الاستياء الحقيقي وأثره في الحياة الاجتماعية

العمل الذي يُكسب ثواب العبادة

لنقف قليلاً عند الاستياء الحقيقي: فأحيانًا يقوم مَن حولنا بتصرُّفات تدعو بالفعل إلى الاستياء والامتعاض، ولكن ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر هنا هو أن نسعى جاهدين للإعراضِ عن الاستياء والتخلص منه، حتى وإن كان هذا الأمر مخالفًا لمشاعرِنا، وعلينا ألا ننسى أن عدم استياء الإنسان في موطن هو أدعى للاستياء يُكسبُ الإنسانَ ثوابَ العبادة؛ لأن هذا الشخص يتصارع مع نفسه، ويتمرّد على فوران صدره وغليانه، وفي النهاية يعطي إرادته حقّها، وقد ذكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي ثلاثة أنواع للصبر؛ منها الصبر على البلايا والمصائب، ويمكن القول هنا في طمأنينةٍ تامّة أن الصبر في مثل هذه المسألة يُكسِب الإنسانَ ثوابَ العبادة؛ لأن التغلُّب على الاستياء يندرج ضمن قائمة الصبر التي ذكرها الأستاذ النورسي.
أجل، علينا أن نعتبر كلَّ استياءٍ مصيبة من المصائب، لا بدّ من الصبر عليها وتحملها، فلا نستاء من الآخرين وإن أساؤوا إلينا، ولا نتأذّى وإن آذونا؛ لأننا إن لم نعاملْهم بالمثل وتصرَّفْنا معهم بمرونة ولينٍ ووجدنا طريقة فاحتضنَّاهم حتى وإن آذونا أو جرحوا مشاعرنا فلا شكّ أننا بذلك نكون قد قدّمنا تضحيةً عظيمة وأسدينا خيرًا كبيرًا للدين وللإنسانية.

أثرُ الاستياء في الحياة الاجتماعية

أمّا عن أثر الاستياء في الحياة الاجتماعية فنقول: قد يقع استياءٌ وامتعاضٌ وخلافات جمّة بين ذوي الآراء المتعددة، ولا سيما في الحياة السياسية، وأكثر ما يُشعل فتيلَ هذه المشاعر السلبية هو حبُّ المقام والمنصب والجاه والسلطان، حتى إنه قد يحدث أن يتفوّه الشخصُ بكلامٍ لا يليق، أو يُدلي بتصريحات تخالف الواقع؛ بغية أن يُضني ويسحق معارِضه؛ فيؤدِّي هذا إلى امتعاضٍ واستياءٍ كبيرين، بيد أن الإنسان إن لم يتحرّك من منطلق حب المقام والمنصب فسيلحظ أن هناك ساحة أو مجرى للسباق يمكن للجميع أن يتسابق فيه ويؤدّي مهمته في سبيل خدمة الأمة والإنسانية.
أجل، إننا جميعًا أبناء الأمة الواحدة يمكننا أن نسعى في سبيل مصلحة ومنفعة هذه الأمة وأن نسلك اتجاهًا واحدًا ونتكاتف ونتضامن، ونصل إلى نفس الهدف وإن اختلف مجرى السباق الذي نتنافس فيه، ولكن لا يصلح في هذا السباق أن يتمنى المرءُ لنفسه الوصول إلى الهدف دون غيره أو يُكنّ حقدًا وضغينةً لأحد، بل ولا ينبغي لهذا أن يكون، فما نسمّيه “تنافسًا” يجب أن يستند إلى فكرة: “عليّ ألا أتخلَّف عن هذه الجماليّات، أو على الأقل يجب عليّ أن أقوم بشيء نافع مثل هؤلاء الناس الذين يسعون إلى خدمة الناس”، وعلى ذلك يصبح الطريق رحبًا، فلا يحدث خلافٌ أو استياء أو امتعاض.
وهذا الأمرُ يسري أيضًا على عمليّة القيام أو نيّة القيام بتبليغ جماليات الإيمان والقرآن إلى القلوب؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (سورة العَنْكَبوتِ: 29/69)، بمعنى أن هؤلاء لو أزالوا العوائق بيني وبين قلوب الناس، وجاهدوا لإيصال القلوب بحقائق الإيمان، فإنني سأَصِلهم بي؛ ليس من طريق واحد، بل من طرقٍ متعددة، وكما قيل: “الطُّرُقُ إِلَى اللهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ”، وبما أن الطرق إلى الله متعددة فبإمكان الإنسان إن لم يستطع أن يذهب في هذا الطريق أن يسلك طريقًا آخر.
ولننظر إلى المسألة من الناحية الصوفية فنقول: إن سبيل النقشبندية والقادرية والشاذلية والرفاعية والخالدية؛ كلها سُبلٌ توصِلُ إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ثَمّ فلا داعي لأن تكون هذه الاختلافات مثارًا للنزاع
أو الغيرة والحسد، بل يجب ألا نعطي قيمة لبعض الأفكار الهدامة، مثل: “إن هؤلاء طرقوا ساحتنا، وأخلوا بها”.
أجل، إننا كقلوب مؤمنة علينا أن نتعامل مع إخواننا بأكبر قدرٍ من السهولة والليونة، وكذلك الأمرُ عندما نطرح عليهم أفكارَنا ومشاعرَنا؛ بحيث تنزل إلى أعماقهم كاللقمة المستساغة وتدخل في قلوبهم دون استئذان.

يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ

ومع أن الاستياء فعلٌ مذمومٌ وشنيعٌ فقد يقع أحيانًا شيءٌ منه بين الأرواح التي نذرت نفسها لخدمة العلم والإنسانية، ومن ثم فإنني أرى من المفيد أن نشكِّل فريقًا يُناط به إزالة كل أسباب الامتعاض والاستياء بين أفراد المجتمع، وفي شتى نواحي الحياة الاجتماعية؛ لأن الوفاق والاتفاق كما يقول الأستاذ النُّورْسي رحمه الله هما أهم وسيلة لإحراز التوفيق الإلهي ، ويؤيد هذه الفكرةَ قولُ ربنا سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (سورة الفَتْحِ: 48/10)؛ بمعنى أن حفظ الله وعنايته ورعايته وكلاءته ولطفه وإحسانه تحيط بهم وتغشاهم من فوقهم، ويقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً يوافق هذه الآية الكريمة: “يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ” ، وفي حديث آخر يقول روح سيد الأنام صلوات ربي وسلامه عليه: “مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَم الجَمَاعَةَ” ؛ وذلك حتى لا يقع في الفرقة والاختلاف؛ لأن مَن انعزل عن المجتمع والجماعة ابتعد في الوقت ذاته عن عناية الله سبحانه وتعالى. أجل، إن هذا يعني أن مَنْ اعتزل جماعةَ الناسِ بسبب الاستياء والامتعاض والحسد والغيرة أو لأشياء لا يرتضيها ابتعد في الوقت ذاته عن عناية ربّه جل جلاله.

لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا

فإذا ما دقّقنا في كلِّ هذا تبين لنا عظم مصيبة الاستياء والامتعاض وحسن ثواب الإصلاح بين الناس والتوفيق بينهم.. فالأساس في ديننا عدم احتقار أي معروف وإن كان شيئًا بسيطًا؛ لأن الله تعالى قد يُنعم على عباده لما يقومون به من أعمال صالحة صغيرة، بأن يُسكِنهم بحبوحةَ الجنة فيتمتعون في رُبَى رؤية جمال الله بما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ الله وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا” ، فإذا ما نظرنا إلى الأحداث بهذه النظرة سنرى أنه ما من شيء بسيط في الواقع، ألم يعدّ النبي صلى الله عليه وسلم تبسُّمَ الأخ في وجه أخيه صدقةً ، والكلمةَ الطيبةَ صدقةً ، واللقمةَ يضعها الرجل في فم امراته صدقةً ، وإزالةَ الأذى عن الطريق صدقةً ؟ بمعنى أن الإنسان لو وجد حفرة في الطريق فردمها بالتراب حتى لا تسقط فيها إطارات العربات السائرة أو أزال شوكة من الطريق حتى لا تنغرز في قدم أحد فسيحصل على ثواب العبادة.. فلا قبل للإنسان أن يعرف أيًّا من هذه الأعمال البسيطة سيُسكِنه بُحبوحة الجنة.
وهنا أريد أن أروي لكم منقبةً ذات صلة بهذا الموضوع: كانت السيدة “زُبيدة” زوج هارون الرشيد امرأةً عظيمة، قدّمت للمسلمين كمًّا هائلاً من الخدمات العظيمة؛ من ذلك أنها لما سمعت أن الحجاج عند توجههم إلى عرفة والمزدلفة يحملون الماء على ظهورهم من مكة؛ بسبب ندرة آبار الماء في الطريق الواصل بين هذه الأماكن أمرت بإنشاء سبلٍ وعيونٍ وسواقٍ للماء تمتد من مكة حتى منى وعرفات والمزدلفة ؛ وتسببتْ بذلك في خيرٍ عظيم؛ حيث إنها هيأت الفرصة للملايين من الناس حتى يشربوا ويتوضؤوا ويملؤوا أسقيتهم، ولا جرم أن الله تعالى لم يضيِّع عملها سدًى.. ولقد رأيتُ هذه العيون والسواقي التي أقامتها هذه السيدة الجليلة عندما سافرت لأداء فريضة الحج في عام (1968م)، وكان العثمانيون قد دعموا طريق المياه هذا، وجعلوه تحت حمايتهم مدة مديدة.
يُروى أَن زُبيدة رَآهَا رجل فِي الْمَنَام وَهِي جالسة على كرْسِي جليل الْوَصْف، فقال لَهَا: بِمَ نلْت هَذِه الْمنزلَة؟ قَالَت: “كنت يَوْمًا أَنا وجواري وصويحبات عِنْدِي فِي انْشِرَاح وطرب فَسمِعتُ الْمُؤَذّن حِين بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ فأسكتهن هَيْبَة وتعظيمًا لله تَعَالَى إِلَى أَن فرغ فَأَعْطَانِي الله تَعَالَى مَا ترَاهُ”.
أجل، إننا لا نعلم من بين الأعمال التي تبدو بسيطة بالنسبة لنا ما هو ذو قدرٍ عظيم عند الله تعالى، كما لا نعرف أيَّ الأعمال التي يرتضيها منا سبحانه وتعالى، فتجعلنا نحظى برضوانه، ونسعد بدخول جنته.. ومن ثمَّ فعلينا أن نعمل على أداء الواجباتِ تجاه ربنا طاعةً له دون اعتبار لعظمة الأمرِ أو بساطته.