مياه عذبة في قيعان البحار

شاهدت فيلمًا دراميًّاـ كوميديًّا إيطاليًّا بعنوان: “جزيرة الورد/ روز آيلاند” (L’incredibile storia dell’Isola delle Rose)) (إنتاج 2020) من إخراج “سيدني سيبيليا”. وفيه تعيد شبكة “نتفلكس” إحياء القصة الحقيقية للمهندس الإيطالي “جورجيو روزا” (1925-2017)، الذي راودته فكرة ـ عام 1958ـ بناء “دولته المستقلة” في المياه الإقليمية الدولية للبحر الأدرياتيكي (بجوار سواحل “ريميني” في إيطاليا”). فبنى ـ ببراعة هندسية على مساحة 400 متر مربّع ـ “جمهوريته الفاضلة” كجزيرة فوق سطح البحر، ودشنها كمنصة خرسانية فوق تسعة أعمدة فولاذية ضخمة (بطول 26 مترًا) مملوءة بالإسمنت لحمايتها من التآكل، وقسّمها إلى غرف صغيرة ومطعم ومتجر للهدايا التذكارية ومكتب بريد، وصمم طوابع بريدية خاصة. وتم اختيار “الإسبرانتو” كلغة رسمية، ونشيد وطني هو مقطع من فيلم “The Flying Dutchman” لـ “ريتشارد واغنر”. وكـُتب دستور للدولة الوليدة، وتم إنشاء هيكل حكومي من أربع وزارات: المالية، والشؤون الداخلية، والتجارة، والعلاقات الخارجية. وتم السعي لنيل الاعتراف بها من الأمم المتحدة والمجلس الأوربي.

استغرق أمر تشييد “الجمهورية الجديدة” ما يقرب من 10 سنوات. وافتتحت أمام الجمهور في 20 أغسطس عام 1967. وأصبحت منطقة جذب سياحي عالمي، لكنها استمرت 55 يومًا فقط! فقد أعلنت الحكومة الإيطالية ـ في 25 يونيو 1968ـ الحرب على جزيرة روز!، وكانت تلك الحرب هي أوّل حرب تخوضها إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. واستغرق الأمر محاولتين لتدمير المنصة بالمتفجرات، رغم ذلك لم تنجح في إنهائها كليًّا، فكان التدمير النهائي لها عبر عاصفة بحرية غمرتها بالماء. وعندما أصبحت هذه القصة الإيطالية قضية دولية، فقد قررت الأمم المتحدة نقل حدود المياه الإقليمية من 6 إلى 11 ميلاً بحريًّا لمنع تكرار حوادث مشابهة! وكان المهندس “جورجيو” قد تغلب علي مشكلة إيجاد مصدر مياه لـ “دولته” عبر أنابيب تسحب المياه العذبة من قاع البحر المالح. ليبقى السؤال: هل توجد مياه عذبة في قيعان البحار، ومن أين تأتي؟

القبطان كوستو وينابيع عذبة

خلال إحدى رحلات الاستكشاف البحرية في عمق المحيط.. لاحظ الضابط البحريّ والمستكشف والباحث البيئي الفرنسي “جاك إيف كوستو (Jacques-Yves Cousteau)‏ ـ (11 يونيو 1910 ـ 25 يونيو 1997) أن هناك عددًا من الينابيع تنبعث منها تيارات مائية عذبة، لا تمتزج مع مياه البحر المالحة، وقضى وقتًا طويلاً يحاول تفسير هذه الظاهرة. وحديثًا.. يُشار إلي أن كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية تُقدر بنحو 23,4 مليون كيلو متر مكعب. بينما تُقدر كمية الماء الموجودة في أنهار العالم 2,12 ألف كيلو متر مكعب. بينما يبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة نحو 91 ألف كيلو متر مكعب. لذا فحجم الماء العذب المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار بـنحو 250 ضعفًا.

البرازخ المائية

تنشأ “ظاهرة البرزخ المائي” The watery isthmus phenomenon عند التقاء كتل مائية عذبة بأخرى مالحة. كما هو الحال مع التقاء المياه الجوفية العذبة مع مياه المحيطات والبحار المالحة. وعند التقاء المياه العذبة الذائبة من الجليد القطبي مع مياه البحار المالحة. وعند التقاء مصبات الأنهار العذبة مع مياه البحار (جريان مضطرب). ولا يقتصر دور “البرازخ المائية” على منع اختلاط المياه الجوفية العذبة بالمياه المالحة، بل تقوم بالحفاظ على طفو المياه العذبة (المنخفضة الكثافة) فوق مستوى المياه المالحة (عالية الكثافة بسبب تشبعها بالملح). ووجود هذه البرازخ تمنع منعًا باتًّا انتشار جزيئات الملح إلى الماء العذب لعدة كيلو مترات. وهو ما يخالف القانون الذي ينص على أن “جزيئات المادة في السوائل والغازات تنتشر من الوسط الأكثر تركيزًا بهذه الجزيئات إلى الوسط الأقل تركيزًا”. ولا يوجد برزخ يشبه الآخر! فكل واحد يتميز بخصائص وفق درجة الملوحة، والاختلاف في درجة الحرارة، وطول النهر، ودرجة الحموضة PH، وكمية العوالق في ماء النهر وسرعة تدفقه، وحركة المد والجزر إلخ.

