التراجيكوميدية.. الكوميديا الراقية

الكوميديا بكل أشكالها المعروفة مرتبطة بغريزة بقاء الإنسان وحقه في الفرح، فستبقى ما بقي الإنسان ولن يتنازل أبدًا عن حقه في البقاء وحقه في الفرح، بل سيواصل تحقيق انتصارات صغيرة أو كبيرة بالفعل أو بالكلمة ضد كل ما يتعرض له من ضغوط وقهر ليزيحها عن كاهله ولو قليلاً ليشاركه أشباهه في كل مكان.

إن الضحك والنهاية السعيدة وحدهما لا يصنعان كوميديا جيدة فالكوميديا شكل مسرحي يحمل كل ما أراده فنانو الكوميديا من تقاليد الفن المسرحي. لينطلقوا بعد ذلك في مغامرة جديدة لغزو عقل الإنسان وقلبه وقد تسلحوا بكل التقاليد والمعدات والحسابات التي تمكنهم من الانطلاق بفنهم إلى أبعد الحدود.

في عصرنا، عصر اختفاء البطل التراجيدي والعبقرية الفردية كطريق للخلاص أمام تراكم طوفان المعلومات واستحالة السير إلى الأمام إلا بتضافر الجهود والعمل الجماهيري.. في هذا العصر تتضاعف أهمية الكوميديا لأنها العمل الفني الجماهيري الذي يعبر عن تضافر جهود المسرحيين، بل وتتسع ساحته في كثير من الأحيان للجمهور لكي يشارك هو أيضًا في عمل الإبداع الجماعي.

قد يرى البعض في ذلك تنازلاً من المسرحيين عن الكثير مما تتضمنه التراجيديا من عظمة ونبل. ويقول قائلهم إن التراجيديا تواجه قضايا إنسانية شاملة وكلية وكونية بينما تواجه الكوميديا في الغالب قضايا إنسانية مرحلية وجزئية.

وردنا على ذلك أنه إن لم يكن عصر المثل العليا والمفهوم الواحد والموحد للبشرية قد انتهيا، فإن الكوميديا يمكن أن تصل إلى ذلك المثل الأعلى والمفهوم الواحد الموحد للبشرية ولكن بأسلوبها الخاص المتفق مع روح العصر، فهي تسلك طرقًا متعددة وتصل إلى هدفها على مراحل بدلاً من أن تسلك طريقًا واحدًا وتصل إلى هدفها دفعه واحدة كما تفعل التراجيديا.

الكوميديا بانتصاراتها الجزئية تشكل في مجموعها انتصارًا شاملاً على النحو الممكن أن يتحقق به أي انتصار شامل في عصرنا، وهي أكثر قدرة على التقريب بين البشر كما قال “صمويل جونسون” فقد اختلف الناس كثيرًا في الطريقة التي يعبرون بها عن حكمتهم ولكنهم اتفقوا في الطريقة التي يضحكون بها.

تلك هي رسالة الكوميديا العظيمة السامية انطلاقًا من المستوى البيولوجي ومرورًا بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية صعودًا حتى أعلى المستويات الجمالية والروحية للوجود الإنساني.

دليلنا على أصالة رسالة الكوميديا غزارة الظواهر المسرحية الشعبية ذات الطابع الكوميدي في تراثنا العربي من المقامات وبخلاء الجاحظ إلى الحكواتي والسامر وشاعر الربابة إلى فناني خيال الظل والأراجيز إلى فناني الحلقة والبساط.

رسالة الكوميديا في عصرنا

ألم تكن تلك الفنون جميعًا وغيرها تحظى بإقبال شعبي لا مثيل له؟ والسبب واضح لا يحتاج إلى كثير من التأمل فقد كانت جميعًا قادرة على انتزاع الجمهور ولو للحظات بعيدًا عن ضغوط الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فشعر الناس في هذه اللحظات بالحرية شعورًا مفرحًا وأقبلوا على تلك الفنون حتى شكلت جزءًا هامًّا من الوجدان الشعبي بقدر ما فرض الوجدان الشعبي على تلك الفنون صورًا من صور همومه وطموحاته، حقًّا لم ترفع جماليات صياغة هذه الفنون الشعبية إلى المستوى الذي يجعل منها فنونًا خالدة، هذه الفنون الشعبية إلى المستوى الذي يجعل منها فنونًا خالدة نباهي بها العالم.

