مستقبل الطاقة النظيفة إحالة البنزين للمتاحف

يَتعرَّض الإنسان لكثير من المخاطر الصحية التي تطارده حين يتنفس أو يأكل أو يشرب، خاصة في المدن الكبيرة التي تعتبر من أكثر الأماكن تلوثًا إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، فالإنسان يعيش ويسير ويتحرك ويتنفس الملوثات. العلماء والباحثون لم يكتفوا بإبداء الملاحظات، وإنما سعوا لمعرفة كافة الأسباب الحقيقية وراء كل عنصر من تلك العناصر الملوِّثة، حتى إن فريقًا بحثيًّا اهتم بدراسة عنصر الأبخرة المتصاعدة من البنزين الخالي من الرصاص، التي تؤثر بشكل كبير في خلايا المخ والموصلات العصبية.

لقد استطاع أعضاء الفريق البحثي بكلية العلوم في جامعة عين شمس، أن يتوصلوا إلى أن الأبخرة المتصاعدة من البنزين الخالي من الرصاص، تؤثر بشكل كبير في خلايا المخ والموصلات العصبية، حيث تؤدي إلى زيادة إفراز ناقل عصبي بالمخ، مما يؤدي إلى صعوبة وصول الدم للمخ وضمور الخلايا العصبية. لذا، وفي إطار إجراء الدراسة، تم مقارنة تأثير نوعين من الجازولين على خلايا المخ، أحدهما خال من الرصاص، والآخر مضاف إليه الرصاص، فتوصلت النتائج إلى أن البنزين الخالي من الرصاص، أخطر بكثير على صحة الإنسان وخلايا المخ من البنزين المضاف إليه الرصاص، مما يلقي بظلال الشك حول مادة “MTBE” البديلة للرصاص، والمضافة إلى البنزين، التي أكدت دراسة أخرى أجراها الدكتور “صلاح الحجار” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجود ترابط قوي بين استخدام هذه المادة في الوقود، وظاهرة السحابة السوداء.

أما عن تفاصيل البحث العلمي المثير الذي نشر في بداية هذا العام في “مجلة الجمعية المصرية الألمانية لعلم الحيوان”، فإن فكرة هذه الدراسة جاءت لمعرفة تأثير استنشاق الوقود في خلايا المخ، وهو من الأمور التي يتعرض لها العاملون بمحطات البنزين والمارة بالشوارع إثر استنشاقهم للغازات المنبعثة من عوادم السيارات، إلى جانب استعانة طائفة كبيرة من أطفال الشوارع بالبنزين كبديل عن المخدرات، لرخص تكلفته وسهولة تداوله. هذا الخطر المتصاعد في الجو والمتمثل في أبخرة الوقود، بدأت تتنبه إليه العديد من الجمعيات الأهلية حول العالم، وأصبحت تدعو إلى ضرورة تزويد العاملين بمحطات البنزين بالكمامات الواقية حرصًا على سلامة صحتهم.

كان قد تم الاستعانة بعينات من الوقود الخالي من الرصاص والمحتوي على المادة البديلة من الهيئة العامة للبترول، ونظرًا لعدم وجود بنزين مضاف إليه الرصاص بمصر، تم الحصول عليه من المعهد القومي للهيدروكربون بالجزائر، وهي من الدول التي ما زالت تستخدم الوقود المضاف إليه الرصاص. ولتعيين مدى تأثير كل نوع من الجازولين، تمت الاستعانة بجهاز خاص لتبخير الوقود وتحديد كمية الجرعة التي تتعرض لها فئران التجارب بدقة شديدة. كما أجريت ثلاثة أنواع من التجارب، الأولى: طويلة المدى، واعتمدت على بث جرعة بسيطة من الأبخرة لمدة نصف ساعة يوميًّا على مدى شهرين. والثانية: كانت ببث جرعة أكبر نسبيًّا لمدة 15 يومًا. أما الثالثة: فتمت ببث جرعة عالية لمرة واحدة.

الجازولين يدمر خلايا المخ

أكدت النتائج أن الجازولين الخالي من الرصاص أدى إلى إفراز إحدى النواقل العصبية بالمخ، والمعروفة باسم “الجلوتامات” وهي مواد كيميائية لازمة لنشاط الخلايا العصبية، والتخاطب بين خلايا المخ، إلا أنه في حالة زيادتها عن المعدلات الطبيعية فإن ذلك يؤدي إلى اندفاع الكالسيوم إلى الخلايا العصبية، وزيادة تكون أكسيد النيتريك، وتنشيط بعض الإنزيمات، مما يؤدي إلى تحلل وموت الخلايا العصبية.

