ما أكثر الشخصيات البراقة في حياتنا المجتمعية.. فقد يتفرَّد الشخص بذكائه؛ فيعدُ هذا وعودًا خيالية، ويكذب على ذاك، ويخادع النساء، ويستغل الآخرين.. ويبدو اجتماعيًّا من الدرجة الأولى، فهو لا يعلم أنه مصاب بمرض نفسي اسمه “السيكوباتي”، أي الشخص المعادي للمجتمع. وهذا أحد أنواع اضطراب الشخصية، مما يشكِّل خطرًا على من حوله، ومن الضروري الحذر منه، وعلاجه أيضًا، وذلك من خلال التعرف على أسباب هذا المرض، وأنماطه وأعراضه والدخول في طرق علاجه.
الشخصية السيكوباتية من وجهة نظر علم النفس
هي اضطراب نفسي يتميز عن غيره بمجموعة من الصفات، كالسلوك الذي يتعارض مع الأعراف المجتمعية، ويقوم “السيكوباتي” بانتهاك حقوق الناس، كما أنه غير قادر على التمييز بين الصح والخطأ، ويتلاعب بمشاعر الآخرين، ويتجاهل سلامة من حوله.
كما تعرَّف الشخصية “السيكوباتية” باسم “الوجه المجهول”، وصاحبها مصاب باضطراب جسمي، وهو متسلط، وقد يكون منخفض الذكاء أو ذكيًّا جدَّا ومتمرِّدًا وخبيثًا وسارقًا ومتحايلًا على القوانين.
كما يجيد الشخص “السيكوباتي” تمثيل الإنسان العاقل المحترم، وله تأثير كبير على الآخرين، فيتلاعب بمشاعرهم، ويحاول دائمًا إلحاق الأذى بمن حوله.. وهدفه إشباع غرائزه دون شعور بالذنب أو تأنيب الضمير.
أنماط الشخصية السيكوباتية
توجد أنماط وأعراض عدة تظهر على الشخص، وتتطور حتى تصبح جزءًا من شخصيته، ومنها الشخص العدواني، ومن صفاته أنه يكون ميّالاً للإجرام، وهناك “السيكوباتي الناشز”، وهو من يمارس العنف والتسلط على أفراد أسرته وأقاربه ومن حوله. و”السيكوباتي الجارح”، وهو الذي يبدو عليه الضعف والشعور بعدم الأمان من الناحية النفسية ويمتاز بتصرفات غريبة، و”السيكوباتي” المتجوِّل، وهو من يتنقَّل من مكان إلى آخر بلا سبب، ولا يمتلك القدرة على التحكم برغباته، أما “السيكوباتي المتعصب”، فغالبًا ما يقع في هذا المرض، الرجل المتعصب دينيًّا والمتشدد بآرائه، فتبدو عليه سرعة الغضب، وينتابه شعور دائم بالعظمة.
أعراض الإصابة بالمرض
ومن أعراض الإصابة بالشخصية الحدية “السيكوباتية”، أن ينتاب المصاب الشعور بالقلق والاكتئاب والملل في اختيار الأصدقاء، ونوع العمل، والمرور بحالات من التفكير المشوش، وقلة الفهم، كذلك القيام بتصرفات خطيرة وغير متوقعة، إضافة إلى التغيير المفاجئ في المزاج، وضعف الثقة بالنفس، والشعور بالفراغ والملل الشديدين، والغضب الخارج عن السيطرة، وكذلك الشعور بالتضايق من الوحدة.. كما تكون علاقاته وتعاملاته غير مستقرة مع من حوله من الناس، ويطلق أحكامًا غير صحيحة على من يتعامل معهم، فإما أن يصنفهم في خانة جيد جدًّا أو سيئ جدًّا دون وجود الوسط بينهما، كما تنتابه الأفكار الانتحارية والتفكير في إيذاء نفسه.
وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2011م من قِبل العالم “جيمس فريمان”، أن هناك نسبةَ واحد بالمئة من أفراد المجتمع، يمتلكون بعض صفات الشخصية السيكوباتية.
الأسباب التي تكوِّن الشخصية السيكوباتية
من الأسباب التي تكوِّن الشخصية السيكوباتية، الاستعداد الوراثي، حيث تزداد نسبة استعداد الشخص للإصابة باضطراب الشخصية السيكوباتية إن كان لديه أقارب من الدرجة الأولى مصابون بهذا الاضطراب. وكذلك التربية القاسية والعنيفة التي يتعرَّض لها الشخص في حياته ضمن المجتمع، فتكون عاملاً أساسيًّا في خلق شخص معادٍ للمجتمع. أضف إلى ذلك الحرمان من الحنان، فعندما يُحرم الطفل من العطف والرعاية من أمه في الأشهر الأولى من حياته، فتتشكل لديه أرضية لاحتمال إصابته باضطراب الشخصية “السيكوباتية”. وكذلك يمكن أن تؤثر التجارب والمواقف القاسية على حياة الطفل، ويؤدي تعرضه إليها إلى احتمال إصابته بالاضطراب “السيكوباتي”. ومن هذه التجارب القاسية -مثلاً- الظلم الشديد، وحوادث الاغتصاب أو التحرُّش الجنسي الشديد المتكرر، وغير ذلك.
سمات الشخصية السيكوباتية
تبدأ بوادر الاضطراب “السيكوباتي” بالظهور منذ مراحل الطفولة، وتأخذ الشخصية شكلها الأعمق والأقوى في مرحلة المراهقة، وتنضج تمامًا في عمر ١٨ سنة.
“السيكوباتي” يمتلك الجاذبية المؤقتة، فيتمتع منذ البداية بالجاذبية والسحر، ويبدو كمتحدث جيد، ثم تظهر شخصيته المريضة بالظهور رويدًا رويدًا.
الكذب أهم سمات “السيكوباتي”، وغالبًا ما يجد كثيرًا من الصعوبات في تذكر أكاذيبه، وهو حين يفضح أمر كذبه يلجأ بطرق مقنعة قوية للخروج من المأزق.
من سماته أيضًا النرجسية، فهو يشعر بأهميته، ويتصرف فوق القوانين العامة، ويخترع قواعد خاصة به يفترض أنها تناسبه، وتكون طريقة محددة لتعامله مع الآخرين. كما يتصف بالتلاعب والبراعة الجنائية والانحلال الأخلاقي، وهو دائم الشعور بالملل وبأنه بحاجة إلى التغيير. وهو شخص أناني لا يعرف سبب أنانيته، ولا يمكنه تبرير ذلك. وهو عاجز عن تكوين علاقات دائمة من المودة مع غيره من الناس. كذلك هو سريع الغضب والاستثارة والاندفاع. ويتصف كذلك بأنه عديم الشعور بالذنب، ويمكن أن يسبب في كثير من الأحيان معاناة لمن حوله في الأسرة أو العمل. ويتصف أيضًا بأنه عاجز عن الاستفادة من الخبرات السابقة، وعدم التوافق مع المجتمع لرعونته وسلوكه الفج. وقد يدمن الشخص “السيكوباتي” شرب الخمر وتعاطي المخدرات أو الانحرافات الجنسية، ويعجز عن تحمل المسؤولية إلا في إثارة الشغب وتثبط همته بسرعة. وقد يفشل في العمل لعدم استقراره النفسي، عندها يعيش في بطالة، ولا تجدي في علاجه أساليب اللين ولا الشدة.
ولعل هذا التوسع في مفهوم “السيكوباتية” هو الذي أدى إلى غموض المصطلح، لدرجة أنه قد تمَّت الإشارة إلى فئة “السيكوباتية” على أنها سلَّة مهملات التشخيص عند مواجهة حالات تبدي فيها أعراض كلها ضد مجتمعية. ولكن بعد تطور الدراسات في ميدان اضطراب الشخصية، تبيَّنت مظاهر الشخصية “السيكوباتية” وتحديدها كمرض مستقل.
