ابن جني وأشهر كتبه

هو عالم بارع وإمام نابغ من أئمّة النحو الكبار، لم يسبق له مثيل في علوم اللغة العربيّة كلّها في صوتها ونحوها وصرفها وفقهها وما يتّصل بها لفظيًّا ومعنويًّا ودلاليَّا بجانب حذقه التام في علوم الدين والكلام، وكفاه فخرًا وعلوًّا إذ يقول فيه المتنبّي “هو أعرف بشعري منّي”.

هو أبو الفتح عثمان بن جنّي المشهور بـ “ابن جِنّي”، ولد في القرن الرابع الهجري بالموصل عام 322هـ، نشأ بها زمن تزعزع الدولة العبّاسية في آخر أيّامها، وتروّى بمناهل أعاظم العلماء من النحاة والأصوليين والمجتهدين في الفقه والشريعة والكلام، توفّي سنة 392 تاركًا أثرًا غزيرًا يفوق الخيال.

النشأة والتعليم

ولد الشاعر زمن الخلافة العباسية تحديدًا في عصر الخليفة أبي الفضل المقتدر بالله حينما كانت تواجه الخلافة الاضطراب السياسي من الوجوه المختلفة وقابله الازدهار العلمي والنشاط الثقافي والتزود الفكري الضخم، ففاق علماء هذا العصر من كل العصور السابقة وتولدت مراكز العلوم والفنون بموجة علميّة ضخمة، ولم يبق دار ولا مدينة إلا وأنشئَت بها مراكز ومصادر العلوم في مهد العلماء والفضلاء، فانتشرت دور العلم والعرفان في الموصل ومن أبرزها “دار علم الموصل” الّذي أنشأه أبو القاسم الشاطبي سنة 323، ازداد شغفه باللغة يومًا بعد يوم، كان يرتاد مجالس العلم والأدب ويستفيد من الشيوخ والعلماء، حتّى نبغ في دراسة اللغة العربية ونحوها وصرفها واشتغل بالتدريس وهو ما زال شابًّا، فنبغ ابن جني في الفن حتى كان أستاذه الفارسي يرجع إلى رأيه في بعض المسائل على رغم أن ابن جني قد كان بصريّ المذهب حيث إنّه كثيرًا ما كان يواجه قضايا نحوية ذات طرح بغدادي أو كوفي فيحل معقداتها ويثبتها بالدليل بآراءه المستقلّة الفريدة.

كان ابن جنّي أمينًا في علمه حتّى كان يأخذ اللغة من فصحاء العرب بعد الفحص الدقيق فكان منهم محمد بن العساف العقلي المعروف بابن الشجري، تعرّف عليه وأخذ عنه كثيرًا من فصاحة العرب وبلاغته في اللغة. فإنّه لم يستقر بمكان واحد بعد مغادرة الموصل، بل ما زال ينتقل من هذه البقعة إلى ذلك النحو، وغالبًا ما كان يصاحب أستاذه أبا علي الفارسي، دخل أوّلاً مدينة بغداد ظل فيها مدة بين علماءها العظام ونبغاءها الكرام أمثال ابن مقسم، ثم غادر بغداد وتوجّه إلى الشام حتى دخل حلب وواسط واتصل بالحمدانيين إلى أن توطدت صلاته مع سيف الدولة في حلب وتعرّف على أدباء وشعراء البلاط الحمداني ومن هنا تبدأ صداقته مع المتنبّي، ثم دخل مدينة واسط واستقر فيها مدة من الزمن يدرس اللغة والنحو ثم غادر إلى البويهيين واتّصل بهم في شيراز إلى أن يأتي ما بعد بغداد ويخدم في بلاط الخلفاء يلازم الأمراء ويؤدّب أولادهم إلى آخر أنفاسه حتى وافته المنيّة زمن بهاء الدولة.

ابن جني والمتنبي

يقول المؤرّخون أنّه انتقل مع شيخه الفارسي إلى حلب “عاصمة الحمدانيين” وأقام هناك لمدة خمس سنين طويلة، إذ اتصل مع أبي الطيب المتنبّي وتولّدت بينهما علاقة وطيدة حتّى عُدّ المتنبّي أحد أساتذة ابن جني وطالت صحبتهما دهرًا طويلاً معظمها في بلاط سيف الدولة حيث كان يناظره في النحو وكان يقرأ عليه ديوانه، والتقى به أبو الفتح مرّة ثانية بشيراز في بلاط عضد الدولة أيضًا، كانت بينهما صداقة صديق حميم واحترام أستاذ وشيخ، حتّى قال عنه المتنبّي: “هذا الرجل لا يعرف قدره كثير من الناس”، ولم يكتف المتنبّي بهذا حتّى قال: “هو أعرف بشعري منّي”، وإذا كان يُسأل عن النحو والصرف في شعره كان يقول “عليكم بالشيخ الأعور ابن جنّي فسلوه، فإنّه يقول ما أقول وما لم أرد”، وبنفس الدرجة كان يقابله ابن جنّي من الاحترام والتقدير ويكنُّ له الحب حتّى كان يدافع عنه نقّاده، وكثيرًا ما كان يعبّر عنه بقوله “شاعرنا” كما يقول في الخصائص: “وحدّثني شاعرنا وما عرفته إلّا صادقًا…”، وهو أوّل من قام بشرح ديوانه بشرحين مسمّيين بالشرح الصغير والشرح الكبير، كان ابن جنّي يتابع أخبار المتنبي من علي بن حمزة البصري حتى إذا بلغه نعي المتنبّي سنة 354هـ رثاه بقصيدة طويلة أوّلها:

