ضيف صباحي

مُذ غادرت زوجةُ الأستاذ عدنان إلى جوار ربها لم يتخلَّ عن ذلك الطقس اليومي الذي كان يجمعهما تحت سقفِ داليةٍ عناقيدها قصائدُ من الفرَح. كانا يستقبلان الحياة بفنجانٍ من القهوة مع قطعة من البسكويت لكل منهما.

بعد رحيلِ شريكته صار يصنع لنفسه فنجانًا من القهوة مع قطعتين من البسكويت ممنيًا النفسَ أن يمرَّ طيفُها ويشاركَهُ رشفاتِ قهوته، ويكسرَ احتفاليتَهُ الموحشة.

هذا الصباح لم يكن ككل الصباحات، صارت الأمنيةُ حقيقة. فها هو ذا عصفورٌ بديعُ الجمال كروحها يقف متأرجحًا على أحد الأغصان المتدلية نحو الأسفل، سارع الأستاذ عدنان بالتقاط إحدى القطع، فتَّتها، ورماها على سطح الطاولة. ألقى الضيفُ تحية الصباح، وبعدها قفزَ لتناول تلك الوجبة الشهية.

أخذ صديقنا رشفةً من فنجان قهوته، وسأل ضيفَهُ المنشغل بنقر القِطَعِ الشهية: قل لي كيفَ لمخلوقٍ مثلي أن يهبَ الجمال، بينما الوَحدةُ القاسية تنهشُ قلبَهُ وروحَه؟

قفزَ الطائر إلى حافة كأس الماء عبَّ منها عدَّةَ مرات، ثم قال: اسمع يا صديقي، أنت تعلم بأننا نحن الطيور من طبعنا الترحال طلبًا للدفء، لذلك نلجأ للأماكن المعتدلة.

ذاتَ مرة حطَّ بنا المقام في بلاد الهند، وشاءت الأقدار أن أتعرَّفَ على عصفورة بمنتهى الجمال، وعلى شجرةِ باسقة بنينا عُشَّنا.

تصوَّر أنَّ البناء الذي جاورناه كان مشفى.. في ذلك المشفى شغلتني حركةُ ذاك الطبيب، كان نشيطًا جدًّا والناسُ تلتفُّ حوله، وكأنه الطبيب الوحيد فيه.

قررتُ أن أقومَ بزيارته، لعلي أعرف سرَّ محبة الناس له وانشغالهم به.. على إحدى شرفات المشفى المطلة على الغابة جمعتنا صبحيةٌ كهذه، سألتُه عن السر، فأجاب مبتسمًا: أنا ابنُ امرأةٍ فلاحة، وكنتُ أرافقها في أغلب الأوقات، وفي طريقنا إلى مزرعتنا كنا نمرُّ بوادٍ جميل تحيط به الجبالُ من كلّ الاتجاهات، وعندما نصل إلى منتصفه كانت أمي تصرخ: أحبُّكَ يا رب، فيعود الصوتُ مُحمَّلاً بالصدى عدة مرات: أحبُّك أحبُّك أحبُّك.

تعلَّمتُ الدرسَ من أمي، وعرفتُ بأن قلوبَ البشر هي مثلُ تلك الجبال تعيد صوتَ المحبة لنا مراتٍ ومرات.. هل عرفتَ السر؟

وأنا يا صديقي أُطلِقُ من حنجرتي أجملَ الألحان لتعودَ لي مُحمَّلةً بالمحبة والود.. حتى ولو كنتُ مغمورًا بوحدتي وكآبتي.

أُعجِب صاحبُ الصباح بكلام ضيفه، مدَّ يدَهُ، أخذ رشفةً من قهوته، غادر الطائر مُحلِّقًا نحو السماء ممنيًا النفسَ بغمزة عين من عصفورة تمرُّ في الأرجاء.

صوتُ إطلاقِ نار من بندقية صيد غمرَ المكان فجأةً، على مسافة أمتار هوى الطائر على الأرض مضرَّجًا بدمه، بينما سقطت دمعةٌ ساخنة من عين الأستاذ عدنان إلى جانب قِطَعِ البسكويت، وفنجانِ قهوته.