ومن المهم هنا، الإشارة إلى أن زيادة الجلوتامات -كإحدى الموصلات العصبية بالمخ- مرتبطة بشكل كبير بأمراض مثل فقدان الذاكرة التام والمستديم، ومرض هنتجتون، هذا إلى جانب عدم وصول الدم لخلايا المخ، والإصابة بالسكتة المخية. وطبقًا للعينات التي تم تصويرها بالمجهر الإلكتروني، بدا واضحًا ضمور الخلايا العصبية، وتآكل أغلفة الألياف العصبية، وتأثر خلايا بركنج والخلايا الجيبية وخلايا جولجي، وهي كلها خلايا رئيسة بالمخ. كما انعكست هذه التأثيرات على أداء الفئران، وهو ما تم إثباته عمليًّا من خلال بعض التجارب لقياس القدرة الحركية والاستكشافية، مما يدل على تأثر مراكز الحركة والتعلم والذاكرة بالمخ.

بعد الوصول إلى هذه النتائج، والانتهاء من الدراسة العلمية التي استمرت لمدة ثلاث سنوات، أصبح من الواضح تمامًا مدى التأثير الضار لأبخرة الجازولين على المخ. ومن المقرر أن يبدأ نفس الفريق البحثي في دراسة تأثير أبخرة الجازولين على نشاط ووظائف الرئتين، ومحتوى الدم من غازات التنفس، وحتى إذا أخذنا في الاعتبار تغير مكونات الوقود بين دولة وأخرى. وبناء على ذلك، فإن المادة المستخدمة والبديلة للرصاص قد تكون هي العامل الأساسي. فإن البحث العلمي أكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الوقود المحتوي على هذه المادة خطر على الخلايا العصبية للمخ، الأمر الذي يمثل ناقوس خطر يدق بشدة محذرًا ومنذرًا. لذا يجب الانتباه إليه وألا نغفله أو نتجاهله؛ لما لهذه المادة من تأثيرات ضارة على كافة أفراد المجتمع، حيث إنه لا يمكن تحديد أو كبح جماح هذه السموم المنبعثة في الجو. ولعلنا نعلم جميعًا، أن الكثير من الدول المتقدمة -وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان- تعمل على وقف استخدام هذه المادة الخطيرة، لذا فإننا ننادي بضرورة تعاون كافة التخصصات العلمية المختلفة من كيميائية وبيولوجية وبيئية وطبية وغيرها، لتحديد أفضل الحلول لمثل هذه المشكلة الصحية والبيئية في ذات الوقت.

إحالة البنزين للمتاحف

من ناحية أخرى، أدى التطور السريع في مجال الاستفادة من ميادين طاقة الرياح والشمس والهيدروجين -حيث تنطوي على فوائد عديدة من أهمها أن هذه المصادر لا تطلق ملوثات- إلى ارتفاع الصيحات المحذرة من الأخطار التراكمية الناجمة عن استخدام الوقود البنزيني أو الوقود الأحفوري. ففي الولايات المتحدة الأمريكية ومن أجل الاستفادة من ميدان الرياح، تطورت وسائل توليد الطاقة من الرياح، بحيث أصبحت تنتج طاقة كهربائية تزيد بنسبة 30% عما كان يُستخدم منذ عشر سنوات فقط. فقد شمل هذا التطور، الكثير من تلك الوسائل خصوصًا في مجال تشغيل التروبينات وطواحين الهواء الجديدة، التي عالجت مشكلات الطواحين القديمة خصوصًا ما كان يصدر عنها من ضجيج مزعج. وأيضًا التدخل في الآلات التي تبث إشارات الإرسال التليفزيوني، حيث أصبحت تلك الآلات مصنوعة من مواد صناعية قوية وخفيفة وليست حديدية. فبعد إقامة هذه الآلات الجديدة في منطقة تتميز برياح قوية وثابتة، أنتجت كهرباء رخيصة سعر الكيلووات/ساعة ما بين أربعة وستة سنتات. بينما السعر الماضي من المصادر القديمة، مثل الفحم والبترول والغاز الطبيعي والطاقة النووية، كان في حدود عشرة سنتات. وتنتج الولايات المتحدة الأمريكية الآن حوالي 4300 ميجاوات من الكهرباء بفضل هذا التطور، حيث استطاعت أن تسد احتياجات 1% من حجم السكان، وبدلاً من الشكوى القديمة بسبب شبكة المراوح والطواحين وضجيجها المزعج لهؤلاء السكان المقيمين في المناطق التي تقام فيها، أصبحوا الآن يعيشون هادئين وهم راضون تمامًا عنها، حتى وصل هذا الرضا إلى درجة أنهم على استعداد تام لدفع سعر أعلى للكهرباء المستخدمة منها، بفضل الإحساس بالخلاص من ملوثات المصادر التقليدية للطاقة.

