طب الفضاء لعلاج أمراض الإنسان على الأرض

في منتصف القرن الماضي، دخلت البشرية عصرًا جديدًا أصبح يعرف بعصر الفضاء، حيث تمكن الإنسان من السفر إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض، بل والعيش لفترات طويلة نسبيًّا على متن محطات الفضاء الدولية، واكتشاف ذلك العالم الخارجي المليء بالغموض والأسرار. ولكن إمكانية الحياة على الفضاء لا يعني أنها ستكون مشابهة لحياتنا على كوكب الأرض، بل إن هناك تحديات كبيرة جابهت الإنسان في ذلك، مثل الجاذبية المتناهية الصغر، والأشعة الكونية، وتباطؤ وظائف القلب والأوعية الدموية، واضطرابات الوزن والجهاز المناعي والنوم.. كل هذه الأمور، وضع أمام الطب تحديات عاجلة بضرورة العمل على تأمين الحياة والسلامة لطيران الإنسان في الغلاف الجوي الفضائي. ومن أجل الوصول إلى حل لهذه المشكلات، ظهر فرع جديد من الطب هو “طب الفضاء”.

ما هو طب الفضاء؟

طب الفضاء هو أحد تخصصات الطب، الذي يقدم الرعاية الصحية لرواد الفضاء، ويهتم بدراسة المتغيرات الفسيولوجية والنفسية، والعوامل البيئية والمهنية المؤثرة على صحة رواد الفضاء أثناء تواجدهم في الفضاء الخارجي، فكلما ارتفع الإنسان، تعرض لظروف بيئية مخالفة لما اعتاد عليه على سطح الأرض، تتمثل في انخفاض الضغط الجوي والحرارة ونقص الأوكسجين، والتعرض لإشعاعات ضارة، مثل الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة اللونية المنبعثة من الشمس وكواكب أخرى، حيث يزداد تركيز هذه الإشعاعات كلما خرج الإنسان من الغلاف الجوي المحيط بسطح الأرض، الذي يقوم بعمل مرشح يمتص الكثير من تلك الإشعاعات، وفي نفس الوقت يتعرض الجسم البشري لضغوط جديدة لم يعتدها من قبل، مثل تزيد السرعة بدرجة كبيرة. كما يبدأ يعاني من مشاكل انعدام الوزن عندما تضعف جاذبية الأرض وتقل المقاومة للحركة، مما يؤدي إلى صعوبة الثبات في وضع معين، وصعوبة تناول الطعام والشراب والتخلص من فضلات الجسم، كما تصبح السوائل الداخلية في الجسم أكثر انطلاقًا في حركتها، وتقل المقاومة التي تلقاها العضلات المختلفة، أثناء القيام بعملها فتضعف تلك العضلات. ولنا أن نتصور الكم الهائل من المعلومات الطبية والهندسية والفلكية والتكنولوجية، المتعلقة بالحفاظ على حياة الإنسان داخل كبسولة فضائية يحملها صاروخ، منطلق بسرعة تزيد على 8000 متر في الثانية، 18000 ميل في الساعة، لتخرج عن نطاق الجاذبية الأرضية ويستقر في مدار حول الأرض. وفي المراحل الأولى من الانطلاق، يقتضي الأمر تزايد السرعة من السكون إلى سرعة تقارب 11200 مترًا في الثانية خلال فترة زمنية وجيزة. أضف إلى ذلك القدرة الفائقة على المتابعة الدقيقة لأحوال رائد الفضاء الصحية والنفسية والجسمانية، مع تسجيل شامل لسرعة النبض والتنفس وضغط الدم، والنشاط الكهربائي للقلب والمخ تحت الظروف المختلفة لحظة بلحظة.. حيث تتلقى غرف المتابعة الأرضية كل البيانات اللازمة، عن طريق إشارات ترسلها أجهزة خاصة في الكبسولة الفضائية. وفي هذا المجال من الطب، يعمل الأطباء جنبًا إلى جنب مع العلماء في تخصصات أخرى؛ مع فرق المهندسين بغية الحفاظ على سلامة وصحة الجوانب البدنية والعقلية والاجتماعية لرواد الفضاء أثناء رحلاتهم، وبعد عودتهم إلى الأرض بشكل عام.