غاض القريض وأودت نضرة الأدب *** وصوّحت بعد ري دوحة الكتب

مكانته العلميّة

بلغ الشيخ من الجلالة ما لم يبلغه إلا القليل، وقد تعمّق في كل الفنون الّتي خاض فيها، وهذا ما يبدو صريحًا في مصنّفاته وأبحاثه ومستخرجاته وجزئيّاته بالاستقصاء والتعمّق في التحليل وتصريف الكلام والإبانة عن معانيه حتّى عد من بين فيلسوف العربيّة، فإنّه فتح في العربيّة أبوابًا لم يتسنّ فتحها ما بعد إلّا بعض من مجالاته، لما أنّه واضع كثير من القواعد والأصول في الاشتقاق والألفاظ للمعاني لكن من الأسف البالغ أنّه لم يأت بعده من يناظره ويعادله في العلم والمعرفة والتعمّق نحوًا وصرفًا وبلاغة.

بدأ ابن جنّي التدريس وهو في ريعان عمره في الموصل ثم غادر ورافق أستاذه أبا علي الفارسي إلى أن صاحبه لمدّة أربعين سنة، فكان يدرّس في بعض الأحيان بعد تعمّقه في اللغة والنحو الصرف حينما بلغ سنًّا مناسبًا إلّا أنّه لم يتفرّغ للتدريس إلّا بعد وفاة شيخه الفارسي سنة 377هـ، فاجتمع مع عدد من الطلاب معتكفين حوله ليلاً ونهارًا، وهكذا تتلمّذ على يديه عدد وافر من العلماء والأدباء المشهورين من بينهم عمر بن ثابت الثمانيني اللغوي، وعبد السلام الحسين البصري، وأبو الحسن السمسمي والشريف الرضي الشاعر المشهور مؤلّف “نهج البلاغة” وغيرهم من الكبار.

مؤلفاته

ألّف ابن جنّي عددا كثيرا من الكتب، كلّها تمتاز بالدور البارز في الدراسات اللغويّة من بعده، وأغلبها تتمحور في اللغة والنحو والصرف والقراءات والتفسير، اهتمّ العلماء بعده بالاعتكاف على كتبه شرحًا ونقدًا وتفسيرًا وتحليلاً واستخراجًا وتحقيقًا، وعدد مؤلّفاته يقارب التسعين غالبًا، وصل إلينا منها تسعة وعشرون مخطوطًا وطبع منها عشرون كتابًا، فمن أبرز هذه الكتب: كتاب الخصائص، وسرّ صناعة الإعراب، والمحتسب، وغير ذلك، “يقول ابن كثير عن مؤلّفاته: “صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة”.

النحو عند ابن جنّي

ولد ابن جنّي في العصر الّذي برز فيه عدد لا يحصى من النحويين البغداديين على الأخص، إذ كانت بغداد مركز الدراسات النحويّة ومسرح المناظرات فيما بين النحاة، ومن أبرزهم أبو علي الفارسي وأبو سعيد الصيرفي وغيرهم، كان لابن جنّي آراءه المستقلة في النحو غالبًا ما يتمحور حول أصول النحو والنحو التطبيقي، نظرًا لآراءه المستقلة رآه المجددون متمرّدًا على النحو التقليدي مقارنًا مع ابن مضاء القرطبي. وقد اختلف العلماء فيما بعده حول مذهبه النحوي، فالبعض نسبه إلى المدرسة البصرية بينما رآه أغلب العلماء منتسبًا إلى المدرسة البغدادية الّتي تمزج بين آراء المدرسة الكوفيّة والبصريّة من بينهم ابن النديم وشوقي ضيف ومحمد النجار وعبده الراجحي قديمًا وحديثًا، وقد وضعه بعض النحاة في ميزان النحوي المستقلّ مذهبًا.

