مفهوم الائتمان أفقًا لتزكية الإنسان وبناء العمران

بداية نستحضر الحدث العجيب الذي عرض فيه الخالق جل جلاله الأمانة على جميع مخلوقاته، فأبت حملها؛ حيها وجامدها، لكن الإنسان اختار حملها دون إدراك ثقلها وتبعاتها، وبذلك قبِل التكليف الوجودي بحفظها، ثم قبِل الأوامر التكليفية الثقيلة في العالم المرئي، بعدما قبِل التكليف الشهودي يوم العرض في العالم الغيبي، مختارًا بذلك تحمل هذه المسؤولية، دون باقي المخلوقات التي اختارت صرف هذا العرض، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب :72).

إن هذا الحدث المحفوظ في فطرة الإنسان يتكون من عنصرين اثنين هما: “الاختيار الأول” و”تحمل الأمانة”، وهذا ما يجعل الإنسان يتمتع بحرية الاختيار منذ وجوده في العالم الغيبي، ويُرجع العمل التعبدي والعمل التدبيري في العالم المرئي إلى أصل واحد هو الائتمان الإلهي”[1]. فحرية الاختيار مبدأ عام ينضبط به كل فعلِ تدبيرٍ تعبدي يأتيه الإنسان، قبولاً وتنفيذًا ويتفرع عنها معنيين أساسيين لازمين، وهما “الخيرية” و”المسؤولية”، فكما أن الاختيار يستلزم الخير باعتباره شرطًا ضروريًّا لتحمل الأمانة، “فكذلك يستلزم تحصيل الشعور بالمسؤولية؛ ولا يخفى أن شعور المتدين بالمسؤولية هو أن يعلم أن اختياره تترتب عليه عواقب مخصوصة، مُبديًا كامل استعداده لتحملها”[2]، وانطلاقًا من هذا الأساس يتضح أن مبدأ الاختيار أصل غيبي يستلزم الخيرية والأمانة، التي تفيد أن الإنسان تحمل حفظ الأحكام الإلهية، لا في ظاهرها كأوامر فحسب، بل أيضًا في باطنها كشواهد، سعيًا لتوسيع دائرة استخلافه في عالم الائتمان.

بما أن الائتمانية تأخذ بمبدأ الاختيار الذي تبنى عليه وحدة التدبير التعبدي، باعتباره أصلاً غيبيًّا، وأنه يستلزم المسؤولية والخيرية؛ فإنها توسع الوجود الإنساني انطلاقًا من مفهوم الأمانة المنصوص عليه في القرآن المجيد والسنة النبوية، حيث يتضمن معنيين أساسيين يشكلان ركنين أساسيين للنسبة الائتمانية، وهما: “الإيداع الرعائي” و”الاتصال الروحي”.

الركن الأول: الإيداع الرعائي

إن “الائتمان عبارة عن إيداع رعاية، بحيث يكون كل ما خلق الله، جل جلاله، من أجل الإنسان هو عبارة عن ودائع أودعها إياه، يتملكها كيف يشاء، ويتحقق بها كيف يشاء، شريطة أن يصون حقوقها”[3]، ولا بد من التفريق بين نوعين من الإيداع: ” إيداع صيانة” و”إيداع رعاية”؛ “أما إيداع الصيانة، فحقُّه أن يحفظ المودَعُ لديه الشيءَ على حاله التي أُودِع عليها إلا أن يتعرض للضرر، فحينها يعمل، بقدر الطاقة، على دفع هذا الضرر، حتى يسترده المودِع من أجل أن تُحدده الحاجة إليه أو يحدده وجود الأمن؛ وبين أن دفع الضرر هذا لا يُعدّ تصرفًا في الوديعة، وإنما صيانة لها؛ وأما إيداع الرعاية، فواجبه أن يحفظ المودَع لديه ما أودع من حيث الحقوق التي يقتضيها، فيؤديها كما ينبغي، على أن هذه المحافظة على الحقوق لا تمنع التصرف في الوديعة بما يجلب للمودَع لديه المصلحة ويدفع عنه المضرة”، ومن هنا يمكن القول إن الائتمان هو إيداع رعاية لا إيداع صيانة، وذلك بمقتضى التكريم الإلهي للإنسان.

