فلا نية لهم فيما يأتون به من أعمال سوى رضا الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا﴾ (الإنسان:9).

لقد رغبوا وجدوا واجتهدوا وسلكوا طريق الاستقامة بحق فانطبعت على قلوبهم لذة لا يجدها إلا العارفون بالله فاشتاقوا إلى لقائه وقالوا ربنا الله ولا أمر يستحق الإجلال والتقدير إلا هو فزهدوا في المدح الخادع العابر كما زهدوا من الذم الذي لا يرون فيه إفلاحًا ولا إفشالاً… إنهم يزِنون الأمور بمعيار نور اليقين وقوته مع العلم العميق بالمصير… لم يلِجوا الطريق إلا بعد إحكام الأساس بإجلاء الشوائب والمكدرات البارزة والمستترة فأفلحوا في الجمع بين لذة الروح ولذة البدن حين انقادوا إلى الواجب وتصرفوا إزاء المباح وفق المقتضى الوارد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بهجة ولا فرحة ولا لذة تسعد كلذة العابدين المخلصين فهم ينعمون في سعادة ينتظرون التنعم بسعادة أرقى وأبقى بإذن ربهم الحليم الكريم… ولقد اقتاتوا من شجرة الإخلاص التي يقول عنها ابن القيم الجوزية بأن فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.

هؤلاء إذن هم المخلصون، صلاتهم تصلهم بالخالق فينسون المخلوق، خاشعين، منيبين، يصغون بقلوب مؤمنة خالصة إلى كلام الله فيرجون رحمته ويستعيذون من عقابه… ذكرهم لله يشغلهم ويستغرقهم فلا ينازعهم في ذلك مذكور سواه.. خلصوا عباداتهم ومعاملاتهم من الرياء… تحضرهم النية السليمة قبل الفعل وأثناءه وبعده حيث يحرصون على إتيان المراد من ورائها في أعمالهم ومعاملاتهم… تصدقوا سرًّا بلا مَنٍّ ولا مفاخرة… لا يرجون وراء أعمالهم إطراءً ولا مدحًا… وجهتهم وجهة واحدة، وشعارهم العمل والطاعة والإحسان لوجه الله.

يقول الشاعر أبو العيناء:

إذا عجبتك خصال امرئ  فكنه تكون مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرما ت إذا جئتها حاجب يحجبك

اللهم اجعلنا من المخلصين لك، ولا تحرمنا من لذة الإخلاص في العاجلة والآجلة، إنك سميع مجيب.