الشيخ العلاّمة أحمد سحنون

في يوم شتوي ممطر هو يوم التاسع من ديسمبر 2003، تحالفت فيه السماء مع الأرض، فكانت السماء ترسل مطرًا غزيرًا، وكانت الأرض تحمل جهودًا باكيًا غزيرًا. كان ذلك بمناسبة وفاة أحد علماء الجزائر وبناة نهضتها هو العالم العامل بعلمه، العابد المجاهد بلسانه وقلمه، الزاهد الذائد بمهجته وروحه في سبيل الإسلام والجزائر.

الطالب اليتيم

ولد العالم العلاّمة أحمد سحنون ببلدة “ليشانة” بالقرب من مدينة بسكرة عاصمة “الزيبان” بالجنوب الشرقي الجزائري، وذلك عام 1907 ميلادي.

نشأ في بيت علم وتقى يتيمًا كنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ فقد أمه صغيرًا، فرباه والده الذي لم يتزوج بعد فقد زوجته. فوجد أحمد سحنون في والده حنان الأم المفقود وطيبة الأب المحمود، وهكذا مثَّل الأب بالنسبة لابنه الأم والأب، فكان ذلك مبعث فخر واعتزاز للابن الذي كان يقول باعتزاز وفخر “أنا رباني رجل” وأي رجل.

كان والد أحمد سحنون رجلاً صالحًا مصلحًا، قانتًا عابدًا، أكسبه القرآن الذي تخصص في تعليمه للناشئة كل التقى والورع والخشوع والتهجد، يبكي في سبيل الله كلما فاض قلبه بالورع والتقى، بكّاء كالمفكر التركي “محمد فتح الله كولن” كلما تعلّق الأمر بالتفاعل مع القرآن تلاوةً وتدبّرًا، أو فاتته فضيلة من فضائل العبادة.

ويَذكر أحمد سحنون عن والده، أنه استيقظ ذات يوم عند الفجر فوجد أباه يبكي بحرقة، فلما سأله وألح في السؤال عن سبب بكائه، أجابه والده بأنه “نام حتى أدركه الفجر ولم يؤد ركعات للقيام”.

وقد تأثر الولد لهذا المشهد، فصوره ببيت شعري قال فيه:

أنا ابن الذي يبكي إذا طلع الفجر

ولم يك أدّى ما به يعظم الأجر

إن هذا المشهد قد انعكس فيما بعد على حياة شيخنا أحمد سحنون، فكان صوامًا، يتميز بقيام الليل حتى آخر أيام حياته، كما ساعده على ذلك حفظه للقرآن في سن مبكرة وهو ابن الثاني عشرة سنة.

تميز تكوين أحمد سحنون بالعصامية، فكوّن نفسه بنفسه مستعينًا في ذلك بعلماء عباقرة من أمثال العالم المجاهد الشيخ محمد خير الدين نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسفير الثورة الجزائرية بالمغرب الشقيق، والشيخ العالم محمد الدراجي، والشيخ العالم عبد الله بن المبروك، وغيرهم.

كما ساعد على تكوينه العلمي والجهادي اتصاله بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقائدها الإمام عبد الحميد بن باديس الذي كان للقائه به أبعد الأثر في نفسه، فهو يقول: عندما التقيت بالشيخ عبد الحميد بن باديس، سألني عن الكتب التي قرأتها، فذكرت له بعض الكتب المعاصرة، ككتب المنفلوطي وأمثاله من المعاصرين، فنصحني الشيخ عبد الحميد إلى أن أعود إلى أمهات العربية الإسلامية، كالعقد الفريد، وأدب الكاتب، وعيون الأخبار، وغيرها. ومنذ ذلك اليوم عكف الشيخ أحمد سحنون على هذه الكتب القيمة.

إن هذه العوامل الأسرية والعلمية قد صقلت شخصية أحمد سحنون فطبعتها بالسر المكنون فيها، فكان صاحبها أديبًا وشاعرًا ومربيًا وداعية، يتميز في كل صفة بقوة الشخصية والصدق في أداء المهمة، والشجاعة في مقاومة العدو المستعمر الدخيل، والجهر بكلمة الحق أمام أي ظالم أو مستبد.

لقد تجلت كل هذه الخصال فيما كان يكتبه بجريدة البصائر تحت عنوانه القار “على مائدة القرآن”، أو في خطبه المنبرية التي كان يبثها من مسجد بولوغين بالجزائر العاصمة، حيث كانت الجموع الغفيرة تؤمّها لما تجده فيها من متنفس عما تعانيه من الظلم الاستعماري، فيوقظ فيها الوعي بالوطنية. وكان -مما أذكره عن تلك الخطب- أن قيِّم المسجد المتطوع آنذاك السيد المكي بوقطاية رحمه الله، يقول بعد أداء إقامة صلاة الجمعة مخاطبًا الجماهير: “لا تنسوا الدعاء لإخوانكم” يقصد المجاهدين، وهو ما كان يعتبر بحق تحديًا للقوى الاستعمارية.

وفاؤه لمنهجية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

اكتسب الانتماء إلى جمعية العلماء، الشيخ أحمد سحنون، الوعي بضرورة محاربة العدو الفرنسي المحتل، مما يعكس صلابة على مواجهة التحدي وشجاعة في مقاومة الاحتلال، وعزمًا على تعبئة الشعب لثورة التحرير الفاصلة.

