هكذا يكون ذكر الله

يكاد الواحد منا عندما يسمع كلمة “ذكر الله” أن ينصرف فكره إلى نوع من أنواع الأذكار المعروفة والتي تكون لها صيغة معلومة مرتبطة بزمان ومكان معينين، بل قد يكون منا من يعتبر ذكر الله منحصرًا في المسجد أو الزاوية. 

إن التأمل في النصوص الشرعية، يجعلنا نعيد النظر في طريقة فهمنا لجل القضايا والمواضيع، بما في ذلك “ذكر الله”، ذلك أن الإنسان يصاب بالغفلة عندما يكتفي بما تعلمه ظنًّا منه امتلاك الحقيقة بذلك، وعليه، كان لزامًا إعادة البحث في أي فعل نأتيه حتى نجدد المفاهيم ونعطي لأعمالنا طاقة جديدة قد تمنع الملل من التسلل إلينا إن سكنا على حال واحد، ولهذا، فإننا مطالبون بالتجديد في أمورنا العادية، التي هي من ديننا أصالة.

حول مفهوم ذكر الله

إن ذكر الله على أصناف متنوعة، ويكفي الإشارة إلى نوعين: الذكر الخاص والذكر العام.

الذكر العام هو ذلك الذكر الذي سنتعرف عليه في ورقتنا هذه، أما الذكر الخاص، فيقصد به كل فعل أو عمل ورد فيه نص خاص، وهو بدوره يضم أقسام كثيرة، نجد فيه ما هو مخصوص بزمان أو مكان معين، وقد يكون غير ذلك.

على سبيل المثال: إن أركان الإسلام من ذكر الله، بالمفهوم العام للذكر الخاص، ولكن ليس كأي ذكر آخر، فلكل ركن وقته الخاص ولا يمكن تأجيله أو إتيانه إلا وفق شروطه، وقد يكون سببًا لتوقيف أنواع أخرى من الذكر، حيث لا يمكن بحجة ذكر الله أن نستغفر الله في وقت وجبت فيه الصلاة المفروضة، ولا أن نتصدق  ونحن ما زلنا لم نؤدِّ حق المال المفروض، كما أنه لا يمكن صيام يومي الاثنين والخميس في شهر رمضان وتأجيل رمضان إلى غير شهره، ولا أن نصوم في أيام التشريق بحجة ذكر الله، بينما المقام يقتضي ذكر الله بالأكل والشرب كما جاء في الحديث: “أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله”، وهكذا مع جميع أنواع الذكر.

لكن، فضلاً عن هذا الذكر المخصوص، نجد هناك نوع آخر من الذكر الخاص والمتمثل في بعض صيغ الذكر، ومنها صيغ تلي الإتيان بالصلاة مثلاً، ومنها ما ليس مخصوصًا بوقت معين وإنما جاز للمرء فعل ذلك متى أراد، وهذا بالذات هو الذكر الذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عنه والأكثر استعمالاً من رواد الزوايا الصوفية بشكل خاص.

محاولة التأمل في بعض الآيات القرآنية

يقول سبحانه وتعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُواْ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ، أَوْ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ، وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”(الأعراف: 174-172).

إن التأمل في هذه الآيات الكريمة، هو الذي يأخذنا إلى تصور بداية قصة الإنسان والتعرف على ماهيته، حيث نجد أن منطوق الآية الكريمة يؤكد على أن الإنسان شهد وأشهد الله على شهادته، بل أخبرنا الله عز وجل أن الإنسان تلقى خطابًا إلهيًّا، في عالم الغيب عن قرب واتصال، وما كان من الإنسان إلا الإقرار، عن يقين، بالله سبحانه وتعالى، غير أنه ليس بالضرورة معرفة كيفية وقوع ذلك وما آلياته، لصعوبة تصور المشهد الغيبي، إلا أنه وقع الإقرار بحق.