الركن الثاني: الاتصال الروحي

إن “الائتمان عبارة عن اتصال روحي ينبني فيه التخلق الخارجي على التخلق الداخلي، جاعلاً ظاهر الصلة بالإنسان يزدوج بباطن الصلة بالله، كما ينبني فيه التكليفُ الوجودي على التكليف الشهودي، جاعلاً حق الاختيار يزدوج بواجب الاضطرار”. ويمكن التفريق بين نوعين من الاتصال: الاتصال الأفقي والاتصال العمودي، فأما الاتصال الأفقي فيربط بين المودِع الإنساني والمودَع لديه، واعتبره اتصال بين ذاتين نسبيتين إحداهما تملك ما أودعت والأخرى لا تملكه، على أن هذه الأفقية لا يراد بها أن لهما وجودًا في أطراف المكان، وإنما يراد بها أن التعامل بين الطرفين ينبني على قانون الأخلاق الخارجية؛ أما الاتصال العمودي فيربط بين ذات مطلقة مالكة لكل شيء (الله عز وجل) وذات نسبية (الإنسان) تملك ما تملك بحفظ حقوقه، وجعل هذه العمودية معنى روحيًّا يَشعر به المودَع في سره، وليس بعدًا مكانيًّا كما لو تعلق الأمر بطي مسافات السموات من فوقنا وصولاً إلى الذات العلية؛ ويتأسس هذا المعنى الروحي على قانون الأخلاق الداخلية، التي يشترط أن يسبقها العمل التزكوي الذي يطهر الباطن من علله النفسية ويفتح له آفاق تطوير طاقته الروحية وتجديدها.

على الرغم من وجود الفرق بين الاتصالين الإلهي والإنساني، إلا أنهما يلتقيان في كون المودِع والمودَع لديه يتوسطان في اتصالهما الإنساني بالاتصال الإلهي، سواء عند الإيداع حيث يشهد ببصيرته أنه أودع وديعته في الحقيقة عند المودِع لديه الإلهي، أو عند التسلم شاهدًا مرة أخرى ببصيرته أنه تسلمها، في الحقيقة، من المودع الإلهي، فضلاً عن توكل الإنسان المودِع في حفظ وديعته على المودَع لديه الإلهي، متسببًا في ذلك بضرورة إيداعها عند المودَع الإنساني، كما يتوكل الإنسان المودَع لديه في رعايتها على المودِع الإلهي، متسببًا في ذلك بخيار تسلمها من المودِع الإنساني، وعلى هذا النحو يظهر أن كل من المودِع والمودَع لديه يصلان أخلاق التعامل بينهما بأخلاق المعاملة مع الحق سبحانه[4].

إن “الروح عبارة عن “النفخة الخَلقية”[5]، إذ يكون مبناها على فعلين “غيبيين”، أحدهما “الإلقاء بالنفخة”، ومقتضاه “تكرُّم الإله بالخلق على الإنسان، نافخًا فيه من روحه”، وهذه النفخة الروحية، أصلاً، لا تُمتلك ولا تَمتلك، وإنما يُؤتَمن عليها الإنسان، حتى يردَّها إلى الذي ائتمنه عليها، سبحانه؛ والثاني “تلقي النفخة” هو استقبال التكريم الإلهي بدوام الامتنان الإنساني”؛ إذ أن هذا الخُلق الائتماني لا ينفك عن الروح حتى ولو تعلقت بأوصاف صريحة؛ فإذا قيل: “روح وثّابة”، فالمراد أن تعلقها بالوثوب –هو فعل مادي- تعلق بشيء مؤتَمن عليه، فيصبح مدلوله هو “التوقان” كما قيل: “روح توَّاقة”[6].

