تقريب المسافات بين الآباء والأبناء

أدى الانفتاح الواسع للمجتمعات العربية المحافظة على مظاهر الحضارة الغربية وتطور الحياة الإنسانية بصفة عامة إلى حدوث فجوة واسعة كبيرة بين اعتقادات الآباء الراسخة وبين مفاهيم وتطلعات الأبناء المستحدثة المندفعة بعنفوان الشباب لتغيير واقعهم والبحث عن الجديد لتبديل أسلوب حياتهم، وهنا يبرز السؤال كيف يضيق الآباء الفجوة لتقريب المسافات بينهم وبين أبنائهم؟

هناك محطات فارقة في حياة الأمم والمجتمعات ليست بجديدة ولكنها متجددة، وهي قد تكون أشد حدة في مراحل التحول الاقتصادي الذي يلقي عادة بالظلال الثقيلة من القيم المستحدثة على الوضع الاجتماعي وعلى العلاقات الإنسانية وكثيرًا ما كانت تبدو عميقة التأثير في طبيعة العلاقة بين الآباء وأبنائهم، وحاسمة في تحديد الخيارات الوطنية حيث يؤدي فيها الوعي المجتمعي دورًا هامًّا في تجسيدها واقعًا حقيقيًّا، ويتشكل هذا الوعي من طرفي نقيض تمسك الآباء من جهة بما ألفوه وعاشوا به وورثوه، وتمسك الأبناء من جهة أخرى بما يعيشون فيه بعد العولمة من أفكار وقيم أجنبية غريبة عن القيم الأصيلة لبلدهم يرونها أفضل وتستحق أن يقتدى بها، ويدعون إلى التخلي عن الموروث من فكر وثقافة وفنون، الأبناء لا يطيقون التكيف مع واقعهم المعاش، وهم بذلك يخذلون أهلهم ووطنهم بتخليهم عن دورهم المنتظر بالمشاركة في جهود تطور المجتمع وبناء الأمة، إنهم بذلك يلتزمون جانب العزلة ويكره منهم الآباء هذا التهاون فينشأ بذلك الاختلاف ويشب الخلاف بين الأجيال.

ومن جانب الآباء يجب الاعتراف بأن قدرة الآباء في ملاحقة كل جديد في عالم التكنولوجيات الحديثة محدودة، ومن أجل تخفيف حدة هذه المشكلة سيكون من الضروري فتح المجال واسعًا للحوار والنقاش لتبادل المعارف العامة والتقنية من أجل خلق التواصل الفكري بين الآباء والأبناء الشباب الذين تتزايد مطالبهم وتتنوع وهي في الحقيقة في معظمها متنفس هام لتفعيل الطاقات الشبابية وانعكاسًا لطبيعة التفكير الجديد للعقول الصغيرة المتطلعة دومًا للتجديد والشغوفة بشدة للتقدم، والمشكلة أن بعض الشباب المراهق تغلب عليه حماسته واندفاعه فيصعب عليه تحديد اتجاهه في الحياة ولا يتقن أسلوب توصيف مطالبه، ولا يجيد آداب الحديث، فيقع في زلات لفظية بعيدة عن الجدية المطلوبة في الحديث ولا تتفق مع الموضوعية، ويرتكب أخطاء سلوكية تبعده عن جادة الصواب، وعليه لا يستوعب الآباء بسهولة نمط تفكير أبنائهم ولن يكون يسيرًا عليهم تحديد حقيقة آمالهم في المستقبل، وينعكس أثر هذا في أن جزءًا كبيرًا من مشكلة التعليم يكمن في عدم فهم حاجات الأبناء وتطلعاتهم، وعدم الفهم هذا يعفي عقولهم عن العمل، بل ويمنحها استراحة من التفكير والإبداع فيلجؤون إلى اتباع العنف ضد الأشياء والكائنات الأليفة والضعيفة. الضرورة تفرض على الآباء بذل الجهود لعدم بقاء أو اتساع الفراغ العاطفي والفكري عند الشاب، وملء هذا الفراغ لتجنيبه الوقوع في فخ الانحراف والانجرار إلى دائرة أصدقاء السوء، ولا يتحقق توجيه الشاب نحو سبل الخير ودروب النجاح سوى بإحاطته بمظاهر المحبة واحتوائه بمشاعر الألفة والاحترام والتعامل معه في أجواء هادئة من أجل ضمان إتاحة الفرصة لعمل حوار دائم وراقي.للتربية الصحيحة بمناهج ينبغي الانتباه لها ولضرورة تفعيلها وعلى رأسها إعطاء الأسرة والمدرسة المثل الأعلى والقدوة الحسنة فهي عماد التربية، فالثابت أن الأبناء يتعلمون بالقدوة الحسنة أكثر مما يتعلمون بالدروس الشفهية والنصح والكلام، وإذا كانت الأسرة هي المعين الأول وستظل الإطار الرئيسي الذي فيه تتبلور نفسية الطفل وتتشكل شخصيته وتتحدد معايير فهمه لحقائق الحياة وطبيعة البيئة حوله، فإنها هي بالذات التي ستغرس فيه أصول التربية السليمة والقيم الدينية والمبادئ الأخلاقية، وهنا تكمن الخطورة عندما لا تتوافق أفعال الوالدين مع أقوالهم فعندما يجد الطفل تناقضًا بين سلوك والديه وبين ما يقال له سيصاب باضطراب عقلي وتمزق نفسي وقد يفقد بعدها القدرة على التمييز بحق بين ما هو صحيح وما هو خطأ، وبديهي القول إن عملية تعليم السلوكيات السليمة وإكساب الأخلاق الحميدة هي في صلب رسالة التربية والتعليم بالمدارس كذلك حيث تتم تنميتها من خلال محتوى المناهج الدراسية لتكريس قيم التضحية والعطاء والبر والأمانة وتعليم الدين وتاريخ الأجداد ومقاييس الحياة العامة، وكذلك الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام التي بإمكانها أن تدعم هذه الجهود ونشرها على نطاق واسع وأن تبلغ الرسالة لكل شرائح المجتمع بأسلوب إعلامي مميز وبشكل عميق ومؤثر.