الكوميديا تزخر بالمصادفات المفرطة فهي بعيدة كل البعد عن العالم الذي تأخذ فيه الأمور مأخذ الجد.. وهي كشكل لا يعترف أبدًا بالوحدة المحكمة للعقدة كما في التراجيديا.. فبناء المسرحية الكوميدية مفككًا بمعنى أنه يقوم على مجموعة متعاقبة من المآزق لا يوجد بينها رابط داخلي محكم.

أيضًا هي تفتقر إلى التوتر البنائي بمعنى أن الصراع فيها غير واضح، بل هو صراع يؤدي إلى مزيد من الضحك والسخرية.. وهذه الحالة توجه المشاهد المتصف بالهدوء بعيدًا عن عصبية المعايشة.. فهو يعيش مع الكوميديا كما ذكرنا بعقله وليس بقلبه أو بعاطفته.. ولذلك فالمشاهد يستجيب سريعًا لما يشاهده وهذا يولد عنده الضحك الذي هو عملية كيميائية مركبة وصنيع فسيولوجي مادي يتصل بانتقال الشعور انتقالاً مفاجئًا من الأعصاب إلى العضلات.

إن الضحك ناتج نفسي ينشأ من إفراغ التعب الذي يصيب الإنسان في الحياة.. وهو في كل الأحوال إحساس ينتقل وشعور يطفو بواسطة العقل ليكون ضحكًا من خلال الفم والأسنان.. وهو نفس الشيء إذا ما كان مصدره العين حين تدمع فهو شعور أيضًا ويمر من خلال العاطفة أو القلب.. فالإحساس يترجم حسب تعامل العضو الجسدي معه

الكوميديا مصادرها الكلمة، الموقف، الحركة، تؤدي إلى شعور مصدره العقل.. يتولد منه ظاهرة الضحك.. مصدره الفم والأسنان “الإنسان الضاحك“.. هدفه التغيير بواسطة رفض تام للشخصية الكوميدية التي وظفت لكي تجسد عيبًا أو نقصًا ليس بالضرورة خِلقي أو خُلقي.. ولكنه يمكن أن يكون عيب اجتماعي.. على أنه لا مكان للتعاطف في تقدير الكوميديا.

التورية الدرامية

الكوميديا أيضًا لها عدة أشكال يمكن أن تتعرض لها.. مثلاً فإن الكاريكاتير شكلاً من هذه الكوميديا.. وهو هنا يمكن أن يكون بديلاً عن اللفظ أو مختزلاً له حينما يجسد الشكل الكاريكاتيري فهو يعني شيئًا.. أو يوصل معرفة أو مفهومًا.. وهو واضح تمامًا في مسرح العبث وقد تعداه.. وهو أيضًا أعطى الفنان القدرة على رؤية النزعة الكامنة في النفس البشرية وإخراجها إلى السطح.

هو فن لا يتوسل بالمبالغة لمجرد المبالغة في إحدى قسمات الوجه أو الجسم مثلاً، ولكنه يدرك معنى إحدى طريق التكبير.. أي أنه لا يعارض الطبيعة.. بل يتتبع خطوطها فيكبر بعضها ويصغر بعضها تبعًا للنظرة الفلسفية.. بحيث يحطم التوافق الظاهري بين الملامح ليبرز الخلل الكامن.

هذا تمامًا ما يحققه الكاتب في المسرح الكوميدي حينما يلجأ إلى رسم إحدى شخصياته الكوميدية فهو يعي ذلك تمامًا فيجسد في تلك الشخصية صفة.. أو مقولة.. أو حركة.. أو عادة.. ويقوم بتكبيرها لكي تسيطر على الجو النفسي للمسرحية وتكون بؤرة الشعور لدى المشاهد.. وما الأقنعة اليونانية إلا شكلاً من أشكال الكاريكاتير.

إن عصر النهضة رأي شكلاً كهذا في دراما بن جونسون “وديكنز موليير” في كوميديا الطباع.. فهي كوميديا نابعة من شخصيات كاريكاتيرية.. بالإضافة إلى أن ذلك الشكل فقد وظف أيضًا للمواقف نفسها التي تحكمها علاقات كاريكاتيرية كما في مسرح صلاح عبد الصبور وفي مسرحية “مسافر ليل” والتي نتجت بين الراكب في قطار الليل وبين موظف التذاكر وما تشكل عنه من موقف كاريكاتيري عندما يتنازل الموظف عن مزاعمه.

كما أن الكوميديا تشتمل فيما تشتمل عليه من خلال التورية الدرامية والتي تتولد من المتناقضات “الظاهر والباطن.. والمعلوم والمجهول” وهي هنا يمكن أن تقترب من المفارقة الدرامية.. أو التورية الدرامية الساخرة وهي تعتمد على عنصري المفارقة والتورية والسخرية الناشئة من القدر نفسه وهي هنا تولد المعرفة لشخص والجهل لنفس الشيء لشخص آخر.