يترتب عن هذا أن خروج الائتماني عن المِلك خروج كلي، بينما خروج الدهراني عن الملك خروج جزئي، باعتبار أن الائتماني ولو تصرف في هذا المِلك كما يريد، يكون قد أوفاه حقوقه في الحفظ والرعاية قبل استيفاء حقوقه في التمتع به، مدركًا بلزوم رده إلى مالكه الحق. كما أن إلغاء الملكية عند الدهرانيين، ذو صبغة نفسية، في حين أن الخروج من الملكية عند الائتماني مرهون بالارتقاء بالعلاقة من رتبتها النفسية إلى رتبة فوقها، وهي الرتبة الروحية. فضلاً عن أن

التصور الدهراني للملكية يتسم بعلاقة مباشرة بالأشياء، وليس فيها أي تسبب أو توسط، في حين أن التصور الائتماني ليس علاقة مباشرة بالأشياء، وإنما يتوسطها المؤتمن الأعلى.

إذن فالائتمان عبارة عن خُلق عمودي يورثه التوسل بأسباب مأخوذة من الماهية الروحية للإنسان، ممثَّلة في “النفخة الخَلقية”، في مقابل “الاحتياز” الذي هو خلق أفقي يورثه التوسل بأسباب مأخوذة من الماهية النفسية للإنسان، ممثلة في “الذات الثبوتية”؛ كما أن هذا الخلق العمودي يستند إلى ذاكرة من وراء حجاب الحس، وهي “الذاكرة الأصلية[7]” التي تحفظ الشهادات غير المرئية، في مقابل الخُلُق الأفقي الذي يستند إلى ذاكرة من وراء حجاب الظاهر، وهي الذاكرة اللاشعورية التي تحفظ المشاهد المرئية؛ ولا يتم انكشاف الذاكرة الأصلية إلا معالجة تزيل عن الفطرة الأولى طبقات العادات التي تُغشِّها، في مقابل الذاكرة اللاشعورية التي لا يتم انكشافها إلا بمعالجة تجعل ما كان مطمورا تحت طبقات اللاشعور يَبرُز إلى الشعور.

إذن فالائتمان يرتبط أساسًا بالماهية الروحية للإنسان، وبذاكرته الأصلية التي حفظت شهادات الإنسان غير المرئية، ويترتب عن ذلك أنه يقابل ويخالف الاحتياز لكون هذا الأخير يتعلق بالماهية النفسية للإنسان، ولا شك أن ذلك يظهر في المقابلة بين النفخة الخلقية والذات الثبوتية.

“الفرق بين خُلق الاحتياز وخُلق الائتمان؛ أن الاحتياز فعل نفسي يقوم في إضافة الشيء إلى الذات، إثباتًا لها وتثبيتًا، في حين أن الائتمان فعل روحي يقوم في إضافة الشيء إلى مالكه الحق، مؤديًا واجبات حفظه ورعايته قبل استيفاء الحقوق التي خولها له هذا المالك؛ فلا ائتمان الفرق بين خُلق الاحتياز وخُلق الائتمان؛ فالاحتياز فعل نفسي يقوم في إضافة الشيء إلى الذات، إثباتًا لها وتثبيتًا، في حين أن الائتمان فعل روحي يقوم في إضافة الشيء إلى مالكه الحق، مؤديًا واجبات حفظه ورعايته قبل استيفاء الحقوق التي خولها له هذا المالك؛ فلا ائتمان لا مع تقديم الواجبات على الحقوق”.

لذلك كان الائتمان، على خلاف الاحتياز، فأسبابُه موصولة بعالم الروح بموجب النفخة الخلقية، فقد حفظت هذه النفخة ذكريات عن هذا العالم الروحي كما يحفظ الطفل ذكريات عن عالمه، وهو في غيب الأرحام، “فذكريات الرحِم هذه، بإقرار التحليليين النفسانيين أنفسهم، تبقى دفينة في أغوار “لاشعور” الطفل، مؤثرة، من حيث لا يعي، في علاقاته بعالمه الخارجي، أحياء وأشياء؛ ولو كان تمييزه يسبق ملاحظته، لأنكر وجود هذه الذكريات، بل لولا أنه يلاحظ بأم عينه أن البطون لا تزال تحمل أثقالاً وتلد أمثالاً، لأنكر أن الأرحام قد ضمته وقتًا طويلاً في غيبها.

