تظل الكرامة من القضايا الجدلية في تاريخ التصوف، سواء بالمغرب أو بغيره من بلاد العالم الإسلامي، التي عرفت هذه الظاهرة ذات الأبعاد والدلالات المعقدة والغامضة، التي أثارت لغطًا بين الباحثين والمهتمين فانقسموا بين مصدق ومنكر. ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف، فلن ننساق وراءه لعدم جدواه في الدراسة الأكاديمية الرصينة، إذ ما يهمنا من الكرامة أنها بنية من البنيات اللاواعية للمجتمع، التي تسعف في فهم وتحليل حركة التاريخ وتحولاته وأحداثه ووقائعه، وذلك دون الانشغال أو إهدار الوقت أو البحث في مسألة الإقرار بصدقها أو السعي وراء تكذيبها.
1- الكرامة الحسية
الكرامة في الأدبيات الصوفية، هي كل بعد خارق للعادة ظهر على يد عبد ظاهر الصلاح في دينه، متمسك بطاعة الله في أحواله غير مقرون بدعوى النبوة. وقد توحد معظم المتصوفة -إن لم نقل جميعهم- في تبنّيهم واستعمالهم الكرامة، وتحديدًا الحسية منها، وأسسوها على القاعدة المعروفة لدى الصوفية أنه: “ما كان للأنبياء من معجزات، جاز أن يكون للأولياء كرامات”. وإذا كنا سنتناول قضية الكرامة من حيث أدوارها وخلفياتها العميقة لاحقًا، فإننا سنكتفي هنا بتقديم أهم وأشهر أشكال الكرامة الحسية التي عرفها تاريخ المغرب:
كرامة المشي على الماء: اشتهر بها الأمغاريون برباط تيط، وبخاصة الشيخ أبو عبد الله محمد أمغار (المتوفى سنة 537هـ).
كرامة تصيير الأشياء إلى فضة وذهب: اشتهر بها الولي أبو حفص عمر الدغوغي.
كرامة التحكم في الحيوانات: عُرف بها -مثلاً- أبو الحسن علي بن حرزهم، وأبو مدين الغوث.
كرامة الدعاء: من بين من عرف بها أبو الفضل يوسف بن النحوي، وأبو جبل يعلى، وأبو زكريا بن موسى المليجي، وأبو شعيب أيوب السارية، وأبو داود مزاحم.
كرامة المكاشفة: من بين من اشتهر بها أبو يعزى، وأبو محمد عبد الله المليجي، وأبو جبل يعلى، ومركاب بن عيسى البلندي.
كرامة طي الزمان والمكان: عُرف بها -مثلاً- أبو شعيب السارية، وأبو عبد العزيز الركوني.
كرامة الطيران في الهواء: اشتهر بها -مثلاً- أبو المهدي الدغوغي.
2- الكرامة أدوارها وخلفياتها
بغض النظر عن المواقف المختلفة والمتضاربة من صِدقية الكرامة أو عدمها، فهي بنية أساسية في الفكر البشري، وهي كالبنية العقلانية مرتبطة بنمط مجتمعي وبأسلوب معيشي في الوجود، وهي ممارسة لمعتقد ديني وتأكيد لهذا المعتقد. وقد كانت الكرامة تعرف نشاطًا متزايدًا إبان الفترة الأخيرة من عصر كل دولة بالمغرب؛ أي فترة القلاقل والفوضى السياسية والأمنية والأزمة الأخلاقية والدينية والاقتصادية، حيث ركز عليها المتصوفة لتوجيه انتقاداتهم وبناء مشروعهم المجتمعي الإصلاحي. ويفسر نزوعهم إلى هذا الأسلوب (أسلوب الكرامة) بالأسباب التالية:
– إن الكرامة هي أكثر الطرق التواء وتمويهًا وتسترًا لتوجيه النقد والتعبير عن المواقف، دون الخوف من التعرض لاضطهاد مباشر.
– إنها أكثر الأساليب نزوعًا إلى السلم.
– إن الكرامة، بما لها من ارتباط وثيق بالدين وارتكازها على نصوص مقدسة، حتمت على السلطة السياسية الحاكمة احترامها ولو على مضض، ناهيك عن الاحترام العميق الذي يكنه لها العامة.
أدوار الكرامة
- الكرامة باعتبارها تعبيرًا عن انخراط المتصوفة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية: لعبت الكرامة الحسية دورًا مفصليًّا بالنسبة للمتصوفة في التعاطي مع مجموعة من المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي كان يعاني منها المجتمع كالفقر والمجاعات واجتياح الجراد والتعليم والأمراض والاستسقاء خلال السنوات العجاف.. فأبو يعزى كان مستغاثًا به في الجفاف، حيث يذكر صاحب “التشوف” أن أهل فاس قصدوه لطلب المطر، فأخذ في البكاء والتضرع إلى أن غيمت السماء وهملت بالأمطار. وهو الذي كان يأكل رغيفًا واحدًا في اليوم، ويتصدق بالآخر على رجل معتكف بالمسجد، وبعد اعتكاف رجل ثان نجد أبا يعزى يعطيه الرغيف الثاني، فصار يأكل مما تنبته الأرض. كما كان يكرم وفادة ضيوفه ويطعمهم العسل ولحم الضأن والدجاج.
