وَلَقَدْ وَدِدْنا مِنْكَ طولَ إِقامَةٍ

حفني بك ناصف:

محمدُ الحِفْني بنُ محمد إسماعيل خليل ناصف، ولد يوم الجمعة السادسَ عشرَ من ديسمبر عام خمسةٍ وخمسينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1855م) ببِرْكِةِ الحَجِّ، من أعلام القليوبية، تُوفِّي والدُهُ وهو ما زال جنينًا في بطنِ أُمِّه، فكَفَّلَه خالُه وجَدَّتُه لأبِيه.

التحق بكتَّابِ القرية؛ لحفظِ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وأعاد حفظَ القرآنِ الكريم وهو في الثالثةَ عشرةَ من عُمُرِه، والتحقَ بالأزهرِ لتحصيلِ العلمِ، وظلَّ به من عامِ تسعةٍ وستينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1869م) حتى عامِ تسعةٍ وسبعينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1879م) حيث التحقَ فيها بمدرسة دار العلوم، ثم تخرج فيها عامَ اثنينِ وثمانينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1882م)، وكان ترتيبُه الأولَ في جميعِ مراحلِ الدراسةِ، وقد أشرَكَهُ الإمامُ محمدُ عبده في تحريرِ جريدةِ “الوقائعِ المصريةِ” عامَ ثَمانينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1880م) وهو ما زالَ بعدُ طالبًا بدار العلوم.

عَمِلَ فورَ تخرُّجِه مُدَرِّسًا بمدرسةِ المكفوفين والبكم، وفي عامِ خمسةٍ وثمانينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1885م) دَبَّرَ له شفيق بك منصور عملًا سكرتيرًا لَهُ، وكان يعملُ حينذاك بالقانونِ، فَشِغَلَ حِفني ناصف ما يُشبه وظيفةَ النائبِ العام في عصرنا، ومن ثم اتصلَ بالقانون، فأشرفَ على الترجمةِ القانونيةِ والقضائيةِ، وقام بتنسيقها.

ارتحلَ إلى أوروبا عدةَ مراتٍ، واتصلتْ أسبابُ المعاوَنَةِ والمودةِ بينه وبين المستشرقينَ، حتى اختاروه عضوًا في مؤتمرِ المستشرقينَ في فيينا عاصمةِ النِّمسا، وقعَ الاختيارُ عليه لتدريبِ مادةِ الإنشاءِ القضائي والمنطقِ والبلاغةِ وآدابِ المُناظرةِ بمدرسةِ الحقوقِ التاريخيةِ من عام سبعةٍ وثمانينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1887م) حتى عامِ اثنينِ وتسعينَ وثمانِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1892م) حيثُ دخلَ امتحانَ مسابقةٍ في الموادِّ القانونيةِ لشَغْلِ وظائفَ قضائيةٍ، فنجحَ بتفوُّقٍ وامتيازٍ، وعُيِّنَ قاضِيًا، وتنقَّلَ في عدَّةِ أقاليمَ بينَ القاهرةِ وقنا وطنطا.

تَرَأَّسَ الجامعةَ الأهليةَ عامَ ثمانيةٍ وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1908م) عند تأسيسِها، وكان من أوائل المُدرِّسين بها، كما شاركَ في إنشاءِ «المَجمعِ اللغويِّ الأولِ».

خرجَ من القضاءِ وهو في وظيفةِ «وكيلِ محكمةِ طنطا الكُلِّيَّة» عامَ اثْنَيْ عشرَ وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1912م)، فعَمِلَ كبيرًا لمفتِّشي اللغةِ العربيةِ بوزارة المعارف، وظَلَّ بها حتى أُحيلَ إلى المعاشِ في الخامسِ والعشرينَ من فبراير عامَ خمسَةَ عشرَ وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1915م)، ثم تُوُفِّيَ يومَ الثلاثاءِ الرابعَ والعشرينَ من جُمادَى الأُولَى سنةَ سبعٍ وثلاثينَ وثلاثِمئةٍ وألفٍ للهجرة (1337هـ)، المُوافِقَ الخامسَ والعشرينَ من فِبراير سنةَ تسعَ عشرةَ وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلاد (1919م).

(1) قال من البحر الطويل:

تَهَلَّلْتَ يا شهرَ الصيامِ لنا بِشْرًا  وَأَطْلَعْتَ بَدْرًا حينَ أَتْمَمْتَها عَثْرا
قَرَنْتَ سُعادًا بالسَّعودِ لِأَحْمَدٍ  وَجِئْتَ مِنَ الإيناسِ بالآيةِ الكُبْرى
سَرى في طَريقِ العيدِ؛ حَتَّى بدا لَنا   بِعَصْرِ مَسَرَّاتٍ، فَسُبْحانَ مَنْ أَسْرى
فَلا غَرْوَ أَنْ نادى الزَّمانُ مُؤَرِّخًا  سُعادٌ، بَدَتْ في يَوْمِ مَوْلِدِهِ البُشْرَى

(2) وقال من الكامل:

شهرَ الصيامِ، لَقَدْ كَرُمْتَ نَزيلا  وَنَوَيْتَ مِنْ بعدِ المُقامِ رَحيلا
لَمْ تَسْتَتِمَّ بِمُلْتَقاكَ مَسَرَّةٌ   حَتَّى اتَّخَذْتَ إِلى الفِراقِ سَبيلا
وَلَقَدْ وَدِدْنا مِنْكَ طولَ إِقامَةٍ   فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ قَلِيلا
وافَيْتَ، لكنْ ما رَضِيتَ إِقامَةً   وَوَفَيْتَ، لكنْ ما شَفَيْتَ غَلِيلا
وَدَّعْتَنا، فكأنَّما أَوْدَعْتَنا  عندَ النَّوى؛ وَجْدًا عليكَ، طَويلا
وتركْتَنا نَبْكي عليكَ أَسًى، وَلَمْ   تَتْرُكْ لنا صَبْرًا عليكَ جَميلا
كانَتْ لَيالِيكَ الصِّباحُ مَواسِمًا  للخيرِ، تَفْضُلُ غيرَها تَفْضِيلا
كانتْ بها سُنَنُ القِيامِ مُقامَةً  وَبِها الكتابُ مُرَتَّلًا تَرْتِيلا
فَاليَومَ تُشْرِقُ بالدموعِ عُيُونُنا  لمَّا رَأَتْ مِنْ بَدْرِهِنَّ أُفُولا
وَأَخُصُّ مِن بينِ الليالِي ليلةً  فيها المُهَيْمِنُ أَنْزَلَ التَّنْزِيلا
هي ليلةُ القَدْرِ التي مَنْ قامَها  في جَنَّةِ المَأْوى اسْتَحَقَّ دُخُولا
تَمْشِي المَلائِكَةُ الكِرامُ، وَهُمْ بِها  مُتَرَدِّدونَ، تَصاعُدًا وَنُزُولا