أما في مجال الاستفادة من الميدان الثاني وهو الكهرباء، فتقول دراسة نشرتها مجلة “ساينتفيك أمريكان”: “إن إنتاج الكهرباء من الرياح، تضاعف خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية في الولايات المتحدة الأمريكية وإن كانت أوروبا -وخصوصًا الدنمارك وألمانيا- هي الرائدة في هذا الميدان، إذ تنتج 14 ألف ميجاوات. وهذه الدراسة أشارت إلى أن الأشعة الشمسية الساقطة على مساحة لا تتجاوز نصفًا في المائة من مساحة الأرض، تكفي لسد احتياجات الطاقة لجميع سكان الأرض. وفي منطقة مرتفعة بصحراء موهابي الأمريكية، تبرز صفوف من المرايا تحت أشعة الشمس تغطي مساحة ميل مربع، وتعبر عن أكبر مشروع إنتاج الكهرباء من الشمس بمعدل 180 ميجاوات يوميًّا. ويعتمد هذا المشروع على أحدث تطور في أجهزة استخلاص هذه الطاقة، ابتداءً من الخلايا الشمسية القادرة على التقاط كل جزء من أشعة الشمس، إلى المرايا التي تقوم بعكس أشعة الشمس على أنبوب مملوء بالزيت عند ارتفاع حرارته، فيولد بخارًا يدير توربينين كبيرين لتوليد الكهرباء.

وفي مجال الاستفادة من الميدان الثالث المعبر عن جهود البحث عن مصادر بديلة لا تلوث الهواء، والمتمثل في الهيدروجين وخلايا الوقود المعتمدة عليه في سيارات المستقبل، فإن هذه التقنية التي ابتكرت أصلاً لصواريخ وسفن الفضاء، استطاع العلماء أن يضيفوا إليها المزيد من التطور، لتبشر بقفزة كبيرة في عالم وقود السيارات مستقبلاً. فخلايا الوقود هذه، عبارة عن غشاء إلكتروني يوجد في أحد جوانبه الهيدروجين، ومن الجانب الآخر يأتي الهواء، فالهيدروجين في حاجة إلى الأكسيجين ليتحول إلى طاقة، وباختلاط الاثنين يتم إنتاج الطاقة الكهربائية للسيارات.

وخلية الوقود ليست بطارية، بل هي مولِّد كهربائي، حيث يمكن لكل خلية إنتاج ستة فولتات، ولكي يتم شحن سيارة كبيرة أو حافلة -مثلاً- فهي تحتاج إلى المئات من تلك الخلايا التي يتم وضعها بجوار بعضها البعض داخل صندوق أو اثنين، فيتم شحن السيارة بلا ضجيج وبالكهرباء فقط، أما العادم فهو عبارة عن ماء فقط، وأما خزانات خلايا الوقود فتوضع على سطح السيارة أو الحافلة، أو في أي مكان بها، مصممة بشكل أنيق لا يؤثر على انسيابية وجمال السيارة، علمًا بأن إنتاج هذه الخلايا يجري بسرعة وبتكاليف معقولة.

ولا شك في أن نجاح هذه الخلايا عبرت عنه تلك التجارب الناجحة التي أجريت باستخدامها في الحافلات، والتي أصبحت تنتشر الآن في أغلب المدن والولايات الأمريكية، وهو ما دفع إحدى شركات السيارات اليابانية إلى الإعلان عن تطوير محركات سياراتها لتعمل بخلايا الوقود، بل وأنها ستنتج 50 ألف سيارة تعمل بهذه التقنية خلال السنوات الخمس القادمة، كمقدمة لانتشارها وإحالة محرك البنزين الملوث للهواء إلى المتاحف.