وتتجلى كثيرًا ظاهرة “البرازخ المائية” في الجزر الصغيرة الموجودة في المحيطات والبحار. في محاولة فهم “الجيولوجيا المائية” للجزر.. فإن مياه المحيطات المحيطة بالجزر ـ وبسبب ضغطها الهيدروليكي الهائل ـ قادرة على تلويث المياه العذبة الجوفية الموجودة في الجزر بشكل كامل. لكن تظهر المياه الجوفية العذبة التي تشكل المصدر الرئيس للمياه للعديد من مجتمعات الجزرعلى شكل عدسات كروية تحيط بها مياه البحار المالحة من كل ناحية. ولذا سميت بـ “عدسات غايبن-هيرزبيرغ” (Ghyben-Herzberg lens). وكان العالم الهولندي “بادن ـ غايبن” (Baden-Ghyben)، أول من لاحظ ـ عام 1888م ـ وجود حاجز مائي بين المياه الجوفية العذبة ومياه البحار المالحة. ثم تابع الملاحظة ـ عام 1901م ـ العالم الألماني “هيرزبيرغ” (Herzberg). وتمكن العالمان ـ بشكل مستقل ـ من اشتقاق “علاقة” تحدد عمق الحاجز عن سطح البحر، سميت “علاقة غايبن-هيرزبيرغ” (Ghyben-Herzberg relation). وتعتمد العلاقة في اشتقاقها على حقيقة أن كثافة الماء المالح تزيد عن كثافة الماء العذب. حيث تبلغ كثافة الماء المالح 1,025 غرام/ سنتيمتر مكعب، بينما تبلغ كثافة الماء العذب غرام واحد/ سنتيمتر مكعب، وبناء على هذا وجد العالمان أن عمق الحاجز الموجود بين المائين تحت سطح البحر يبلغ أربعين ضعف ارتفاع مستوى الماء العذب فوق سطح البحر. أي أن ارتفاع المياه العذبة الموجودة فوق المياه المالحة يبلغ حوالي 40 قدمًا (12 م) لكل 1 قدم (0.30 م) من المياه العذبة المرتفعة عن مستوى البحر. مما يشير إلى أن هذا الحاجز لن ينشأ إذا تساوى مستوى الماء العذب مع مستوى الماء المالح. لذا يتخوف المُختصون من أن يؤدي الضخ الجائر للمياه الجوفية الموجودة عند شواطئ المحيطات والبحار إلى اختفاء البرازخ المائية فيها؛ وذلك عندما يصبح مستوى المياه الجوفية مساويًا لمستوى سطح البحار. وفي حالة اختفاء البرزخ المائي فإن مياه البحار المالحة ستتغلغل في المياه الجوفية العذبة وتحولها إلى مياه مالحة غير صالحة للشرب فيما يسمى بتغلغل أو تداخل المياه المالحة (Saltwater intrusion).

ويكون الحاجز على شكل جدار مائي يحيط بكامل المياه الجوفية من جهة الماء المالح. ويبدأ أعلاه من سطح البحر المالح ويمتد لأسفل لكن ليس بشكل رأسي، بل يميل بشكل منحني باتجاه المياه العذبة إلى أن يصل إلى قاع المياه العذبة. وهذا الحاجز ليس حدًّا فاصلاً (sharp boundary) لا عرض له، بل هو منطقة لها سُمك محدد يهبط فيها تركيز الملح بشكل تدريجي من مستواه في جهة الماء المالح إلى مستواه في جهة الماء العذب، أطلق عليها اسم “الماء الآسن/ الكريه” (brackish water or fresh/salt mixture). وأطلق اسم “برزخ الماء المالح – الماء العذب” (saltwater-freshwater interface or transition) على هذا الحاجز المائي الفاصل بين المائين. وحديثًا.. بواسطة تقنيات “الاستشعار عن بعد” يمكن تحديد: أين يوجد البرزخ؟، وكيف يعمل كنظام محصن لا يختل بتأثير الأمواج والتيارات العاتية أو ظاهرة المد والجزر؟

