في ألمانيا.. اضطر وزير دفاعها “كارل تيودور” لتقديم استقالته من منصبه على خلفية “اعترافه بسرقة أجزاء من أطروحة دكتوراه في الحقوق”. مما دفع الجامعة إلى سحب شهادته العلمية. كما استقالت وزيرة التعليم الألمانية “أنيت تشافان” لنفس السبب. أما رئيس “المجر” “بول شميدت” فقد اعتذر عن “تصرفه الشائن” بترجمته حرفيًّا لأكثر من ثلاثة أرباع (180 من أصل 215 صفحة) محتوي رسالة دكتوراة باللغة الفرنسية. وتم سحب شهادته العلمية. وكان أهل العلم قِديمًا يرَون أن: “العلم مرتعٌ مباحٌ فينقل/ يقتبس بعضهم من بعض دون غضاضة، ولا لوم، ولا مقاضاة إذ ليس للناقل فضل النقل، ولا للمنقول عنه فضل السبق لأنه نقل عمن قبله”. وهكذا كانوا فلم يكن في أعرافهم “السرقات العلمية”، أو “حماية قوانين الملكية الفكرية” أو “حق الأداء العلني”، أو “الأمن الفكري”، أو “المكاسب المادية”، أو “الشهادات العلمية”، أو “الوظائف الإدارية، والأستاذية العلمية” إلخ.
لكن حديثًا.. انتهي الجدل والعرف والقانون، في كثير من دول العالم، على اعتبار “المعلومات من الأموال التي يمكن سرقتها”. وصدرت قوانين خاصة لحماية “حقوق الملكية الفكرية”، وتجريم الاعتداء عليها. فتم الإقرار لأول مرة عام 1983، بأهمية الملكية الفكرية في اتفاقية “باريس” بشأن حماية الملكية الصناعية. كما تعد اتفاقية “برن” بشأن حماية المصنفات الأدبية والفنية التي اعتمدت 1986؛ من أقدم الاتفاقيات الدولية في مجال الملكية الأدبية والفنية. وكـُرست “تشريعات دولية وعربية” خاصة بحماية حق مؤلف المصنفات المبتكرة في الآداب والفنون والعلوم أيًّا كانت قيمتها أو أنواعها أو غرضها أو طريقة التعبير عنها. وأكدت على خصوصية حماية حقوق المصنفات المكتوبة، والشفهية (كالمحاضرات والخطب وما يماثلهما) على حد سواء. وكذلك مصنفات الحاسب الآلي من برامج وقواعد بيانات وما يماثلها، والمصنفات المشتقة والمترجمة، وتشمل الحماية، أيضًا، عنوان المصنف المتميز بطابع ابتكاري وليس مشتركًا. أما سرقة البحوث العلمية فتقع تحت طائلة قانون حق المؤلف. ويلتزم المعتدي بتعويض صاحب الحق إذا نتج عن فعل الاعتداء ضرر أصابه، فضلاً عن الجانب الإداري إذا كان هناك محل لتطبيقه.
لذا.. تُعد السرقات العلمية والأدبية Plagiarism “مشكلة متعددة الأوجه”. وتحدد ملامح تعريفها على أنها تحدث عندما “يتعمد شخص استخدام كلمات، أو أفكار، أو أشعار، أو معلومات، أو مقالات، أو نتائج، أو أبحاث أو فنون خاصة بشخص آخر دون تعريف أو ذكر الشخص أو المصدر”، بل ينسبها إلى نفسه، على أنها من كد عمله، وثمرات بحثه، وبناة أفكاره، ونتاج قريحته. وينطبق هذا على انتحال كتابات، وأفكار، ونتائج، وأعمال الآخرين المنشورة ورقيًّا أو إلكترونيًّا، أو معلوماتيًّا. فالأصل أن يوثق المؤلف كل ما يقول، ويكتب، وينتج، ويؤدي. وأن يحترم قواعد “الملكية الفكرية/ الإبداعية” لمن سبقوه وتناولوا عرض الموضوع/ العمل فيشير إليهم في حاشية الكلام، وفي فهرس المصادر والمراجع.
وهناك جامعات عالمية عريقة (في بريطانيا وغيرها) وضعت “قواعد أخلاقية” لأصول الكتابة والتوثيق العلمي. وحددت بدقة أن “الاتهام بالغش، وسرقة الملكية الفكرية” يكون عندما يتبين القيام “بلصق عشر كلمات تتشابه بصورة طبق الأصل مع مثيلاتها الموجودة في بحث آخر منشور”. وفي جامعات أخرى “تثبت جريمة السرقة العلمية” حال تبين “الاستشهاد/ اقتباس Citation ثلاث جمل من بحث آخر دون ذكر المصدر المنقول عنه بوضوح”.
