يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾(سبأ:14).
حينما نطالع الآيات الواردة في القرآن عن الحشرات بهذا الخصوص، فإننا نجد حكمة أخرى لها بالحكمة السابقة وثيق الصلة، فالله جعل هذه المخلوقات جندًا من جنوده: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾(المدثر:31)، ينصر بها رسله وأولياءه، ويذل بها ويُرغِم أنوف أعدائه.
صحيفة المقاطعة
ورد في الصحيحين وغيرهما: “أن قريشًا لما بلغهم إكرام النجاشي لجعفر ابن أبي طالب وأصحابه حينما هاجروا إلى الحبشة كبر ذلك عليهم وغضبوا على رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وأصحابه، واشطوا في معاملتهم وكتبوا صحيفة ظالمة جائرة تنص بنودها على مقاطعة بنى هاشم مقاطعة تامة فلا يناكحونهم ولا يبايعونهم ولا يخالطونهم، وعلقوا هذه الصحيفة في جوف الكعبة إشارة إلى احترام بنودها والمبالغة في تطبيقها، وكان الذى كتب الصحيفة رجل يقال له: “بغيض بن عامر” فشلت يده وحصروا بنى هاشم في شعب أبى طالب ليلة المحرم سنة سبع من البعثة، وانحاز إليهم بنوا عبد المطلب وقطعت قريش عنهم الميرة والمدد، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغوا الجهد وأقاموا على ذلك ثلاث سنين، ثم أطلع الله نبيه _صلى الله عليه وسلم ــ على أمر الصحيفة وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من ظلم وجور وبقى ما كان فيها من ظلم وجور وبقي ما كان فيها من ذكر الله ــ تعالى ــ فأخبرهم أبو طالب بذلك فارتقوا إلى الصحيفة فوجدوها كما قال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ففكوا عنهم الحصار وأخرجوهم من الشعب”.
منسأة سليمان (عليه السلام)
ولا يقتصر دور الحشرات في الإنذار والتخويف على الإنس فقط، بل يتعداهم إلى الجن، وهم من عالم ما وراء الطبيعة، فقد امتن الله على سليمان عليه السلام بتسخير الجن له، يعملون له الأعمال الإنشائية الشاقة، سواء أكانت للأغراض الحربية أو المدنية، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾(سبأ: 12:13).
فكانوا يدعون علم الغيب، فأراد الله أن يبطل دعواهم ويرد كيدهم إلى نحورهم، فلما استعملهم سليمان في بناء بيت المقدس وحان أجله وأعلمه الله به سأل ربه أن يعمي عنهم موته حتى يفرغوا من البناء ولتبطل دعواهم علم الغيب، فقام يصلي متكئًا على عصاه في مصلاه، فقبضت روحه وهو متكئ عليها، فبقي كذلك، وهم فيما أمروا به من الأعمال حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتًا، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه كلما صلى. وهكذا ظل الجن مسخرين يعملون في بناء بيت المقدس معتقدين أن سليمان عليه السلام ما زال على قيد الحياة حتى ظهرت الحقيقة على يد دويبة صغيرة هي الأرضة التي تسللت إلى المنسأة “العصا” التي كان يتكئ عليها فأكلت منها حتى ضعفت عن حمل جسده فخر على الأرض ميتًا، عندئذ أدرك الجن زيفهم وأنهم لا يعلمون من الغيب شيئًا الأرضة (دابة الأرض) دويبة بيضاء تشبه النملة، تظهر أيام الربيع وهي تأكل الخشب ونحوه، وتحفر فيه لتتخذ منه مأوى وطعامًا في آن واحد ولذا تعرف باسم “ناقرات الخشب” أو القادح ومنها “القرضة”، العثة، زنابير الخشب، ويرقات الفراشة الماعز، ويرقات الخنافس لأنها لا تقوى على التعرض طويلاً لأشعة الشمس ولذا نجدها قبل غزو الخشب تتحرك في أنفاق طينية طويلة تصنعها الشغالات.
ناخرات الخشب
تشكل ناخرات الخشب أعدادًا كبيرة من الحشرات توضع في مجموعات تصنيفية مختلفة ومتعددة وتضمها صفة أنها تأكل كلها تعيش على أخشاب الأشجار طعامًا ومأوى.
وتحمل هذه الحشرات في جهازها الهضمي عددًا من الطفيليات من البكتريا والطلائعيات – الحيوانات الأولية وحيدة الخلية الحاملة لنواة محددة – التي تتعايش معها لتعينها على هضم المواد الخشبية من السيليلوز واللجنين وتحولها إلى مواد صالحة لطعام هذه الحشرة.
وأغلب ناخرات الأخشاب هي من اليرقات التي يتحول الكثير منها إلى الحوريات ثم إلى الحشرات البالغة، بعد فترات متباينة لنموها في داخل الخشب تتراوح بين السنة وأكثر من عشرين عامًا.
ويرقات ناخرات الأخشاب تشكل جزءًا مهمًّا من غذاء الطيور المعروفة باسم “نقار الخشب” الذي ينقر في أخشاب الأشجار المصابة فقط لاحتوائها على يرقات غضة من يرقات الحشرات، الناخرة للأخشاب، والتي تتعرف عليها مثل تلك الطيور بوجود الثقوب التي تحدثها، وتراب الخشب الذى تقذف به إلى خارج جحورها بعد أن تهضم ما فيه من مواد غذائية.