فكذلك ذكريات الروح تبقى مستورة في أعماق باطن الإنسان، مؤثرة، من حيث لا يُدرك، في تصرفاته وتقلباته، مكانيًّا وزمانيًّا، حتى إنه قد ينكر وجود هذه الذكريات لو أشار إليها مشير أو سأل عنها سائل، بل قد ينكر أن عالمًا غير مرئي قد ضم روحه منذ أول الخلق، ويُصر على إنكاره، حتى ولو أخبر عنه مَن أخبر بواسطة وحي مكتوب أو علم موهوب”.

من هنا يمكن القول “لئن جاز وجود ذكريات الرحم، فلأن يجوز وجود ذكريات الروح أوْلى، لأنه لولا وجود الروح، لما وُجدت الرحم، ليس لأن الجنين لا بد له من نفخة تبعث فيه الحياة فحسب، بل أيضًا لأن غيب الرَّحم غيب من غيوب الروح، ولو أنه رتبة دنيا من رُتب الغيب التي لا تحصى كأنما الروح تتدرج وتتنزل في غيوب كثيرة، حتى تخرج إلى العالم الخارجي”. فكما توجد ذاكرة رَحِمية والتي بات بعض التحليليين والنفسانيين يقر بها، فهناك ذاكرة روحية، هي “الذاكرة الأصلية” التي تعتبر ذاكرة ائتمانية لكونها تضيف كل شيء إلى بارئها، ومن أول الأشياء التي حفظتها “اللقاء الغيبي الأول” الذي شهد فيه الإنسان بوحدانية البارئ، كما شهد على أنه أودعه بعض مُلكه، أمانة عنده بحيث لا يحوز شيئًا، بعد أن يتحقق في الخارج وجوده، ومن خلال هذه الشهادات كان أول قانون إلهي سُن للإنسان في هذا العالم، هو قانون الشهادة، وعلى قدر المعالجة الروحية أو تزكية الإنسان لنفسه يَزداد قربه من تحصيل المعرفة بهذه الذاكرة، مُزيلاً بذلك ما غشي فطرته من طبقات العادات المكتسبة، بينما ذاكرة الرَّحم أو “الذاكرة النفسية” ذاكرة احتيازية تضيف كل شيء إلى الذات.

ختامًا

يظهر مما يتقدم أن معالم الائتمان الكفيلة بتغيير عالم الإنسان يمكن إجمالها فيما يأتي:

– يستمد مبدأ الائتمان مرجعيته من مفهوم الأمانة المنصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية.

– يتأسس مفهوم الائتمان على ركنين أساسيين، هما: الإيداع الرعائي والاتصال الروحي.

– الائتمان خلق عمودي يستند إلى الذاكرة الأصلية، له طبيعة روحية -ممثلة في النفخة الخلقية- ينبني فيها التخلق الخارجي على التخلق الداخلي، تضاد الطبيعة النفسية –ممثلة في الذات الثبوتية- التي تتأسس عليها النسبة، أو الإضافة، أو الامتلاك، أو التملك، أو الاحتياز باعتباره خلقًا أفقيًّا.

– الائتمان تكليف يتأسس فيه التكليف الوجودي على التكليف الشهودي، من خلال جعل حق الاختيار يزدوج بحق الاضطرار.

————————————————————————————————————-

[1] ينظر: طه، عبد الرحمن، روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المركز العربي الثقافي، بيروت لبنان، ط:2، 2012م، ص449.

[2]نفسه، ص453.

[3] طه عبد الرحمن، روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، ص474.

[4]ينظر: طه، عبد الرحمن. روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، ص 475.

[5] تعبر عن نفخة الخالق الروح في الإنسان، قال تعالى :(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) ص:71-74.

[6]طه، عبد الرحمن. شرود ما بعد الدهرانية، النقد الائتماني للخروج من الأخلاق، ص21-22.

[7] يقصد بها الذاكرة التي حفظت الشهود الأول والشهادة الأولى، كما حفظت الحدث الذي عرض فيه الله جل جلاله الأمانة على مخلوقاته، فاختار الإنسان تحملها، ويمكن للفاعل الديني أن يستعيد هذه الذاكرة الغيبية عن طريق التزكية وإزالة غشاء النفس عن ورحه.