أما دور المتصوفة في مجال التعليم، فلا نجد خيرًا من مثال الأمغاريين الذين فتحوا رباطهم بتيط لتدريس القراءات وإعراب القرآن والموطأ والمدونة، فضلاً عن الوعظ الديني والتربية الصوفية بطبيعة الحال. وفي سياق آخر، كان أبو يعزى يعالج الأمراض المستعصية كالحمى والصرع، كما كان أبو جبل يعلى يعالج القروح.
- إن انخراط المتصوفة في معالجة هذه القضايا والمشاكل وغيرها، استقطب العامة حولهم وأكسبهم هيبة خاصة، فأضحى لأهل التصوف سلطة خشيت منها أطراف أخرى، وتحديدًا السلطتين السياسية والدينية.
- الكرامة باعتبارها تعبيرًا عن انخراط المتصوفة في القضايا السياسية: لا شك أن المتصوفة وظفوا كرامتهم للتدخل في سياسة السلطة الحاكمة الأمنية والعسكرية والجبائية لصالح العامة، بغية ضمان نوع من السلام الاجتماعي. ومن ذلك أنه يروى عن الولي أبي ينور عبد الله بن وكريس الدكالي، أن أحد أشياخ مشنْزاية اشتكى إليه من تهديد أحد عمال الدولة المرابطية، وتوعده بالقتل والصلب، فقال له أبو ينور: رده الله عنك، فسار إلى أن بقي بينه وبين قرية “يليسكاون” نصف ميل، فأصاب العامل وجع قضى عليه من حينه بالموت.
وفي السياق ذاته، كان والي مدينة أزمور المرابطي قد همّ بقتل عدد من أهالي ولايته، فتشفع لهم أبو شعيب السارية فلم يقبل شفاعته، فدعا عليه حتى أصابته أوجاع، قيل للعامل المتشفع ولي من الأولياء فالتمس حضوره مجددًا، وشفع في السجناء فارتفع عنه الألم. كما استخدم المتصوفة كراماتهم لانتقاد السياسة الجبائية المجحفة، التي أثقلت كاهل الرعية.
الخلفيات البعيدة للكرامة
لقد شكلت الكرامة لدى متصوفة العصر الوسيط أكثر من بعد خارق يضطلع بدور ما، أو يعالج مشكلة اجتماعية أو اقتصادية هنا أو هناك، بل هي رسالة تستبطن دلالات وأبعادًا موغلة في التعقيد والتورية، على أنه لا يستقيم -دومًا- تخريج الرسائل الضمنية لمختلف الكرامات نظرًا للسبب المذكور آنفًا، ألا وهو تعقيدها. غير أن إعمال الفحص والتمحيص والتأويل، يسعف إلى فك رموز بعض الكرامات؛ فقد أورد ابن الزيات -مثلاً- رواية جاء: “قال إسماعيل: حدثني يخلف بن تادكو الهسكوري المعلم بمسجد الأحسن، قال: مر بي عبد الخالق، فقال لي: عزمت على زيارة ابن أبي عبد الله فاذهب معي إليه. فلما وصلنا إليه نزلنا عنده وكانت عادته ألا يبيت مع أضيافه، فإذا أحضر لهم ما يحتاجون، تركهم في مكانهم وانصرف عنهم. فلما كان وقت السحر، جاء أبو عبد الله إلى البيت الذي بتنا فيه، فقال لعبد الخالق: اذهب بنا لنتوضأ من البحر، فذهبا فتتبعتهما إلى أن وصلا إلى البحر، فدخلا فيه وهما يمشيان على الماء، فأردت أن أتبعهما فغلبني الماء فوقفت، فالتفت إلي عبد الخالق، فقال لي ارجع واجلس على الشط حتى نرجع. فقال له أبو عبد الله: مع من تتكلم؟ فقال له: تبعنا يخلف فأمرته أن يرجع وينتظر حتى نرجع. فقال له أبو عبد الله: وهل تبعنا إلا لينال من بركتنا، فقال لي: يا يخلف تعال. فتبعتهما أمشي معهما على الماء إلى أن وصلنا جزيرة في البحر، فدخلنا فيها إلى أن وجدنا عينًا من الماء فتوضأنا منها. فقال أبو عبد الله: هذه العين هي عين الفطر ورثتها عن أبي عن جدي، وأرجو أن تورث عني”.