بذلك الإقرار والشهادة، صار الإنسان، بعدما انتقل إلى عالم الشهادة، يسعى إلى تحقيق هذه الشهادة، عبر النطق بها في هذا العالم المادي، بل لا يكفيه القول فقط، وإنما وجب السعي لإدراك المشهود به، وهو سبحانه وتعالى، وإدراك ربوبيته وألوهيته، لأن روحه في عالم الغيب، أدركت وشهدت وأقرت بربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى.

مما يزيد الإنسان في عالم الشهادة إلى ضرورة تحقيق توحيد الله في ربوبيته وألوهيته هو أنه اختار حمل الأمانة المعروضة على الموجودات، وأُخذ منه الميثاق بذلك، ويعتبر الميثاق الثاني، بعد ميثاق الشهادة الذي مر معنا، يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، ليُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ، وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًۢا”. (الأحزاب: 73-72).

عند التأمل في الآيات الكريمة أعلاه، نجد أن الإنسان قَبِل الأمانة عن اختيار وحرية، فضلاً عن اعترافه أن الله هو المالك وحده، وأن الملك لله وحده لا شريك له، وأن من الأمانة أداء الأمانة بأمانة، ووفق ما عرض عليه.

ومن المعروف، عند تفسير المصطلحات القرآنية أن يقع الاختلاف بين أهل العلم، غير أننا لن نتطرق لذلك، وسنحاول الأخذ بالمعنى العام والذي تحتمله هذه الآيات الكريمة دون تكليف.

بما أن الإنسان قَبِل أخذ الأمانة، فإن الواجب عليه أداؤها على أفضل وجه، والالتزام بما واثق الله عليه، وإلا اعتُبر خائنًا للعهد، وعليه، فإن من الأمور المستنتجة من خلال هذه الآيات الكريمة هي أن الأمانة تقتضي:

أولاً: ألا يعتقد المستأمن امتلاك الشيء المؤتمن عليه، فضلاً عن حفظه عند التصرف فيه، بمعنى أنه عند كل حركة يجب أن يتذكر أن الله هو المالك وحده، ويجب التصرف وفق ما يرضيه، حتى لا يسقط المرء في خيانة الأمانة ومحاولة حيازة ما لا يحق له حيازته لأنه ليس من ملكه، وقد سبق أن أقر أنه ليس له ولن يكون له يومًا، قال تعالى: “أَءِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ، قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ”.

ثانيًا: إن الإنسان عند القيام بهذه الأمانة وفق ما واثق الله عليه، فإنه يكون بذلك قد أدى ما عليه، وصار ينفذ المهمة التي من أجلها خُلق الإنسان: يقول سبحانه وتعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”.

في محاولة ربط الأمانة بذكر الله

إن الإنسان عند قيامه بأي فعل، لا بد له من تذكر أنه من باب أداء الأمانة، وأن هذا الأداء ما هو إلا عبادة الله عن اختيار، بعدما اختار، بكل حرية في عالم الغيب، أداءها.

وللفيلسوف طه عبد الرحمن كلام في غاية الأهمية، في مؤلفاته الأخيرة، لاسيما كتابه “دين الحياء”، وهو يعرف الأمانة، حيث يقول: “إن الأمانة هي العبادة التي يأتيها الإنسان باختياره، ولا يدعي حيازتها لنفسه”، ولقد حاولنا استثمار بعض المفاهيم التي أبدعها، في معالجة موضوعنا، لكن بنوع من التصرف.

غير أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لا يأتي بالأمانة كما ينبغي، فينسى، بل إن أول بلاء ابتلي به الإنسان هو النسيان، يقول سبحانه وتعالى: “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا”. لكن إصراره على النسيان هو ما يشكل الخطر ويعرضه لخرق ميثاق الأمانة، ما يجعل وجوب التذكر، قال تعالى: “وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ”.

ولكن الإنسان، في كثير من الأحيان، يتماهى في النسيان ويبلغ أقصى مداه، فلا يعود يذكر أنه مخلوق، يا ليته ينسى ويقف عند حد نسيانه، وإنما يمكر ليل نهار من أجل أن يرى غيره ينسى، متوسلاً بكل أدوات النسيان، ترغيبًا وترهيبًا، حتى أضحى يعلن، بغير حق ولا حياء: أنه لا يطيق ذكر الله، مما يفسر ظهور مخلوقات عجيبة تضجر من رؤية من يذكرون الله، ولا يرتاح لهم بال إلا بعد رؤية البشرية غارقة في النسيان، ولهذا لن ينجو الناسي من عقاب الله، يقول تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى”، ويقول أيضًا سبحانه: “وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا”.

