في ظل ما أحدثته كثير من التيارات الفكرية المعاصرة من الإغراق المخل في قراءة السيرة النبوية، واختزالها في المنهج الحركي المتمثل في الحروب، والغزوات، والسيوف، والقتل، والدماء.. تسبب في هجر الأبعاد الحضارية للسيرة النبوية العطِرة، وتضييع الفرص في التعامل مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والاستفادة منها؛ كان ينبغي أن نعرض ميادين السيرة المباركة منهجًا للنهضة والحضارة، وطريقًا للبناء والعمران، ونموذجًا للتعايش والتكامل، ومثالاً للبحث والاكتشاف، وعنوانًا للتطور والإتقان. ومن ذلك، الإدارة النبوية في توزيع المهام وتنظيم التخصصات وفق الإمكانات والقدرات والخبرات.
فالإدارة الناجحة هي التي تقدِّر مجهودات أعضائها والمنتمين إليها، فتنتقي منهم أصحابَ الخبرات، وتستقي منهم ذوي المهارات حسب تعدد المهام وتنوع التخصصات، والذي عليه يتم التكليف بإنجاز المهمات.
ومما هو مقرر عند العلماء، أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم تنوعت عندهم ميادين العطاء، وتعددت بهم دروب الاختصاص؛ فمنهم من برَع في الجهاد وملاقاة الأعداء، ومنهم من اشتغل بالقراءة والإقراء، ومنهم من أحسن القضاء والإفتاء، ومنهم من اشتغل بالمدارسة، ومنهم من اشتغل بالتوجيه والتربية، ومنهم من برَع في التجارة والاقتصاد، ومنهم من برَع في الإدارة واتخاذ القرارات.. وقد أبلى كلٌّ منهم في ميدانه بلاءً حسنًا، وأبدع فيه أيما إبداع، وحفظ وبلَّغ أحسن ما يكون البلاغ. فكانوا مثالاً يُحتذى في الإتقان وحسن التصرف، والدقة والتحري في شتى الفنون والأعمال، فشكَّلوا منظومة متكاملة من التميز والاختصاص قامت على أوتادها الدولة، ونهضَ على أساسها المشروع الإسلامي بأكمله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزِّع المهام بين أصحابه على وفق مهاراتهم واستعداد كل منهم في القيام بها على الوجه الأمثل، حتى يصير هو الأفضل في مهمته والأجدر بالقيام بها. ولذلك جوَّز العلماء أن يقال لمن أحسن القيام بهذه المهام، إنه أفضل الناس في ذلك المعنى، وإن كان هناك مَن هو مثله أو من هو أفضل منه. ومن جلَّت رتبته في معنى من المعاني، جاز أن يقال إنه أفضل الناس في ذلك المعنى، وإن كان فيهم من هو مثله أو من هو فوقه كما قال الإمام أبو جعفر الطحاوي.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الانتقاء، أن يزرع في أصحابه معنى الاختصاص والعمل المنظَّم، وأن توزَّع الأدوار على الأفراد وفق ما يمتلك كلٌّ منهم من تخصص وقدرات، وما يُحسنه من خبرات ومهارات، فيحصل التكامل والانسجام من ناحية، وتبرز المنافسات الشريفة وتولد الخبرات من ناحية أخرى. وهي أعلى فنون الإدارة، وأرقى درجات النجاح والتقدم، وكما يقول الشاعر العربي:
إذا كنتَ في حاجة مُرسِلاً | فأرْسِلْ حَكِيمًا ولا تُوصِه |
كانت الخبرة هي العبرة، والاختيار أساسه المقدرة وحسن القرار، وعلى ذلك الأساس اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وزراءه وشعراءه، ومؤذنيه وخطباءه، وكتَّابه وأمناءه، وخدمه ومواليه، وقواده وحواريه، حتى إنه صلى الله عليه وسلم عندما احتاج في هجرته من مكة إلى المدينة إلى دليل ماهر محترف يرافقه هو وصاحبه في هذه الرحلة الميمونة، اختار رجلاً خبيرًا من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، وهذا الرجل لم يكن مسلمًا.
