سؤال: أصبح استياءُ الناسِ من بعضهم اليوم ودوام هذا الاستياء لفترةٍ طويلة مرضًا وبائيًّا، فما الطرق الوقائية لمعالجة هذا المرض الذي قد يؤدّي إلى مشاكل شخصية واجتماعية وأسرية كبيرة؟
الجواب: الاستياءُ هو امتعاضُ الإنسان من أخيه الإنسان، ووضع مسافةٍ بينه وبينه، واتخاذ موقفٍ منه، وقطع صلته به قلبيًّا وروحيًّا وعاطفيًّا، وعدم المبالاة به في موضعٍ هو أدعى للاهتمام به.. والاستياء قد يصاحبه غالبًا سلوكيات سلبية أخرى، فمثلاً قد لا يكتفي الشخصُ المستاء من صديقه بالامتعاض فقط، بل قد يتكلّم عنه بفظاظة وغِلظة ويكيل له السباب والشتائم، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أن يغتابه، ويفتري عليه؛ بل ويفرح لِزلّته وتعثره وسقوطه.. والجانب الأخطر في المسالة أن الشخص وهو يرتكب هذه السلبيات لا يعي أنه قد وقع في خطإ وذنب عظيم بسبب أنه أوكل إلى نفسه مهمّة الدفاع واعتبر الحق معها، بيد أن كلّ هذه أفعالٌ حرمها الله، وأمور مذمومة تتسبب في خسران الإنسان في الآخرة.
ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراته لَهُما فائدة عظيمة في هذا السياق، يقول صلى الله عليه وسلم: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّام”، وهذا يعني أنه أيًّا كان قدرُ استياءِ المؤمن وامتعاضه من أخيه فعليه ألا يزيد هذا الاستياء عن ثلاثة أيام، وفي هذا الصدد أودُّ أن أقول: إن لم يرتكز هذا الاستياء على سندٍ وأساسٍ مشروع أو كما يقولون في أصول الفقه على مناطٍ سليم؛ فلا يحلّ الاستياء حتى ضمن مدة أيام الثلاثة. أجل، للإنسان أن يستاء من أخيه لمدة ثلاثة أيام فقط إذا كانت الأسباب التي تؤدي إلى الاستياء حقيقية ومشروعة، ومثل هذا الاستياء حدّده نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام؛ تهدأ فيها انفعالاتكم، وتسكن فيها مشاعركم الثائرة، وتقلّ حدة استيائكم، وفي هذه الحالة الساكنة تعيدون النظر في الأمر؛ لعل صاحبكم الذي تستاؤون منه يكون الحقُّ حليفَه، وفي النهاية تتجدَّد مشاعر الأخوّة في روحكم، وتُقرِّبون المسافة بينكم وبينه، وتُعانقونه.. وهكذا يضعُ لنا الحديثُ الشريف معاييرَ معيّنة، ويُرشدنا إلى هذا الطريق حتى ندفع عن أنفسنا الاستياءَ والامتعاض.
الاستياء الحقيقي والمجازي
ورغم أننا لم نصادف مثل هذا التعبير الذي يصنِّف الاستياء إلى “حقيقيّ” و”مجازيّ” فبالإمكان تقسيم الاستياء حسب نية الشخص ومقصده إلى هذين النوعين، ولكن وإن كان الاستياء بالمعنى الحقيقي أمرًا مذمومًا فهو بالمعنى المجازي عمليةٌ أو وسيلةٌ إستراتيجية يُلجأ إليها أحيانًا، فعلى سبيل المثال قد يتخذ الأبُ من ابنه موقفًا مؤقتًا يقول فيه: “ولدي العزيز، لم أكن أتوقّع منك هذا!؟”، فهذا يُعدّ من قبيل الاستياء المجازي، ويمكنكم أن تنظروا النظرة نفسها إلى حادثة الإيلاء التي وقعت في عصر السعادة، وهنا أستميحكم عذرًا أن أكرّر واحدةً من ذكرياتي التي طالما رويتُها أمامكم.. فقد حدث ذات مرة أن أمسكَ معلِّمتي في المدرسة الابتدائية بأذني لواقعةٍ ما، وعنّفتني قائلة: “حتى أنتَ!؟”.. أعتقد أنها لو ضربتني بالعصا ثلاثين مرة ما تأثَّـرْتُ بهذا القدر؛ لأن في مقولتها تذكيرًا بالتقديرِ الذي كانت تحمله لي والعلاقةِ التي بيني وبينها، وتنبيهًا بأنني قد قطعتُ أو سأقطع هذه العلاقة.. ربما كان موقف المعلّمة معي مجرد سلوك، لكن هذا السلوك قد أرشدني إلى خطئي، وحملني على الرجوع عنه، وهذا ما أقصدُه من الاستياء المجازي، بمعنى أن الموقف المتّزن الذي يتّخذه الإنسان تجاه شخصٍ لتحذيره وتنبيهه قد يُستخدم منهجًا للوصول إلى هدفٍ إيجابي.