في المقابل، وجب على الذاكر، أي الذي لم ينس ميثاق الشهادة والأمانة، تذكير غيره، لأنه واثق ربه على أداء الأمانة، أو قل عبادة الله، قال تعالى: “ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”، ومن عبادته أن يُذَكِّر أخاه الإنسان، اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ”.

إن الإنسان ما عليه إلا مجاهدة نفسه لذكر الله، ولا نقصد هنا الذكر بمفهومه الخاص والضيق كما ذكرنا في التقديم، ولو أن المرء مطالب وجوبًا به، من خلال مفهومه الخاص، غير أن الارتقاء للدرجات العليا يستوجب ذكر الله بمفهومه العام والواسع، وبهذا يمكن فهم الحديث الشريف: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، بمعنى أن يذكر الله ويتذكره، كما رآه في عالم الغيب وهو يشهد بألوهيته وربوبيته، والمسلم كل غايته أن يكون عبدًا مخلصًا ومجتهدًا في العبادة، حتى إن نسي مرة، وأنساه الشيطان ذكر ربه، تذكر وسارع إلى التوبة والاستغفار.

ولذلك فإنه لا يمكن للمسلم أن يؤتي عملاً مهما كان دون أن يربطه بذكر الله، ومن المؤكد أن ذكر الله باللسان أمر واجب ولا جدال في ذلك، غير أنه لا يكفي وحده، لأن نسيان الله قد يعتري أعمالنا ونحن نذكر الله باللسان، ولعل خير دليل على ذلك، هو أن يأتي أحدنا ذكر الله من خلال أسمى العبادات وهي الصلاة، ولكن في المقابل يبتغي من ذلك ثناء الناس وشهادتهم، ويسقط في نسيان الله وهو يأتي أجمل صيغ ذكر الله، وهكذا يمكن إسقاط الأمر على كل أفعالنا، لأن ذكر الله يقتضي توحيد الله والتوجه إليه وحده دون أن نشرك به أحدًا، لاسيما أننا نعلم جميعًا بأن الرياء من الشرك الخفي كما جاء في الحديث الشريف.

وبالتالي، لا يمكن للمسلم أن يخلو عمله من ذكر الله، مهما صغر، في كل حين، لأنه يحاول قدر الإمكان الوفاء بميثاق الأمانة، وعليه يستحيل القبول بالفصل بين الدين والحياة، على جميع المستويات.

وخلاصة القول هي أن الإنسان في هذا العالم الدنيوي، ما هو إلا منفذ للأمانة، التي قَبِل بها في الأزل، بينما أبى غيره حملها، بمعنى أنه مطالب بذكر الميثاق الذي بينه وبين خالقه، وأن إسلامه لن يتحقق إلا بتخلصه بشكل كلي من نزعة الملكية مع تسليمه التام، وجهه لله.

تطبيقات مفهوم ذكر الله

متى ما أدرك المرء أن هذه الحياة فرصة لذكر الله، حتى يصير أسعد الناس، وتمنى لقاء ربه الذي خاطبه في عالم الغيب وأقر بوحدانيته،  يقول تعالى: “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ”، بمعنى أن الطمأنينة لا يمكن إدراكها إلا بذكر الله، ولو كان هذا الذكر، في الظاهر، سببًا لحصول الآلام والمشاكل، غير أن في حصولها لذة لا يدركها إلا من أدرك حقيقة ذكر الله، قال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ”، وعليه، فإن الاعتقاد أن الذكر يقتصر على الذكر بمفهومه الخاص اعتقاد غير سليم، لأن مثل هذا الذكر وحده، حتى وإن كان يعتبر من ذكر الله، لا يُمَكِّن المرء من تحقيق عبودية شاملة لله.