العدسة العذبة/ الجوفية

يوجد نظام مائي يسمى “العدسة العذبة/ الجوفية”. وهي طبقة من المياه العذبة ذات شكل محدب تطفو فوق المياه المالحة الأكثر كثافة وعادة ما توجد في الجزر الصغيرة المرجانية والجزر الجيرية التي تحتوي فجوات وشقوق تسمح للمياه العذبة بالتدفق ببطء عبر الصخور وفق أسس علم “الجيولوجية المائية” (الهيدروجيولوجيا). وهذا النظام المائي تحكمه قوانين فيزيائية وعوامل جغرافية منها: أن المياه العذبة أقل كثافة من المالحة، مما يتيح لها البقاء فوق المياه المالحة. مما يعني أن مياه الأمطار العذبة ـ التي تتساقط على الجزيرة وتتغلغل في الأرض ـ ستبقى فوق المياه المالحة في الخزان الجوفي. وكذلك تساعد نباتات وأشجار الجزر في الحفاظ على هذا النظام المائي عبر توفير الظل الكافي والحد من التبخر، واستخدام جذورها لامتصاص المياه المالحة ومنعها من الوصول إلى العدسة الجوفية العذبة. فضلاً عن أن الأراضي الرطبة، التي تكون إما مشبعة أو مغطاة بالمياه لجزء من العام، هي ماكينات لتنظيف للمياه. فهي لا تحفظ الماء بداخلها فقط كـ “الإسفنجة” مما يمنع حدوث فيضانات، ولكنها تعمل أيضًا كمصفاة طبيعية. والنباتات والبكتيريا التي تعيش بالأراضي الرطبة لديها القدرة على تحليل الملوثات الضارة أو امتصاصها قبل وصول المياه إلى البحيرات والأنهار والجداول.

كما تتمتع العديد من الجزر الصغيرة بمعدلات هطول أمطار عالية وكثيفة، مما يعني أن العدسات الجوفية تتجدد باستمرار بالمياه العذبة. ويتم إعادة ملء هذه الطبقة من المياه العذبة عبر هطول الأمطار الذي يتغلغل في الطبقة العليا من التربة ويترشح للأسفل ليصل إلى المنطقة المشبعة. ويمكن تلخيص معدل إعادة الملء للعدسة بالمعادلة التالية: R = p – E T (حيث R = معدل الشحن بالأمتار، p = معدل هطول الأمطار، وE T = معدل تبخر ونتح الماء).

فمع كميات أعلى من المطر، يزداد الضغط الهيدروليكي، ويتم الحفاظ على عدسة مياه عذبة سميكة. وخلال مواسم الجاف ستقل كميات الهطول أو ستزيد معدلات التبخر والنتح وسيقل الرأس الهيدروليكي، مما يؤدي إلى عدسة رقيقة. ومن بين 425 جزيرة مرجانية في العالم ـ معظمها في المحيطين الهادئ والهندي كمناطق شعاب مرجانية منخفضة تتكون من سلسلة جزر محيطة ببحيرة مياه بحرية ضحلة نسبيًّاـ تستخرج ـ بالفعل ـ المياه العذبة عند حدود الاستدامة أو أعلى منها. ففي جزر “مارشال” وعقب جفاف عامي 1997-1998 لاحظ تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية انخفاضًا ملحوظًا في سُمك العدسة. وذلك بعد النضوب السريع لخزانات نظام مستجمعات الأمطار العامة بعد عدة أشهر من عدم كفاية هطول الأمطار. فبدأ سكان الجزر في زيادة معدل ضخ المياه الجوفية إلى النقطة التي وفرت بها هذه المياه الجوفية ما يصل إلى 90٪ من مياه الشرب بالجزيرة خلال فترة الجفاف. فتم إنشاء شبكة مكونة من 36 بئر مراقبة في أحد عشر موقعًا حول الجزيرة لقياس كمية المياه المستنفدة من طبقة المياه الجوفية. بحلول نهاية الجفاف (يونيو 1998)، كان الحد الأقصى لسمك عدسة المياه العذبة حوالي 45 قدمًا في بعض الآبار، في حين كان سمكه 18 قدمًا في أحد الآبار. وبعد استئناف موسم الأمطار، زاد سُمك العدسة بما يصل إلى 8 أقدام في بعض المناطق، مما يشير إلى أن معدل إعادة شحن عدسات المياه العذبة في الجزر المرجانية والجزر الصغيرة يستجيب بسرعة للتغيرات في هطول الأمطار ومعدل ضخ المياه الجوفية.

وتقع العديد من الجزر المرجانية التي تدعم عدسات المياه العذبة على ارتفاع أمتار قليلة فوق مستوى سطح البحر. وبالتالي فهي معرضة لخطر الفيضانات بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. مما قد يتسبب في تسرب المياه المالحة (عند المد الفيضاني) إلى طبقة مياه الشرب الجوفية، وتملح المزيد منها. مما يشكل انخفاضًا كبيرًا في موارد المياه المتاحة لسكان هذه الجزر. أما الجزر الصغيرة فمعرضة لخطر أكبر من تسرب المياه المالحة بسبب العلاقة غير الخطية بين عرض الجزيرة وسُمك عدسة المياه العذبة. أما مدن السواحل ففي حال ضخت كميات كبيرة جدًّا من المياه الجوفية قرب الساحل فقد تتسرب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية العذبة مسببة تلوثها، ولدى العديد من الطبقات الجوفية – مثل طبقة بيسكين الجوفية الموجودة قرب الطبقات الجوفية الساحلية والعادية في ولايتي “ميامي” و”نيوجرسي” – مشاكل مع تسرب المياه المالحة كنتيجة لفائض الضخ.