استوقفني رد الصحابي -الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم برجل من أهل الجنة- على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ عندما سأله كيف استحق هذه الدرجة؟ فأجاب: “ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًّا ولا أَحسُدُ أحدًا على خَيْرٍ أعطاهُ اللهُ إيَّاه” (رواه أحمد)، فما هذه العبادة الثمينة التي تؤهل صاحبها للجنة؟ إنها سلامة القلب من كل ضغينة وكراهية، أو غشّ، أو حسد، أو رياء.. فهي بذلك تدعم فرائض العبادة، وتكسوها بتاج الجائزة، وتكسب صاحبها صفة اليقينية بالله، فيتأهل للفوز بالجنة. ولم لا، وهو يحمل صفات أهلها المبرئين من كل غل وحسد وكراهية: {ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر،47).
ما دعاني للبحث في قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مُضْغةً إذا صَلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلبُ” (رواه البخاري)، هذه المضغة التي لا يزيد حجمها عن قبضة اليد وتزن 250 جرامًا تقريبًا وتُغذي60 تريليون خلية، وتبدأ عملها بعد 21 يومًا من الحمل لتضخ ما يربو عن سبعين ألف لترٍ من الدم خلال مئة ألف انقباضة وانبساطة في اليوم الواحد، ولن أسهب في التفاصيل التشريحية ولا الطبية، لكن سأحاول أن أطوف مع القارئ العزيز حول آفاق إعجاز المولى عز وجل في هذه المُضغة.
استفتِ قلبك
لا ثوابت في العلم، فما ثبتت حجّته اليوم تأتي غدًا الحجة الأقوى لتثبت غيره.. وهكذا، فالاعتقاد السائد أن المخ هو محل التفكير والشعور والإحساس والإيمان والذاكرة، والخوف والجبن والشجاعة إلى غير ذلك، وأن القلب ما هو إلا مضخّة للدم.. قد تتغير هذه الثوابت في المستقبل القريب، ويُعلَن عِلميًّا أن القلبَ سيّدُ أعضاء الجسم، وهو محل التفكير والإدراك والإيمان والمعلومات والذاكرة، إلى غير ذلك من الوظائف التي صرّح بها القرآن الكريم والسنة المُطهرة في مواطن كثيرة.
إن أول ما يُخلق في الجسم البشري هو القلب، ومع تطوّر الجنين وتخليق المخ، يتبادلان الرسائل فيما بينهما هرمونيًّا وكهرومغناطيسيًّا ذهابًا وإيابًا، ويبدأ القلب في إصدار تعليماته للمخّ، ثم ما يلبث أن يرتبط بالمخ بشبكةٍ ضخمةٍ معقّدة من الأعصاب، من خلال قرابة أربعين ألف خلية عصبية في القلب تُشكل ما يعرف بـ”مخ القلب” (The Heart Brain)، الذي يتشكل من خلايا عصبية وبروتينات تعمل بشكل مستقل عن الأعصاب المخية (غير العقدة العصبية الموجودة أعلى الأذين الأيمن)، ولهذا المخ -الموجود بالقلب- القدرة على التعلم والتذكر والشعور والإحساس والخوف والإيمان.. هذه المعلومات وغيرها يرسلها القلب على هيئة إشارات عصبيه إلى المخ (عكس ما اعتقد بعض العلماء أن المخ مُرسِل والقلب مُستقبِل)، تصل هذه الإشارات إلى الجهاز الوجداني في منطقة جذع المخ التي تؤثر فيه من خلال تأثيرها على الأوعية الدموية والغدد الصماء، وبالتالي تتأثر الأعضاء وتستمر الرسائل في رحلتها من القلب حتى يستقر بها الحال في المراكز العليا بالمخ، التي تستجيب من خلال الإحساس وتقدير الإشارات واتخاذ القرار بناءً على الخبرات المعرفية المتاحة لديها، فتقوم بتوجيه خلايا المخ للتفكير ومن ثَم للفهم والاستيعاب، مما حدا ببعض العلماء لدراسة علاقة القلب بالوظائف الإدراكية. ومن هنا فلا غرابة ولا عجب عندما يوجهنا ويرشدنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى بقوله “استفت قلبك”.