يقول الشيخ أحمد سحنون بهذا الصدد: “إن كل شيء كنا نعمله لهذا الشعب وكل ما نبذله لهذا الوطن، إنما كان بوحي من روح هذه الجمعية، ووفق الخطة التي رسمتها لتطهير هذه الأرض العربية المسلمة من وجود الاستعمار، ومن سيطرة الأجنبي، ومن عار الحكم بغير ما أنزل الله”.

ويضيف في نفس السياق: “لقد كانت حركة، وكان جنود، وكانت أسلحة. كان جنود هذه المعركة، العلماء والمعلمون والطلاب، وكانت الأسلحة هي المقالة والقصيدة والنشيد والخطبة والدرس. كما كان من الأسلحة، الإيمان بالله، وبحق الشعب، والحماس لهذا الحق، والغيرة عليه، والحقد المتأجج في صدر كل مسلم عن كل ما هو أجنبي ودخيل من الأشخاص، والمبادئ، والعادات، والمذاهب”.

إن هذه الأفكار كلها يمكن تلمسها في شعر الأديب أحمد سحنون؛ ففي بداية الخمسينيات عندما أطلق الشيخ عبد الوهاب بن منصور -الذي كان أحد معلمي دار الحديث التابعة لجمعية العلماء بتلمسان وصار فيما بعد مؤرخ المملكة المغربية إلى أن توفاه الله- أطلق نداء ملحًّا إلى علماء الجزائر، وخاصة الأدباء منهم، في مقالة نشرها بجريدة البصائر بعنوان “ما لهم لا ينطقون؟”، أي ما لأدباء الجزائر لا ينطقون، رد عليه الشيخ أحمد سحنون بقصيدة معبّرة جدًّا بعنوان: “لا تطل لومي!”، يقول فيها من بعض أبياته:

لا تطل لومي ولا تطلب نشيدي

أنا في شغل بتحطيم قيــودي؟

أأغــــــنــي ويــدي مــغــلـــولـــــــة

وبـــرجـــلي قيــــود من حديـــد؟

أيـــغـــــني مـــن غــــدا مـــــوطنه

بيــن أنيـــاب ذئــاب وأســـــــود؟

أيـــغــــني مـــــن غــــدت أمـــتـه

بعد غر الملك في ذيل العبيد؟

أأغــــني وأنـــــا فـــــــي مـــأتــــم

بــعــــد دهــــر كــــله أيـــــام عــيـد؟

إلى أن يقول في ختام قصيدته:

لا أغني قبل تحرير الحــــمى

فإذا حُـــرّر، غنيت نشيـــــــــدي

لا أغني قبل أن أجني المنى

وأرى الإسلام خفاف البنود

فاعترافًا من الشيخ بفضل منهج جمعية العلماء التغييري، يقول: “إن هذا الجهد المتواضع هو من أعمال جمعية العلماء، ومن كفاحها، ومن خطواتها المباركة التي مهدت لانفجار البركان وإشعال الثورة”.

جهاد الشيخ سحنون في الثورة الجزائرية

لم يقتصر جهاد الشيخ أحمد سحنون في الإعداد للثورة التحريرية والمشاركة فيها على القلم واللسان، بل تعداهما إلى الميدان العملي.

فقد أكدت الشهادات التي أدلى بها المجاهدون الجزائريون، أن الشيخ أحمد سحنون أسس تنظيمًا فدائيًّا سريًّا، وخلية فدائية سنة 1953، أي قبل اندلاع الثورة في عام 1954، هذا التنظيم الذي ذاب في الثورة بعد اندلاعها، وكان له فضل المشاركة في الأعمال الفدائية بالجزائر العاصمة.

جاء في شهادة المجاهد حمود شايد في مذكراته: “ولما قامت الثورة ذابت تلك الجهود في ثورة التحرير، وكانت الاجتماعات تعقد في مكتب الشيخ أحمد سحنون المجاور للمسجد، أو في قاعة المدرسة التابعة للمسجد، وهذا التنظيم كان في أعضائه الشيخ أحمد العرباوي، والشيخ خالد بن يطو، وثلة من الشباب منهم مصطفى فتال، ومحمد غيبة، ومحمد طوبلت، وهؤلاء الشباب قاموا بعمليات ضد المستعمر في العاصمة، وكانوا من الرعيل الأول الذين التحقوا بالثورة الجزائرية”.

وخير ما يجسد روح الثورة التي ذكرناها، ما كتبه الشيخ أحمد سحنون رحمه الله حين قال: “وطني، إن عملي لك، ودفاعي عنك، وتحرير كل شبر من أرضك، وموتي من أجلك، ونومي في ثراك، هي كل ما يجول في رأسي من أفكار، ويختلج في قلبي من آمال، ويتردد على لساني من نجوى يتمثل في حركاتي من أعمال”.

ويضيف الشيخ أحمد سحنون في حبه المقدس للوطن: “لقد زاحمني فيك يا وطني حليف جشع، وأسير طمع، لم ينبت في أرضك، ولم ينحدر من صلبك، ولم يجر في عروقه دم أبطالك، إنما رمى به حب الاستعمار من وراء البحر، ليصبح شجى في الحلق، وقذى في العين، وكابوسًا على الصدر، فدافعته بالحسنى فلم ينفع، وقاومته بالمنطق فلم ينجح، فامتشقت السلاح، وصممت على الكفاح، وأعلنت الثورة.

ولكن كن واثقًا يا وطني، فإنني سأطهر أرضك من أقدام هذا الصقيلي الوقح، وسأعود إليك، وفي يدي نسيج رايتك، وعلى لساني نشيد حريتك، فأنعم بالاً وقرّ عينًا، ولا تكترث بأعدائك، فأنا جنديُّك الباسل، وابنك البار، وخادمك الأمين”.