صور اللصوصية العلمية
لا ينتهج “لصوص” الأطروحات، والأبحاث، والكلمات، والإبداعات نهجًا واحدًا في انتهاك “حقوق الملكية الفكرية” للآخرين، بل لهم طرقهم المتعددة.. ساذجة ومراوغة، ظاهرة وباطنة، مباشرة وغير مباشرة إلى غير ذلك مما يستجد من طرق مستحدثة. ومن أفظع طرقهم.. سرقة الكتاب أو البحث جملة وتفصيلاً (السلخ). وقيام السارق بإعادة طباعة العمل (في دار نشر جديدة، أو في بلد آخر) مع كتابة اسمه محل المؤلف الأصلي. ومن أمثلة ذلك ما حدث للدكتور “عبد الحليم المرصفي” صاحب شرح وتحقيق كتاب “الجمل في النحو” للجرجاني (طبعة دار الهنا بمصر)، لما وجد كتابه يباع باسم مؤلف آخر، وطبعة أخرى في بيروت. فصُدم الرجل صدمة كبيرة. وأصيب على إثرها بشلل نصفي أدت إلى وفاته كمدًا على جهده المنهوب بهذه الطريقة البشعة، و”ليست النائحة كالثكلى”.
وقد يقوم السراق بالسطو على “عناوين كتب أو مؤلفات مشهورة” أو على فكرة/ نقطة بحثية أو “بروتوكول” مسجل بالفعل. ومن ثم إعادة تسجيله حرفيًّا في معهد أو جامعة أخرى. وهناك من “يسرق” جهد تلامذته الذين أشرف علي أطروحاتهم العلمية فيأخذ ما يشاء ويدمغها باسمه كأنه جهد شخصي ذاتي. أو يوكل لدارسين نجباء (ترغيبًا أو ترهيبًا) مهام انجاز ما يريد من كتب أو بحوث أو اطروحات “ماجستير ودكتوراه للبيع”. وقد يقوم السارق بحشر فقرة أو فقرات كاملة -من عمل آخر- إلى عمله، دون ذكر الكاتب الأصلي، لتبدو إنها من نتاج أفكاره، وخلاصة استنتاجاته. وأحيانًا يقوم بتفكيك العمل الأصلي ثم إعادة تركيبه بمصطلحات، وألفاظ، ومُحسنات لغوية أخري لإخفاء آثار جريمته. كما يقوم لصوص الكلمة، بترجمة نص أجنبي (شعر، أو بحث، أو مقالة، أو قصة، أو رواية) إلى لغة أخرى على أنه من إنتاجه الذاتي وليس مترجمًا، وبذلك يغبن حق المؤلف الأصلي صاحب المادة الأساس. وظهر أكاديميون يسرقون أبحاثًا منشورة في مجلات دولية، ويقدمونها للحصول على درجة/ ترقية/ جائزة علمية. وسرعان ما يُكتشف أن أطروحات عدة ما هي إلا دراسات أجنبية مترجمة.
ومن حالات “النشر المزدوج” (من الأخطاء العلمية الجسيمة) ما قام به (ن. س) بقسم المسالك البولية بطب الإسكندرية. وكان يجري دراسته بجامعة “توكوشيما” باليابان عن “أثر الموجات الكهرومغناطيسية للهاتف المحمول على خصوبة ذكور الأرانب”. ثم قرر كتابة نفس الدراسة ثلاث مرات مع تغييرات طفيفة في العنوان والمحتوى وإرسالها لمجلات علمية تابعة لدور النشر “نيتشر”، و”ويلي” ومجلة ثالثة مختصة في المسالك البولية. وذكر تقرير الإدانة بدار نشر “ويلي” أن الدراسات الثلاثة التي نشرت تباعًا خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2009 اعتمدت على نفس التجربة العلمية. وبالرجوع إلى الجامعة اليابانية الراعية للبحث للتأكد من مدي دقة المعلومات بالتجربة العلمية تبين أنه “حتى هذا الأمر مشكوك فيه”. وطالب الأساتذة اليابانيون بسحب أسمائهم من الدراسات المشتركة مع الباحث المذكور.
وفي عام 2010 صدر تقرير لدار نشر “ويلي” أتهم (س. أ) أستاذة التخدير بطب الأزهر بإجراء دراسة دون الحصول على موافقة مرضي مستشفى “أمفيا” بهولندا. رغم ادعائها عكس ذلك. كما أنها كتبت وسلمت الدراسة دون معرفة وموافقة الأساتذة الهولنديين والمضافة أسماؤهم كشركاء في البحث. ونوه التقرير إلى أنهم فشلوا في الحصول على أي رد من الباحثة. وثمة سرقاتِ (عناوين، ودراسات، وكتب، وأفكار) تتولاها دور نشر، ومكاتب علمية، وهيئات فكرية ثم تنسب ما سرقته لأناس مشهورين أو مغمورين على حد سواء. وقد يكون تدني مستوى الباحث، واعتياده السرقة العلمية، أو قصر الوقت، أو تسويف الإنجاز المطلوب، أو صعوبته، أو عدم وضوح مفهوم السرقة العلمية والطريقة الصحيحة للاستشهاد والاقتباس من المصادر.. أسباب يبرر بها السارقون سرقتهم. يقول “أبو القاسم الحريري” في المقامة الشعرية: “واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء، أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء، وغَيرَتُهُمْ على بناة الأفكارِ، كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ”.