طب الفضاء وأمراض الإنسان على الأرض

إن رغبة الإنسان الدفينة في غزو الفضاء وكشف أستاره المجهولة، كانت حافزًا له على إجراء الكثير من التجارب العلمية على الأرض، والتعمق في دراسة وظائف الجسم البشري، ومدى قدرته على تحمل الظروف المختلفة وتكيفه مع المواقف الجديدة. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف العلمي الكبير، أقيمت المختبرات التي تحاكي جو الفضاء، وصممت الآلات التي يمكنها إحداث حالات من انعدام الوزن على الأرض، وأجهزة الطرد المركزية، التي يثبت فيها أشخاص تحت الاختبار فتدور بهم في سرعة هائلة، حتى يمكن دراسة تأثير تزايد السرعة على الجسم البشري. وقد أثبتت هذه التجارب عددًا من النتائج الهامة التي أفادت صحة الإنسان على الأرض أيضًا. وأهم هذه النتائج هي:

1- إن تأثير انعدام الوزن على الجسم فترة طويلة، يشابه الوهن الذي يصيب الإنسان عندما يلزم الفراش ردحًا من الزمن، بسبب مرض مزمن فتضعف العضلات، وتقل كمية الدم التي يدفعها القلب لأجزاء الجسم، ويتناقص عدد كرات الدم الحمراء وتوهن العظام، وتقل كمية أملاح الكالسيوم فيها.. ويمكن تجنب الكثير من هذه الأعراض، إذا واظب رائد الفضاء على أداء تدريبات رياضية بصفة منتظمة، الأمر الذي يؤكد -وبصفة عامة- على أهمية الرياضة لصحة الإنسان في جميع الأحوال على سطح الأرض، وفي الفضاء وفي أعماق البحار.

2- وجد من دراسات أثر ما يصيب الإنسان المسن من تغيرات في أعضاء الجسم، مثل هشاشة العظام وضعف المناعة واضطرابات النوم، وبعض المشكلات المتعلقة بالذاكرة والعقل، التي تشبه كثيرًا التغيرات الناتجة عن العيش في الفضاء لفترات طويلة. ولذلك فهناك تعاون مستمر بين وكالات الفضاء ومعاهد الشيخوخة؛ وذلك لمعرفة أفضل الطرق للتغلب على مشكلة الشيخوخة، والعيش في الفضاء لرواد الفضاء، وأن ذلك التعاون سوف يطور الأبحاث الخاصة بالشيخوخة، بدءًا من المراحل الأولى من آثارها عندما يتجاوز الإنسان الثمانين من عمره. وهذا سوف يفيد علماء الشيخوخة بما حققه طب الفضاء من إيجاد عقاقير وأنظمة غذائية، وتدريبات تحد من أضرار التغيرات الوظيفية لأجسام رواد الفضاء بعد عودتهم إلى الأرض. ويمكن بذلك أن تعطي أملاً للإنسان أن يعيش شيخوخة بلا أمراض.