المشاهد يكشف الطرفين فيتولد توتر يمكن أن يصل بالكوميديا لأرقى أشكالها.. وقد وضحت هذه التورية الساخرة أيضًا في كوميديات موليير وشكسبير في مسرحية “حلم ليلة صيف” بالتورية بجانب أنها تلاعب بالألفاظ ولها في ذلك وظائف كثيرة.. إلا أن المسرح استخدمها دراميًّا وقد ساعدت الكاتب كثيرًا في إثراء مسرحياته.

الترا وكوميديا.. احتفاء بالحياة

لأن الكوميديا أساسًا لا بد أن تنبع من موقف يتولد عن نشأة صراع بيِّن وقوي.. بمعنى شخصيتين أو صراع بين شخصية واحدة فيما بينها.. فإنها بالتبعية لا بد أن تنتهي نهاية سعيدة.. فالكوميديا احتفال بالحياة وبقدرة الإنسان على الاستمرارية. وهي هنا لا بد أن تصحح أوضاعًا مشوبة بالأخطاء عن طريق إبرازها والعمل على قهرها والتغلب عليه لكي يكون الاستمرار صحيًّا.

وعلى ذلك فالكوميديا.. وكوميديا الموقف على وجه الخصوص تذهب إلى السخرية من المظاهر الخاطئة.. سواء في الطباع أو السلوك.. وهي هنا تتعرض لأنماط معروفة مسبقًا ولكنها تعري ما بداخلهم أمام المشاهد.. مثل البخيل الثري.. الابنة المخادعة.. المرابين المتظاهر بالتقوى.. إلخ، فمن خلال إثارة هذه العيوب فإن المشاهد يضحك ربما مرة واحدة.. وربما مرتين دون أن يدري، فهو يضحك مرة إذا لم يكن تربطه علاقة بهذه الشخصية ومكوناتها وهو هنا يستنكرها.. ومرتين إذا كان يتصف بجزئية من هذه الشخصية.. فهو يضحك على الشخصية وفي نفس الوقت يضحك على نفسه لأنه يراها أمامه.

إن الكوميديا بعكس التراجيديا من حيث أشكالها المتعددة.. فهي موضوع معقد اتخذت أشكالاً عديدة متباينة.. فمن كوميديا العادات إلى الفارس، فالتهكم والهجاء.. ثم الكوميديا المتكلمة أو الرفيعة.. بالإضافة إلى الكوميديا التراجيدية.. كل شكل ينقسم إلى أشكال متفرعة مثل الكاريكاتير.. الموقف.. الحب.. إلخ.

على أن الكوميديا التراجيدية أو “التراجيكوميدية” فهي كوميديا راقية جمعت عنصري الحياة داخل إطار واحد لكي تجسد الطبيعة المعاشة دون زيادة أو نقص أو دون أن تفصل مكوناتها التي قامت أساسًا عليها منذ الأزل.. فهي هنا تعتمد في جوهرها على إمكانية التفوق بين العناصر المتضاربة والمتناقضة لحياة البشر.

ولذلك فهي عادة ما تبقي على الأمل مهما حدث من تصارع وتنازع بين القوى المشتركة في الحدث.. وهي كما سبق أن ذكرنا احتفال بالحياة وبانتصار الإنسان وقدرته على أن يستمر.. وعلى ذلك لجأت الكوميديا إلى الارتكاز على أخطاء الآخرين التي يمكن تجاوزها وإصلاحها حتى يكون الأمل موجودًا والاستمرارية ممكنة والنهاية سعيدة لا يشوبها سوء.

وهذا الشكل من الكوميديا أو التراجيكوميدي يلجأ إلى التصدي إلى الأخطاء الظاهرية بهدف تعرية البواطن المكونة لهذه الأخطاء وكشف ما يكمن خلفه وما يؤدي إليه.. والفرق هنا بين الدراما الجادة وهذا الشكل الكوميدي أن الحدث يصل مباشرة إلى الذهن بعيدًا أيضًا عن القلب.

 

المراجع

الموسوعة الثقافية، فرانكلين للطباعة والنشر نيويورك – القاهرة.

Scott, V., Molière, a theatrical life, Cambridge University

Press 2001

Le Sicilien ou L’Amour peintre (2022)—The Sicilian, or Love the Painter

Les Précieuses ridicules—The Affected Young Ladies