وخص كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفَه بقدر زائد فيها على غيره. وبذلك كان الصحابة رضي الله عنهم علماء، كل منهم مخصوص بنوع من العلم، وخصلة من الخير؛ فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالقضاء، وزيد بن ثابت رضي الله عنه بالفرائض، ومعاذ بن جبل رضي الله عنه بالحلال والحرام، وأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه بالقراءة، كما قال الإمام الزركشي في “البرهان في علوم القرآن”.
وها هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يتمنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُسند إليه مهمة الأذان، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند هذه المهمة العظيمة إلى سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه؛ فقد أخرج الحاكم في “المستدرك” عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: وددتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني النداء، قيل: ولم ذاك؟ قال: إنهم أطولُ الناس أعناقًا يوم القيامة.
فهذا الصحابي الكريم رضي الله عنه علم ما في الأذان من منزلة عظيمة ومكانة جليلة، بما جعله يرنو في نيل شرف القيام به، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّه صنعة خاصة وعملاً نوعيًّا، لا يُبذل إلا لمن يمتلك آلياته ويُحسن أدواته فكان سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه، وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أربعة مؤذنين، اثنان بالمدينة -وهما بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى رضي الله عنهما- وبقُباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وبمكة أبو محذورة رضي الله عنه، واسمه أوس بن مغيرة الجمحي.
وفي مجال استقراء القرآن الكريم ومدارسته، اختار النبي صلى الله عليه وسلم المنوط بهم هذه المهمة الجليلة، وبيَّن أنه ينبغي للناس أن يستقرئوا القرآن منهم، فيقول: “استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل“. واختار النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لشؤون القضاء، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “أقضانا عليٌّ”.
وفي مجال الفقه ومعرفة الحلال والحرام، كان الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، أحد الذين يفتون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يجتمعون حوله ليتعلموا منه الحلال والحرام. وقد صحَّ عن عمر الفاروق أنه قال: “من أراد الفقه فليأْت معاذ بن جبل”، وقال في حقه أيضًا: “عجزت النساء أن يلدْن مثله، ولولاه لهلك عمر”.
وفي مجالي الترجمة وعلم الفرائض، يأتي سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم السريانية، وأن أتعلم له كلمات من كتاب يهودَ، قال صلى الله عليه وسلم: “إني والله ما آمَنُ يهودَ على كتاب“، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمتُه له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهودَ كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأتُ له كتابهم. فأظهر زيد بن ثابت رضي الله عنه بذلك مهارة عالية ودقة متميزة وجدارة بالغة، فتعلَّم العبرية في نصف شهر، والسريانية في 17 يومًا، والفارسية في 18 يومًا.
وفي مجال الأمانة العامة للدولة، يأتي الصحابي الجليل أبو عبيدةَ عامرِ بن الجراح رضي الله عنه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا -أيتها الأمة- أبو عبيدةَ بن الجراح، ويقول: “لأبعثنَّ معكم رجلاً أمينًا، حق أمين” (رواه البخاري).
وفي مجال العلاقات الخارجية، اختار النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه المتميزين الجديرين بهذه المهمة؛ كدِحْية بن خليفة الكلبي، وعبد الله بن حذافة السهمي، وحاطب بن أبي بلتعة، وعمرو بن أمية الضمري، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين.
واختار لرئيس الشرطة، الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشُّرَطِ من الأمير”.
واختار لأمانة سر المراسلات، الصحابي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي رضي الله عنه، فيُحدّثُ إياسُ بن الحارث بن المعيقيب عن جده، قال: “كان خاتم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من حديد ملوي، بفضة، وكان المعيقيب على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
واختار المتحدث الرسمي لرئيس الدولة، الصحابي ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، يتكلم نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحين جاء مسيلمة الكذاب إلى المدينة المنورة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له “خطيب رسول الله” صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بيننا وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أُريتُ فيه ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس، وسيجيبك عني“.
إلى غير ذلك من التخصصات العامة والخاصة، التي كان يختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها أبرز الموجودين وأوفرهم مهارة لها وحسن قيام بها. فقامت بذلك الدولة، وتأسس المجتمع الإسلامي، وساد السلام وعمَّ الأمان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
(*) دكتوراه في الفلسفة الإسلامية والتصوف / مصر.