وهنا تفرض بعض الأسئلة نفسها.. أِلِلْقلب عقل؟ أهو مركز التفكير؟ ألم يكن العقل أولى بالاستفتاء (استفت عقلك)، ربما ما سبق ذكره يعلل استفتاء القلب لا العقل، بل إن الدراسات التي قام بها معهد “رياضيات القلب” (Heart Math)، أثبتت أن القلب يبث موجات كهرومغناطيسية تؤثر على المخ وتوجه عمله، مما يؤثر على الإدراك والفهم لدى الإنسان، وبقياس النشاط الكهرومغناطيسي للقلب والمخ عند محاولة إدراك أو فهم مسألة ما فإن عملية الإدراك والفهم في المخ تتناسب مع أداء القلب، وكلما كان أداء القلب أمثل كان الإدراك والاستيعاب والفهم أمثل، والعكس صحيح.
فيزيائيًّا، ثبت أن مجال القلب الكهرومغناطيسي يُعد الأقوى، لذا فهو الأقرب للسيطرة على باقي الأعضاء، وبتسجيل هذه الموجات ظهرت في الشكل التالي الذي يمثل فيه المنحنى الأسفل موجات القلب الكهرومغناطيسية والثلاث منحنيات العليا رد فعل المخ كهرومغناطيسيًّا، وبالتدقيق نلاحظ كيف تتأثر ترددات المخ بحالة القلب ودقاته والموجات الناتجة منه، فكلما زادت عدد دقات القلب نتيجة سلامته، زادت الموجات والترددات الناجمة عن المخ وبالتالي تؤثر في كفاءة المخ وأدائه.
تآلف القلوب
إن القلب ليس محل الإدراك أو الفهم والتعقل فحسب، بل مركز العاطفة؛ فكلنا -العامة والمتخصصون- نعلم أن علاقة القلب بالعاطفة لا ريب فيها، والقلب عندئذٍ يوجه المخ لاختيار الأشياء، ما يروق له وما يشتهي، وما يحب وما يكره.. فله القدرة على أن يبعث ذبذبات تمكنه من التفاهم مع القلوب الأخرى، ويحتوي على معلومات يرسلها إلى كل أنحاء الجسم مع كل نبضة من نبضاته وانفعالاته فتزيد حمرة الوجه، ويتصبب الجبين عرقًا، وترتبك تصرفات الشخص فيتلعثم اللسان وتتداخل الكلمات.
وقد أكد ذلك ما توصل إليه علماء معهد “رياضيات القلب” أن المجال الكهربي للقلب أقوى 60 مرة من نظيره للمخ، وأن المجال المغناطيسي للقلب أقوى خمسة آلاف مرة عن نظيره للمخ، مما يجعله قادرًا على التأثير على المحيطين بالشخص وقتما وأينما وجد، أي إن الإنسان يمكنه التواصل مع غيره من خلال قلبه دون أي تعبيرات لفظية. وهذا ما يفسر الراحة التي يشعرها الشخص عند رؤية شخص لأول مرة، بل يتوق للحديث معه، أو النفور من شخص يراه لأول مرة فلا يطيق قربه أو حتى رؤيته، وكذا يفسر الجاذبية Charisma التي يتميز بها الشخص فما هي إلا قوة قلبه التي تبعث موجاتها على الآخرين وتنعكس على سرعة بديهته وتفكيره.
هكذا أخبرنا العلم الحديث، ولكن سبقه حديث رسولنا الكريم الذي رواه البخاري بأكثر من ألفٍ وأربعمائة عام: “الأرواحُ جُنودٌ مجنَّدةٌ فما تَعارفَ منها ائْتلفَ وما تَناكَر مها اخْتلفَ“، ولكنه قال الأرواح وليس القلوب، ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الروح محلها القلب لكنها غير محسوسة، أي ليست مادية لكنها تسكن كل خلية من خلايا الجسم وربما يكون للقلب منها الحظ الأوفر والنصيب الأكبر.
القلب مركز الذاكرة
لم يتخيل أحد أن نقْلَ قلب الشاب “تيم” المتوفى، وزراعته في صدر “كلير سيلفيا” سيغير حياتها ويقلبها رأسًا على عقب، تشتهي الدجاج المقلي وتهوى المصارعة وتبتعد عن رقص الباليه الذي زاولته طوال حياتها، ماذا حدث لها؟ إنها أصبحت تشعر أن بداخلها شابًّا أكثر من فتاة. باختصار تلك صفات الشاب “تيم” التي تم استعادتها مع نبضات القلب الجديد في صدرها، ولم يخطر ببال أحد أن الطفلة المزروع بصدرها قلب الطفل المقتول، سترى الجريمة في أحلامها بالتفصيل وترسم صورة لمرتكب الجريمة مكانًا وزمانًا وكيفيةً، ماذا يحدث؟
إنها ذاكرة القلب.. فعند نقل قلب شخص “واهب” إلى آخر “مستقبل” فبمجرد الاتصال بين الخلايا العصبية بالقلب المنقول بالجهاز العصبي المركزي والمخ للشخص المستقبل عن طريق الألياف والموصلات العصبية تنتقل على الفور المعلومات المخزنة بها عن طريق الطاقة الموجودة بداخل خلايا الجسم التي تحتوي على شفرة معلوماتية خاصة بصاحبها، وما يؤكد ذلك ما ثبت حديثًا، أن جينات الساعة البيولوجية تحتل خلايا الجسم ولا تتركز فقط في النواة فوق التصالبية.