علاج الشخصية السيكوباتية
العلاج الدوائي: يمكن أن يساعد المصاب على جعل الوظائف العصبية والحيوية على أن تكون مع مرور الزمن وتقدم العمر طبيعية. ومن العلاج أيضًا، المثيرات للحالة المزاجية ومضادات حيوية، أُثبت أن لها فاعلية جيدة. فيمكن للدواء أن يكون جزءًا من العلاج إذا كان المريض يعاني من بعض الأمراض النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، وتظهر عليه أعراض عدوانية تستوجب الأدوية المهدئة. وهناك بعض الباحثين يرفضون العلاج الدوائي، ويعتمدون بشكل خاص على العلاج النفسي.
العلاج النفسي: فيكون عبر جلوس الطبيب في جلسات عدة مع المريض، ومن خلالها يُشخص المرض، ويوجه المريض إلى تغيير نمط حياته وطريقة تفكيره وتصرفاته، فيعتمد على العلاج السلوكي المعرفي والتغذية الجيدة، والدعم النفسي، والاعتدال النفسي، والابتعاد عن القسوة، والتوجه إلى الاختلاط بالأشخاص الأسوياء المحبين للاجتماع، ليكونوا نموذجًا جيدًا له، مما يجعله يأخذ السلوك الصحيح من الأشخاص الذين يعيش معهم.
وما يثير التساؤل باعتبارنا نعيش في مجتمع متنوِّع الشخصيات، فهل كل شخص فيه صفة من صفات الشخصية “السيكوباتية” يعتبر معتلاًّ نفسيًّا؟ وكيف لنا أن نميِّز بين الشخص السليم عقليًّا والشخص المريض؟
إن الدراسات حاليًّا -حسب مفهوم علماء النفس- تشير إلى أن نسبة واحد بالمئة من المجتمع، يمتلكون بعض صفات هذه الشخصية أو أكثر بقليل. فمن المهم التوجه إلى الباحث الاجتماعي خريج كلية العلوم النفسية والتربوية، الذي من المفترض أن يكون موجودًا في كل دائرة من دوائر العمل مثلاً، فهو يستطيع اكتشاف الشخص المصاب الذي تظهر عليه أعراض الإنسان “السيكوباتي”، ومن صفاته -كما أسلفنا- تجاهل السلامة العامة، ويحاول أن يؤذي من حوله ويندفع بلا تفكير.
يجب على المصابين بأحد أمراض اضطراب الشخصية، باعتبار “السيكوباتي” أحد أمراض الشخصية المضطربة، الذهاب إلى زيارة الطبيب النفسي بشكل دوري، والعمل على الالتزام بالعلاج الذي يوصي به الطبيب للوقاية من ضعف الأداء. فقد تعوق اضطرابات الشخصية قدرة المصاب على النجاح في دراسته أو أي عمل يقوم به، فتمنعه من أداء الأفضل، كذلك يلجأ العديد من المصابين باضطراب الشخصية إلى إيذاء أنفسهم كوسيلة للتعامل مع مشاعرهم. فالمصاب تتعثر علاقاته الاجتماعية مع الآخرين، كذلك يستعمل الأدوية بطرق غير صحيحة، بالإضافة إلى نفوره عمن حوله، مما يؤدي به إلى الوحدة.
ختامًا، نخلص إلى أن الشخص “السيكوباتي” قد يكون خطيرًا على من حوله، لذا يجب الانتباه عند اكتشاف أي خلل في طبيعة تصرفات من حولنا، والتوجه إلى الطبيب النفسي المختص، فهو الحل الأنسب للخروج من المشكلة، كما يجب الاهتمام بالأطفال وتقديم العناية والحب والاهتمام، لوقايتهم من الوقوع بمثل هذا المرض مستقبلاً.
(*) كاتبة وصحفية سورية.