وهكذا يمكن أن نستخلص من حكاية أبي عبد الله محمد أمغار، وعبد الخالق بن ياسين الدغوغي (المتوفى عام 571هـ)، مع يخلف الهسكوري، انفتاح أهل التصوف على المجتمع ورغبتهم في قيادته، للرقي به إلى درجة الكمال الروحي والصفاء الذهني. كما يمكن أن نستنتج من حكاية أبي عبد الله المذكور مع وزجيج المؤذن، رغبة المتصوفة في تصفية المجتمع من أدرانه وأوساخه، كما يصفون البحر من أملاحه وشوائبه.
ويستفاد من كرامات المكاشفة، كتلك المتعلقة بالولي أبي محمد عبد الله المليجي الرجراجي (المتوفى على الأرجح عام 539هـ) الذي جاءه رجل بتينٍ حلال مختلط بتين حرامٍ، ودفع جميعه لأبي محمد، فأكل الذي كان حلالاً وترك الحرام، وأمر أن يشتري له كساءً منسوجًا من صوف الحلال، فاشترى له بعد التحري والاجتهاد، فرده، فسئلت المرأة التي صنعته، فقالت: عملته من صوف كبش لي من ماشيتي، إلا أنه أعوزني شيء من الصوف فطلبته من جارة لي، فكمَّلت به الكساء. يُستفاد من هذا، دعوة المتصوفة إلى بناء مجتمع طاهر متنزه عن الغش والتدليس، وغير ذلك من الآفات الاجتماعية.
ومن نماذج كرامات معاشرة الحيوانات وتكليم المتصوفة إياها، ما جرى بين أبي سهل القرشي وجملٍ عند عودة الأول من المشرق على قدميه وعلى عاتقه مخلاته التي جعل فيها كتبه؛ فمشى يومًا إلى أن كلمه جمل بإزائه، فقال له: يا أبا سهل اجعل مخلاتك علي لتستريح من حملها. يستشف من هذا المثال، أن المجتمع الذي كان ينشده المتصوفة، مجتمع يتعايش فيه الإنسان مع الحيوان والنبات في جو آمن يخلو من الاستغلال والعدوان. وقس على ذلك أمثلة أخرى، كتعايش أبي يعزى مع الحيوانات الأليفة والمفترسة، وصداقة ابن حرزهم مع الأسد، وغير ذلك.
3– إلى أي حد مثلت كرامة المتصوفة مشروع تغيير؟
من خلال التمعُّن في الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للكرامة، ومن خلال الوقوف على بعض من خلفياتها، يمكن أن نستخلص أن البديل الذي قدمته الكرامة الصوفية، لم يعْدُ أن يكون بديلاً ترقيعيًّا وفرديًّا، إضافة إلى إقصائها لدور الإنسان والعقل ودورهما في التغيير وتجاوز الأزمات، مقابل تواكلها على القوى الغيبية في حل المشاكل والمعضلات المطروحة، أضف إلى ذلك التواءها وعدم مصارحة أولي الأمر من سلاطين وأمراء بمسؤوليتهم عن الأزمة وعن الحل وقصر هذه المسؤولية على أفراد بعينهم، من خلال معاقبة هذا الوالي أو ذاك.. زد على ذلك إغراق الكرامة في المثالية والطوبوية، حيث نشدت مجتمعًا طاهرًا تمامًا، وهو ما لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع.
خاتمة
نخلص في الأخير، إلى أن الكرامة الصوفية احتلت أهمية جوهرية للباحث، من أجل فهم البدائل التي طرحتها المتصوفة وطبيعة هذه البدائل، إضافة إلى تعرف طبيعة العلاقة بين هذه الفئة والسلطتين السياسية والدينية خلال العصر الوسيط، إضافة إلى أن موضوع الكرامة ما زال موضوعًا بكرًا يحتاج لأكثر من دراسة تاريخية وسيميولوجية وسيكولوجية، وذلك نظرًا لغموضه وتعقيده وخلفياته العميقة والمبهمة. وإن إفراز المجتمع المغربي للتصوف، وفي القلب منه ظاهرة الكرامة لَيدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: إلى أي حد يمكن اعتبار بلورة المجتمع المغربي للتصوف والكرامة كبديل ومشروع تغيير، دليلاً على تخلف هذا المجتمع ويأسه من حل أزماته، فاتّكل على قوى ما ورائية في تناول ومعالجة معضلاته؟ قد تختلف الإجابة حسب زاوية التحليل التي ننطلق منها، وهكذا يمكن الوقوف على التصورين التاليين:
– المتصوفة قوة إنقاذ ملأت لحظات الفراغ السياسي، وحضرت أثناء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي عرفها المغرب خلال فترات متعددة، فساهموا في الدفاع عن البلاد، وحافظوا على التوازن والعدالة الاجتماعية، وعالجوا العديد من مشاكل المجتمع الاقتصادية.
– المتصوفة فئة اجتماعية منعت من تحقيق تغييرات عميقة في المجتمع المغربي، من خلال تعطيل دور العقل والعلم في التعامل مع الأزمات والمعضلات البنيوية التي عانى منها هذا المجتمع طيلة قرون.
(*) كاتبة وباحثة مغربية.