ما يجب على الآباء تجاه الأبناء

من أحب المظاهر الإيجابية في سلوك الآباء تجاه أبنائهم الثناء عليهم لتقوية ثقتهم في أنفسهم ولتنمية الدافع الذاتي لديهم ليكونوا فاعلين في محيطهم لتحقيق المكسب والفائدة لأنفسهم أولاً على الأقل، ثم خلق الحافز المناسب لهم ووفق مستواهم وهو أهم ما يجب التركيز عليه في التعامل مع الأبناء من أجل إجادة تفعيل مهاراتهم وحسن استغلال مواهبهم، فالنضج النفسي والبيولوجي للطفل المرافق للألفة والحب والمهارات المؤديان بالتالي إلى خلق الدافعية كلها عناصر حيوية هامة في تشكيل محيط صحي لنمو الطفل وبيئة سليمة لحسن تربيته، وهي أيضًا عوامل هامة لضمان تمتعه بالإيجابية في الحياة، وإنها بحق وسائل تشجيع تمنح الطفل اطمئنانًا لسلامة العلاقة مع الوالدين الخالية من مظاهر تسلط الآباء والتي تفتح الآفاق للتعامل الواعي من خلال الفهم الصحيح لآلية هذه العلاقة في أبعادها الاجتماعية والثقافية وترسخ القناعة بأهمية الحوار الناضج من أجل تقريب نظرتهما المشتركة إلى الحياة.

الإنسان بطبعه يميل إلى التواصل مع الآخرين في الحي والمدرسة والنادي.. وهو بطبعه يحتاج نفسيًّا واجتماعيًّا إلى أصدقاء، والشعور بالصداقة هي أساس الانتماء للجماعة، ويعتبر عدم أو قلة إقبال الطفل على تكوين الأصدقاء معيقًا لاستكمال نموه الشخصي ويفقدهم ذلك التوازن النفسي والتوافق مع من حولهم لأن علاقات الصداقة تنطوي على تقارب معنوي حميد يكسب الشباب سلوكيات اجتماعية وثقة بالنفس يؤهل كل شاب للقيام بالدور الاجتماعي الفعّال المنتظر منه على مستوى أسرته ومجتمعه، لذلك يبرز دور الأسرة الحيوي في تربية أبنائها على حب الاندماج وتدريبهم على مقاييس ومهارات اختيار الأصدقاء وتوعيتهم بأسس الصداقة المبنية على الدين والأخلاق والفضيلة والعلم. واختلاف المفاهيم والنظرة إلى الحياة بين الأجيال تمثل فجوة أزلية كانت وستظل قائمة بكل تعقيداتها بحجم اختلاف الزمان وتباين نمط المعيشة وتطور أدوات ووسائل الحياة وأساليب التفكير، لذلك تختلف النظرة للحياة من منظور العقلية التي تشكلت لدى كل فرد، ولكن الحقيقة المؤكدة تنبع من المعادلة أن التربية الأخلاقية + إشباع الفراغ العاطفي + التوجيه السليم والثقة+ لبنة صالحة = تنشئة صالحة للمجتمع.