وتطبيقًا لهذا المفهوم العام للذكر وفي ضوئه، يمكن فهم مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بشكل مغاير ومستوعب لمفهوم الأمانة التي تُغفل، من طرف كثير من المهتمين والباحثين، عند تفسير أو تأويل بعض النصوص الشرعية، وكما يقال بالمثال يتضح المقال، سنشير إلى فهم بعض الأحاديث الشريفة حتى يتجلى لنا المعنى المقصود:

– (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِيْنِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ)،

– (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ)،

ولعل فهم هذين الحديثين في ضوء ما سبق، يدلنا على أن الزمن الذي نعيشه أو الذي سيأتي بعده أصعب حالاً من سابقه، حتى أن المرء مهما حاول التمسك بدينه، أي بذكر الله في كل حركاته، وجد صعوبة واستحال التزام المنهج السليم في كثير من المعاملات، بمعنى يصعب عليه ذكر الله كما ينبغي، أما لو كان الأمر متعلقا بإقامة الصلاة فقط أو ذكر الله بالصيغ الخاصة، كالتي يأتيها المسلم باللسان منفردًا، لما احتاج الرسول عليه الصلاة والسلام التنبيه إلى ذلك الزمن الذي يستحيل مع القابض على دينه إتيان ذلك، فذكر الله بشكل فردي سهل التحقق في أي وقت كان، غير أن ذكر الله في التجارة أو العمل أمر صعب إن فشت في المجتمعات المعاملات المحرمة، التي تنسي المرء ربه وتُنسيه الميثاق الذي شهده في عالم الغيب.

وهكذا، فإن الالتزام في زمن الفتن بالذكر والمرء يمارس وظيفته، دون الإخلال بقيمه الإسلامية أصبح غاية صعبة المنال، غير أن المجتهد في ذلك يشعر بطمأنينة قلبية ولو بدا في نظر الجميع متخلف أو متزمت ومعقد، لأن بذكر الله تطمئن القلوب، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28).

لذلك يمكن الجزم بأن ذكر الله لا يمكن له أن يفارق أعمال المسلم في أي وقت وحين، لأن حياته كلها أمانة تندرج ضمن الميثاق الائتماني، ولا تقبل إلا الشعور بالأمانة في كل حركة مهما بدت حقيرة، أي التصرف في الأشياء الصغيرة والكبيرة على أنها أمانة وليس مِلكًا له أو لأحد آخر، مما يجعلنا، لا نجد حرجًا في التأكيد على استحالة فصل الدين عن الحياة أصالة، وفصله عن السياسة تبعًا، بل ولا يمكن حتى التمييز بينهما، بحجة أن الدين يقتضي أمورًا والسياسة تقتضي أخرى، أما من ظن يومًا أن السياسة يجب تمييزها عن الدين، بمعنى تمييزها عن ذكر الله، فهو في بداية التأسيس لعلمانية جزئية نهايتها ستكون الاعتقاد بالعلمانية الكلية لا محالة.

  • ختامًا:

لا بد من ربط كلامنا هذا بما بدأنا به، وهو أن فهم ذكر الله بشكل أعم، سيساعدنا على فهم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا النصوص الشرعية في مجملها، حتى إن انتهينا إلى إدراك أن وجودنا في هذه الدنيا أمانة سبق أن قبلنا بها بكل حرية، استطعنا توسيع مداركنا في فهم كثير من الآيات القرآنية التي اكتفينا، يومًا ما، بفهمها بشكل محدود.

وبينما كان بالإمكان أن نكون مثل المخلوقات الأخرى تنتهي مهمتها بانتهائها من هذه الدنيا، صرنا بكل حرية أصحاب أمانة، توجب علينا الاستحياء من الله وذكره في كل وقت وحين، ولن نجد من معين على ذلك خيرًا من دراسة السيرة النبوية، التي تعتبر عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة، في مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه خير من ذكر الله، في العالمين، حق ذكره، وما علينا إلا الاقتداء به، وباتباعه نكون قد ذكرنا الله كما ذكره.