والأكثر من ذلك أن بالقلب مركزًا مُختصًّا بالذاكرة تتركز خلاياه في الغشاء الرقيق المبطن للقلب (Peritonitis)، وخلايا ذاكرة القلب تفوق خلايا الذاكرة في المخ عددًا وحجمًا. والغريب أن القرآن الكريم يخبرنا بذلك؛ فالآية الكريمة 197في سورة الحج، تصف ذوي القلوب عديمة الفقه والتدبر من الإنس والجن بأنهم هم الغافلون، وهي إشارة واضحة لوظيفتين هامتين غير مألوفتين للقلب، وهما التفقه (أي الفهم والإدراك) والتذكرة، وهما مرتبطتان ببعضهما، فغياب إحداهما ينفي وجود الأخرى.
ثَبِّتْ قلوبنا على دينك
ألم يكن من الأجدر أن يكون دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم “ثبت عقولنا على دينك“، فالعقول محل التفكير والاختيار واليقين؟ فلماذا اختص القلب؟ إن القلب محل الإيمان واليقين بالله، وتتجلى هذه الحقيقة عندما يتبدل حال رجل من الإيمان للإلحاد بعد زرع قلب شاب ملحد بين ضلوعه، نوقن أن القلب محل الإيمان واليقين بالله. بل عندما تتحول سيدة شاذة إلى طبيعية تحب الخيرات وتستنكر الآثام والموبقات بعد زراعة قلب فتاة مؤمنة لها، نتيقن أنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ومما سبق أود الإشارة إلى ملمحين، الأول شهادة أعضاء المرء عليه يوم القيامة:{وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُو خَلَقَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (فصلت،21)، أي أن الأعضاء تمتلك ذاكرة خاصة بها تسجل كل ما يحيط بها وتقترفه خيرًا أو غير ذلك، فهي في الدنيا مسخَّرة لصاحبها لا حول لها ولا قوة، ولكن في الآخرة لا سلطان عليها إلا لخالقها ولا تأتمر إلا بأمر الله، وحينها تنطق بما سجلت في ذاكرتها الخاصة. ولقد ثبت أن الذاكرة لا تُخزن فقط في المخ، ولكن في خلايا الأعضاء الداخلية مثل القلب وعلى أسطح جلودنا (Pert, Candace ,2002).
والملمح الثاني خاص بنقل الأعضاء، فها هي تتغير صفات الشخص وطباعه ومعتقداته وإيمانه وأفكاره وذاكرته، بل وآماله وطموحه وأحلامه بعد زرع عضو شخص آخر بداخله مثل القلب (وفق الدراسة المذكورة آنفًا). ونحن بذلك نشارك في طمس هوية إنسان ونستبدله بآخر وكأننا ننهي حياة المتلقي الفكرية والنفسية والإدراكية والإيمانية والشعورية، ونحيي الشخص المانح فكريًّا وإيمانيًّا وإدراكيًّا ونفسيًّا، لكن في وعاء المتلقي وهيئته الخارجية المورفولوجية والشكلية.
أخيرًا، فذكْر الله هو السبيل لإصلاح فساد القلوب وتنقيتها والسمو بها لمراتب الملائكة، والذكر يكون بالالتزام بأوامر الله وتجنب معاصيه، والتقرب إلى الله بالصدقات، وملء القلب بقرآن خالقه، وترطيب اللسان بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، فيصبح القلب مطمئنًّا سليمًا مما ينعكس على سلامة بقية أعضاء الجسم.
(*) أستاذ علوم الأعذية / مصر.
المراجع
(1) Pert, Candace, 2002: Wh do we feel the wa we feel? The Seer. 3 Dec.
(2) Pal Pearsall, The Heart’s Code: Tapping the Wisdom and Power of Or Heart Energ, New ork, Broadwa Books, 1998.
(3) Linda Marks, The Power of the Sol-Centered Relationship, Heart Power Press, 2004
(4) Does or heart sense or emotional state? www.msnbc.msn.com, Jan.