قام ابن جنّي بالمساهمات المتتالية في المجالات المختلفة، من بينها إسهاماته الجليلة في علم أصول النحو مما يتعلّق بالقياس والتعليل، فإنّ ابن جنّي هو أوّل من وضع هذه الموضوعات استنادًا من علم أصول الفقه الحنفي على وجه التحديد، وقد حاول العلماء والنحاة قبله أن يضعوا هذا العلم لكنهم فشلوا بالمفهوم الصحيح كأبي البكر بن السراج والأخفش الأوسط وغيرهما، ولكن ابن جنّي هو الّذي وضع هذا الفنّ على وجه الصواب وهذا ما يؤكَّد عندما يقول: “وذلك أنّا لم نر أحدًا من علماء البلدين تعرّض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه”، إن السماع أصل من أصول النحو العربي وقد خصّص الإمام ابن جنّى أبوابًا له في “الخصائص”، فإنّ مذهبه فيه أنّه يعتدّ بالكلام المنقول عن الفرد المحافظ على عربيّة صحيحة وسليقة لغويّة خالية من التأثيرات الخارجية، ثم إنّ موقف الإمام ابن جني  في نظرية العامل يتّفق على الأغلب مع ابن مضاء القرطبي ولو أنّه لم يسَر مساره في التساهل بالإعراب.

ترك ابن جني أثرًا لا يمحى في أكثر الفروع اللغوية، وهو في أغلبها ممن يعد من السابقين الأوّلين في كثير من الفنون، كما أنّه يعدّ من أعظم الصرفيين لمساهماته الفعّالة إذ استقل الصرف من بعده ولو أنّه يتفاعل معه، فله مؤلّفات ورسالات عديدة مفقودة أو محفوظة في علم الصرف، كما أنّه أيضًا وضع علم الصوتيّات كفنّ مستقلّ من جميع الفنون، فسمّى دراسة الأصوات علمًا، وألّف فيه كتابًا اسمه “سرّ صناعة الإعراب”، كما أنّه لم يتخلّف أيضًا في دراسة علم الدلالة، بل ناقش فيه اللفظ ومعانيه وتشابهاته وما يتّصل به من الأمور المتّصلة به.

كتاب الخصائص

هذا من بين أشهر كتب ابن جنّي، ويعدّه العلماء أيضًا من بين أفضل كتب في فقه اللغة والتراث العربي، هو جامع شامل لكثير من قضايا اللغة والنحو والتصريف، وما يجعل الكتاب أكثر تأثيرًا في نفوس القارئين هو الأفكار اللغوية اللامثيلة المبثوثة، حيث يتحدث فيها عن خصائص اللغة ومشتقاتها وتصاريفها ولهجاتها وأصواتها ونشوؤها بأسلوب علمي ممتع، ألّف ابن جنّي هذا الكتاب بعد وفاة أستاذه أبي علي وأهداه إلى بهاء الدولة البويهي، حيث يوجد له اليوم خمس مخطوطات متناثرة في أمكان متعددة.

كتاب “الخصائص” واحد من أبرز الكتب الّتي فتح أبوابًا من العلوم ليباحث القادمون عن موضوعاته فيما بعد أما مؤلّفات سابقيه فلم تتناولها أبدًا، وتناول قضايا فقه اللغة وعلمها وناقش في بنية اللغة ونظامها العام برؤية علميّة وصفيّة وظيفية.

يتألّف الكتاب من ثلاثة أجزاء هامّة، متناولاً ما يقارب الألف ومائتين صفحة، ومقسّمًا على خمس وأربعين بابًا، كل هذه الأجزاء مختلطة بعضها ببعض أو تتمة لما قبلها من الموضوعات، فالجزء الأوّل منه يبحث عن الكلام والقول واللغة وعللها وما يتصل بها من الموضوعات، ثم الجزء الثاني أيضًا تتمة وتوضيح لما في السابق من الكلام مع التركيز الخاص على الفصاحة في اللغة والاشتقاق الأكبر، وأما الجزء الثالث منه فهو يشتمل على فلسفات لغوية أكثر، يتطرّق فيه إلى ذكر موضوع الاستخفاف في اللفظ وإضافة الاسم إلى المسمّى إلى أنّه يختم بذكر الثقات ممن يروى بهم في الكلام.

كتاب “الخصائص” بجملته دراسة في النظام والبنية والوظيفة، كتاب لا مثيل بسائر نوعيّاته، يستدعي فيه الكاتب آراء شيوخه بجلٍّ واحترام ثم يخالف أو يوافق بذكر آراءه المنطقيّة، فهو يقطع كل العبور في بيان المصطلحات من الجزئيات إلى العموميات ويجعل الأمر أكثر سهولة للقارئ، فالكتاب جامع شامل لنظام اللغة العربية الذي يحفظها فيجب على كل محبّي اللغة العربية ومتخصّصيها أن يحافظ على مطالعتها.