حقّ الوالدين، والاستياء المجازي
غير أن هذا الاستياء يُستثنى منه الوالدان؛ لأن الحق تعالى قال في حقهما: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/23)، إنني كلّما تلوتُ هذه الآية الكريمة في الصلاة أشعرُ وكأن خنجرًا ينغرزُ في داخلي، فمَنْ يدري أيّ سلوكٍ فظٍّ سمِجٍ بدَرَ مني وآذى مَن لهم حقٌّ عليّ مثل أبي وأمي وجدي وجدتي وأختي الكبيرة وعمتي.. وكلّما أعدتُ النظر في الأمر وأعملتُ فكري في الآية يُراودني ذات الشعور المؤلم وكأن حربةً تنتهي في صدري، ولذا فإنني كلما تذكرتُ والِدَيّ أقول: “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ”.
ومن ثم فعلينا ألا نستخدم الاستياء المجازي مع والدينا وكبارنا. أجل، على الإنسان ألا يستاء منهما ألبتة؛ حتى وإن صدرت منهما أمورٌ تُسبِّب الاستياء قطعًا، وألا يؤذيهما وإن آذوه، بل على العكس عليه أن يُدخل السرور عليهما ما استطاع، وإلا سيأتي يوم يعي فيه الإنسان أنه قد أخطأ في حقّهما، ولكن حينذاك يكون الأمر قد خرج من يده وفاته القطار؛ لأن الإنسان في ذلك اليوم لا يستطيع أن يتدارك أخطاءه، من أجل ذلك عليه أن يُنظِّم حياته؛ حتى لا ينحرف ويقول في النهاية: “ليتني لم أفعل كذا وكذا.. لو أنني فعلت كذا وكذا!”؛ لأن “لو” تفتح عمل الشيطان كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أن “لو” تعني -من وجهٍ- الاعتراضَ على قدر الله، ولذا يجب على الإنسان أن يتَّخذ له رفيقًا، ينبهه ويوجهه عند الضرورة إلى الأخطاءِ التي قد تدفعه فيما بعد أن يقول “لو”، فقديمًا كان السلاطين العظام يتّخذون لهم بعض الأشخاص، وكان هؤلاء لا يعرفون لهم حدًّا في الكلام؛ فكانوا يتكلّمون بأريحيةٍ وبلا استحياء، لكن لم يكن السلاطين يتضجّرون من تنبيهاتهم وتحذيراتهم لأنهم قد أعطوا لهؤلاء الرخصةَ من قبلُ في الكلام، بل على العكس كانوا يستمعون لهم ويمتثلون لتحذيراتهم، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتخذ له أناسًا ينبهونه على الدوام، ويرشدونه إلى الطريق الصحيح، ويقومون بمقام البوصلة؛ وبذلك لا يحيد عن الجادة، ولا يقع في الأخطاء، لأن هذه الأخطاء وإن تبعها عذاب الضمير إلا أن هذا الشعور لا يمكنه أن يجبُرَ ما تمَّ كسره ولا أن يُصلِح ما يجب إصلاحه.
ولنرجع إلى موضوعنا الأصلي ونقول: من المقبول أن يكون هناك شيء من التدلّل اللطيف الذي قد يوجّهنا أو يوجّه غيرنا إلى طريق الخير، ويمكن أن نضعَ هذا الأمر ضمن قائمة الاستياء المجازي، بل يمكن أن نشبِّهه بصفعةِ الشفقة، فالوالدان مثلاً حينما يَقرُصان أذنَ ولدهِما برقَّةٍ أو يربِّتان على ظهره حتى يرجع عن الخطإ إنما يعبّران عن سخطهما من سلوكه وفعله وسيره، ومن جانب آخر يحاولان أن يُقدّما تحذيرهما وتنبيههما في غلافٍ من الشفقة، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذه سلوكيات وأساليب تحتاج إلى كثير من الممارسة والتدريب، فلِلأسف الشديد قد نرى كثيرًا من الأخطاء والخلافات بين الزوجين لأنهما لم يخضعا لتدريبٍ جدِّيّ وكاف قبل زواجهما. أجل، إنهما لا يعرفان حقوق الزوجية وحقوق الأولاد، وحقوق الوالدين وغير ذلك، ونظرًا لأنهما لا يعرفان فقد وقعا في مثل هذه الأخطاء الفادحة، من أجل ذلك فإنني أرى ضرورة أن يخضع الـمُقبلان على الزواج لتدريبٍ حقيقيٍّ على مسألة الزواج، وبعد أن يحصلا على شهادة اجتيازهما هذه الدورة التدريبيّة يُؤذَن لهما بالزواج.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.