هل من علاج؟
“إعادة الفضل لأهله” من خلال التوثيق العلمي الصحيح. فلا مانع أن ينقل/ يقتبس الكاتب/ المؤلف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر شريطة أن يشير إلى ذلك حسب الأصول المعتمدة في الكتابة العلمية (الورقية والإلكترونية). كذلك عليه الإشارة لمادته العلمية الخاصة به “Self plasiarism” لكنها وردت في كتاب/ بحث آخر. ويقع كل ذلك ضمن “مصداقيته العلمية” التي تعد من أهم ميزات الإنتاج العلمي والفكري.
ولا أغير على الأشعار أسرقها منها غَـنِـيتُ وشـرُّ الناس من سرقا
وينبغي تحديد موضوعات البحوث والأطروحات للطلاب في وقت مبكر دراسيًّا وبحثيًّا ليتسنى الوقت الكافي للتعمق في البحث. مع التوضيح الدقيق والباكر للطلاب والباحثين، لمفهوم السرقة العلمية، وأهمية حماية حقوق الملكية الفكرية والأمانة العلمية والاستخدام الأمثل للكتابات العلمية والمراجع، والعقوبات المترتبة عليها. وعمل مخطط أولي للبحث وعناصره الأساسية، ونسخة أولية من الدراسة لتقييمها قبل تقديم النسخة النهائية. مما يصعب تحقيقه باستخدام بحوث منقولة.
ويجب عدم القبول باللجوء إلى “مكاتب إعداد الرسائل/ مطبخ السرقات العلمية” لمن يريد. فمعظم هذه البحوث لا ترقى للمستوى المطلوب. مع تغيير موضوعات البحث بشكل دوري، حتى لا يتم تداول هذه البحوث أو بيعها أو شرائها. والتأكيد على تحقيق هدف البحث العلمي وهو تعلم مهارات حسن جمع المعلومات، وتبويبها، وتحليها، وتفسيرها، ومناقشتها، واستخلاص نتائج ذاتية ومبتكرة.
وللحصول على المادة العلمية.. ينبغي تنويع استخدام المصادر (المطبوعة، والإلكترونية، والمشاهدات، والمقابلات الشخصية، والاستبيان إلخ). وذلك لتفادى “السرقة عبر عملية القص واللصق”. مع تحديد مدي استعمال الإنترنت والبحوث المنشورة إلكترونيًّا “بحيث لا تزيد في النصوص المكتوبة عن 10% أو ألف كلمة، أيهما أقل”. واستخدام الأقواس، أو الكتابة المائلة أو حجم الحرف الأصغر، أو ترك مسافة كافية قبلها وبعدها؛ عند عرض مثل هذه النصوص، إلى جانب ذكر المصدر بوضوح وتأكيد (تقديم نسخ من المصادر المستخدمة في الدراسة).
ويراعي تقويم الكتب وأطروحات الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) والبحوث العلمية بدقة، وقراءة ما خلف السطور بحيادية. دون الاعتماد على سمعة مقدميها، ومكانتهم. مع الاستعانة ببرامج وخدمات دور نشر كبري كـ “السيفير”، و”سبرنجر”، و”ويلي” كأهم دور نشر عالمية للمجلات العلمية). وإجراء تحقيق نزيه وشامل في كل اتهام بالسرقة العلمية. مع عقاب مُغلظ لكل من يثبت عليه جرم يزري بالشرف أو يمس النزاهة العلمية، وليكون عبرة ورادع لضعاف النفوس في المجتمع العلمي.
ولا يمكن للجامعات أن ترقى ـ أكاديميًّا وبحثيًّاـ دون التزامها بمعايير وأخلاقيات البحث العلمي. فينبغي تكوين هيئة مستقلة تقوم بمهمة المراقبة لكل الأعمال البحثية المبرمجة والمنجزة. وتؤسس كل جامعة بنكًا، وفهرسًا دقيقًا وشاملاً للرسائل العلمية الأكاديمية والبحوث الميدانية والدولية في كل اختصاص. ويتم تبادله بين مختلف الجامعات والمؤسسات ذات الصلة، مع إنجاز برنامج خاص بالسرقة العلمية كما تفعل الجامعات العالمية، أو “موسوعة تضم السرقات العلمية والأدبية الموثقة”، ومن ثم إبراز الحقائق بنسبة الأعمال إلى أصحابها، وإيقاف كل ما من شأنه قتل روح الإبداع والتنافس الأكاديمي، والبحثي الجاد. فلقوة التأليف وجَوْدته يد مشهودة في ازدهاره ورقيِّه.
والخلاصة: السرقات العلمية قضية هامة و”شائكة”، وحظ من (العلم) مسروق. لكن فداحة أثره العلمي، والبحثي، والثقافي والفكري، والمعنوي، والمادي ليس بالأمر الهين. وهو يتعدى نطاق الجامعات، ومراكز البحوث، وأروقة الفكر والأدب والثقافة إلى بنية المجتمعات وتقدمها ورقيها.