3- أما بالنسبة لنقص الأوكسجين في الأجواء العليا وانخفاض الحرارة، التي تبلغ عشرات الدرجات تحت الصفر المئوي، والتعرض للإشعاعات الضارة، فقد أمكن التغلب على ذلك باستخدام أغلفة واقية لكبسولة الفضاء، واستخدام الأجهزة والمعدات التي تجعل الجو داخلها شبيهًا بالجو على سطح الأرض. فإذا خرج رائد الفضاء عن كبسولته للسياحة في الفضاء أو السير على سطح القمر، نجده يرتدي سترة فضاء أعجوبة من أعاجيب العصر التكنولوجية، حيث تحيطه تمامًا بجو مماثل لجو الكرة الأرضية فتحفظ ثبات حرارة جسمه، وتقيه شر الإشعاعات الضارة قدر الإمكان، وفي نفس الوقت تتيح له حرية الحركة والرؤية والتخاطب من على بُعد مع زملائه، ومع محطات المتابعة الأرضية.. وإن هذه السترة كانت مصدر إلهام لإعداد سترة مشابهة -إلى حد ما- يستخدمها أطفال على الأرض مرضى بداء فقد المناعة الوراثي غير المكتسب. وهؤلاء الأطفال لا يمكنهم الحياة بدون سترة الفضاء هذه، وكان مصيرهم قبل ابتكارها الموت السريع؛ لأن الجراثيم تهاجم أجسامهم الضعيفة المجردة من وسائل الدفاع الطبيعية فتقضي عليهم في أيام.

استخدام الفضاء لصحة الإنسان على الأرض

من الأمور التي يبحثها طب الفضاء بتوسع كبير من أجل إفادة الإنسان على الأرض، إمكانية إرسال بعض المرضى إلى الفضاء الخارجي في فترة النقاهة، لاستكمال الشفاء في جو مخالف لجو الأرض، وتحت ظروف قد تساعد في تحسين حالتهم بسرعة، أو على الأقل تتيح لهم البقاء فترة حتى يتم استحداث علاج جديد لهم على سطح الأرض. وذلك لأن انعدام الوزن في الفضاء يقلل العبء الذي يقوم به القلب وكمية الدم التي يدفعها، مما يفيد بعض حالات مرضى القلب.

إرسال مجموعة من الخلايا الجذعية للفضاء

لم يقتصر استخدام الفضاء لصحة الإنسان على الأرض عند هذه الحدود، بل هناك أبحاث علمية تجرى الآن، حيث تم إرسال مجموعة من الخلايا الجذعية إلى الفضاء، لتنمو هناك بعيدًا عن تأثيرات الجاذبية الأرضية. وحسب هذه الأبحاث، فإن هذه الخلايا الفضائية -حسبما ذكر العلماء- قد تكون الحل السحري لإنهاء الأمراض على الأرض. وتستخدم حاليًّا الخلايا الجذعية في عدد من التجارب السريرية لعلاج إصابات الركبة وحروق الجلد. ويعتقد الأطباء أنها يمكن أن تستخدم في علاج كل الأمراض، بدءًا من الحساسية، ومرورًا بالتهابات الأنسجة، ووصولاً إلى السرطان، حيث نجح باحثون في معهد “مايوكلينيك” للأبحاث العلمية والطبية، في إجراء أولى تجربة ناجحة لاختبار فوائد استخدام الخلايا الجذعية، للحد من آلام التهاب المفاصل والعجز في الركبتين. ويعود الفضل في نجاح ذلك الأمر، إلى التجارب المتتالية التي أجريت على الخلايا الجذعية في الفضاء، حيث عرف العلماء الكثير من أسرار هذه الخلايا وطريقة نموها.. إلا أنه رغم هذا التقدم الهائل في هذا المجال، فهناك مشكلة كبرى لا تزال تواجه الباحثين في مجال العلاج بالخلايا الجذعية، أبرزها أن استخدام الخلايا الجذعية لعلاج الأمراض، يحتاج إلى أكثر من 200 مليون خلية لضخها في الأماكن المتضررة من جسم الإنسان، وهو عدد مهول يتطلب سنوات طويلة من العمل داخل المعمل.. إلا أن العلماء المختصين في هذا المجال، يعتقدون أن الخلايا الجذعية، يمكن أن تنقسم بصورة أسرع، في الأماكن منعدمة الجاذبية. لذا أرسلت تلك الخلايا إلى الفضاء، حيث الأمل في إنتاج خلايا جذعية بشكل وافر، يمكن هناك في الفضاء الخارجي وليس هنا على الأرض.